الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته، وله الحكمة التامة في ذلك كله؛ إذ الأمر أمره، والقهر قهره، ولا يكون شئ في ملكه إلا بمشيئته، وإذ كان الأمر كذلك فدع يا محمد، ثم يا مسلم هؤلاء واجتنبهم وما هم عليه، واحمد الله على الهدى، فسيحكم الله بينك وبينهم، وكما أخطئوا في ما مرّ أخطئوا كذلك بأن شرعوا لأنفسهم فجعلوا أنعاما وحرثا محرّمة إلا على من شاءوا، وجعلوا أنعاما محرّمة على الرّكوب، وجعلوا أنعاما لا يذكر عليها اسم الله لا إن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا أن حملوا، ولا إن نتجوا، وكل ذلك افتراء على الله وكذب عليه منهم في إسنادهم ذلك إلى شرع الله ودينه، فإنّه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم، ولذلك هدّدهم بأنّه سيجزيهم بما كانوا يفترون عليه ويسندونه إليه فيعذبهم. وكما أخطئوا في هذا كله فقد أخطئوا في تشريعهم لأنفسهم تحريم اللبن على الإناث وتحليله للذكور، وجعل ولد الشاة إن كان ذكرا للذكور فقط، يذبحونه ويأكلونه، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، وكل ذلك من عند أنفسهم، وسