الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ....
ثم يأتي حوار مع المشركين في دعواهم أن التحريم بأمر الله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ .... قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا .... ثم بيّن الله- عز وجل المحرّمات الحقيقية: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
…
ثم يسير السياق ليصل إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن إعلانات ثلاثة ثم تنتهي السورة بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ
…
إن صلة ذلك كله بقوله تعالى من سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وفي الآية بعدها وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وفي قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ .. إن صلات هذا المقطع بذلك كله واضحة لا تكاد تخفى.
فالمقطع يفصّل في محوره، وفي امتدادات محوره من سورة البقرة، والمقطع مع هذا استمرار لما قبله، إذ سبقه مباشرة الكلام عمّا حرّم المشركون من الأنعام. وهكذا سارت السورة تفصّل فيما أنعم الله على الإنسان، وكيف ينبغي أن يقابل الإنسان ذلك، وكيف سار الكافرون في طرق أخرى.
المعنى العام:
يبدأ المقطع بتبيان أنّ الله هو الخالق لكل شئ من الزروع، والثمار، والأنعام، فيذكر الجنّات المخدومة وغير المخدومة، وكلها من خلق الله، ويذكر النّخل والزرع المختلف الأكل، ويذكر الزّيتون والرمّان المتشابه في المطعم، وكيف أنّه أباح لنا الأكل من ثمره، وأمرنا أن نؤدي حقّه يوم حصاده وأن لا نسرف في الإعطاء فنعطي فوق المعروف، وكلّ ذلك تذكير بنعمه، ثمّ يذكر أنّه أنشأ الأنعام كلها لنا، فمنه ما نركب ونحمل عليه، ومنه ما نأكل ونحلب ونستفيد من صوفها لحافا وفراشا، ومن أوبارها ما نستعمله لكثير من الاستعمالات. وتعقيبا على ذكره هذه النعمة أمرنا أن نأكل مما رزقنا، وألا نتّبع خطوات الشيطان باتّباع طريقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين
حرّموا ما رزقهم الله، ثم ذكر نموذجا على اتّباع خطوات الشيطان، بذكر ما فعله العرب في جاهليّتهم، وما يفعله غيرهم أو بعضهم وما يزال. فالعرب حرّموا الأنعام، وجعلوها أجزاء وأنواعا، بحيرة، وسائبة، ووصيلة، وحاميا، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام، ثمّ ذكر أصناف الأنعام غنما، وما عزا، وبقرا، وإبلا، وأنّه لم يحرّم من ذلك لا ذكرا ولا أنثى، ولا شيئا من أولادها، وقد حرّم العرب من الذكور والإناث، وحرّموا الذكور في بعض الأحوال على إناثهم، وحرّم الهندوس على أنفسهم ذبح البقر وأكل لحمه، ولا تزال طوائف من الناس تحرّم لحم الأنثى من الغنم والماعز والبقر، ولا تزال طوائف تحرّم أكل الإبل، وكل ذلك من اتّباع خطوات الشيطان، ومن ثمّ ذكر الله- عز وجل في هذا السياق الأصناف الثمانية: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين. فمن يدّعي على الله أنّه حرّم الذكرين، أو الأنثيين أو ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فليخبر كيف حرّم الله عليهم ما زعموا. وكذلك خلق الله من الإبل ذكرا وأنثى، ومن البقر ذكرا وأنثى، فمن يدّعي أنّ الذّكرين محرمان، أو الأنثيين محرمان، أو ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإنّه يكذب على الله، ولا أحد أظلم ممّن يفتري على الله كذبا، وقد جرت سنة الله أنّه لا يهدي القوم الظالمين. فتقرّر بهذا أنّ الثمار، والزروع، والأنعام، كلها خلق الله، وأنّه خلقها لهذا الإنسان، وأن الهجوم على التحريم بغير علم كذب على الله، وهو أبلغ الظلم، وهذا كله يذكّرنا بقوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... التي هي محور هذه السورة، وبامتدادات هذا المحور في سورة البقرة: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ
وبعد هذا التقرير المذكّر بما خلق الله لنا من الزروع والثمار والأنعام، والمفنّد للهجوم على التحريم بغير علم، تأتي ثلاث مجموعات مبدوءة بكلمة (قل) وبعضها مبدوءة ب (قل) ومنتهية كذلك بآية بدايتها (قل).
تبدأ المجموعة الأولى بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله، أنّه لا يجد في الوحي المنزّل عليه حراما على آكل يأكله إلا الميتات، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله، والمراد من سياق هذه الآية الكريمة الردّ على المشركين وأمثالهم ممّن يحرّمون- بآرائهم الفاسدة- ما لم يحرّمه الله، ثمّ بيّن تعالى أنّه حتى هذه المحرّمات أباحها الله عند الاضطرار، إذا لم يتلبس آكلها
ببغي وعدوان؛ وذلك من كمال غفرانه ورحمته، هذا في كتاب الله الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا في الكتاب الذي أنزله الله من قبل فقد ذكر الله- عز وجل أنّه حرّم على اليهود كل ذي ظفر من البهائم والطير، ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل، والنّعام، والإوز، والبطّ، وغير ذلك مما سيأتي، كما حرّم عليهم شحوم البقر، والغنم، والماعز، إلا ما كان شحما في ظهر، أو شحما في حوية، وسيأتي معناها، أو شحما مختلطا بعظم فهذا مباح لهم، وتحريم هذه الأشياء لم يكن لضرر فيها، وإنما كان عقوبة لهم على بغيهم ومخالفتهم أوامر الله، من أجل ذلك كان التضييق.
إذن فذاك الذي حرّم الله في القرآن، وهذا الذي حرّم في التوراة من قبل. فمن ادّعى أنّ الله حرّم غير هذا المذكور فأين دليله؟ وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في حالة التكذيب أن يذكر بأنّ رحمة الله واسعة، ولكنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، فلا يطمعنّ أحد من هؤلاء المجرمين برحمته، ولا شكّ أنّ المشركين ليس لهم دليل على أنّ الله حرّم شيئا مما حرموا ولذلك فإنهم يفرون إلى المشيئة، ولذلك فهم يدّعون أن ما هم عليه من الشرك ومن تحريم ما حرموا إنما هو بمشيئة الله، وكونه بمشيئة الله فذلك علامة رضاه وتشريعه، وهذا ذروة التكذيب، إذ بهذا الزعم يكون كل ما فعله البشر شرعا لله، وبالتالي فليس هناك حاجة للرسل، وفي هذا تكذيب للرسل في كل ما جاءوا به.
ولذلك بيّن الله تعالى- بعد أن ذكر شبهتهم هذه- أن تكذيبهم هذا ليس جديدا، بل إنّ من قبلهم كذبوا مثل تكذيبهم حتى جاءهم العذاب. ثمّ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: هل عندكم علم بأن ما فعلتموه هو محلّ الرضى من الله؟ فإن كان فأظهروه وبيّنوه وأبرزوه، وما دام ليس عندهم علم فهم إذن لا يتّبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد، وهم كذبة على الله فيما ادّعوه، وإذ قامت عليهم الحجة فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أن لله الحجة البالغة، فلو شاء لهدى الجميع، ولكن له حكمه، وله المشيئة المطلقة، ولا يسأل عما يفعل، وإذا لم يثبت التحريم، لا في الوحي الجديد، ولا في الوحي القديم، وليس عند هؤلاء علم يدلّ على أن ما حرّموه فيه مرضاة الله، لم يبق إلا أن يطالبوا بإحضار الشهداء الذين يشهدون أنّ الله حرّم ما حرّموه، ولنفرض أنهم قدّموا شهودا فماذا يكون الموقف؟ الموقف أن يرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادتهم لأنهم شهود زور كذبة، وألا يشهد معهم، وألا يتّبع أهواء المكذبين لآيات الله، الكافرين بالآخرة، الذين يجعلون لله عديلا وشريكا. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من هذا المقطع. ومن النقاش الطويل لموضوع تحريم بعض الأنعام ندرك كم لقضية التحريم من
الأهمية في هذا الدين، وندرك موضع هذا المقطع ضمن السياق العام الدائر حول محور قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإن يدّعي أحد حق التشريع المطلق فذلك صرف للأمور عن مواضعها وانحراف. ثم تأتي المجموعة الثانية المصدّرة بكلمة (قل) وإذا كانت المجموعة الأولى تناقشهم فيما حرّموه ممّا لم يحرم، فإن المجموعة الثانية تفصّل ما حرّم الله، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدّد لهؤلاء المشركين وغيرهم المحرمات- حقيقة- عند الله في كتابه القرآن، وفي دينه الإسلام، وفي وحيه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم: 1 - الشرك 2 - عقوق الوالدين 3 - قتل الأولاد خشية الفقر 4 - قربان الفاحشة ما ظهر منها وما بطن ويدخل في ذلك الزنا 5 - قتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحق 6 - أكل مال اليتيم 7 - بخس المكيال والميزان 8 - شهادة الزور 9 - نكث العهد 10 - الانحراف عن صراط الله.
وبعد أن فصّل الله عز وجل المحرّمات، عطف بالثناء على التوراة ورسولها، واصفا موسى عليه السلام بالإحسان، وواصفا التوراة بالكمال والإحاطة رحمة بمن أنزلت عليهم، وهداية لهم؛ من أجل أن يؤمنوا حق الإيمان، وذكر التوراة في هذا السياق يشعر أن ما حرّمه الله على هذه الأمة في هذا المقام كان محرّما في التوراة. وبعد أن أثنى على التوراة، ورسولها، أثنى على هذا القرآن الذي أنزله، ووصفه بالبركة، وأمر عباده باتّباعه، وبتقوى الله؛ لعلهم يستحقون رحمة الله، ثمّ خاطب العرب خاصّة، مبينا لهم أنّه أنزل هذا القرآن عليهم، وبلغتهم؛ لينقطع عذرهم؛ ولئلا يقولوا إن كتب الله قد أنزلت على اليهود والنصارى من قبل، وما كنا نفهم ما يقولون، لأنهم ليسوا بلساننا، ونحن في غفلة وشغل عمّا هم فيه، فبهذا الإنزال قطع الطريق على تعلّلهم أن يقولوا: لو أنّا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنّا أهدى منهم فيما أوتوه، فها قد جاءهم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي، قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام، وهدى للقلوب، ورحمة من الله لعباده، فمن أظلم بعد ذلك ممن اجتمع له تكذيب آيات الله، والعزوف عنها، وصدّ الناس عنها. هؤلاء سيجزيهم الله على فعلهم أشدّ العذاب. وبهذا البيان لم تبق حجة لتحريم ما لم يحرّمه الله. وبهذا التّهديد بالعذاب ندرك خطورة التحريم القائم على الهوى؛ لأنّه لا يعني إلا التكذيب لله ولرسوله ولكتابه، وإلا الصدّ عن سبيل الله، وحتى لا يستبطئوا العذاب ذكّرهم بالساعة وأشراطها، وأنّهم يوم يشاهدون القيامة، أو بعض أشراط يوم القيامة، لا ينفع الإنسان الإيمان وقتذاك أي: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه، فأمّا من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير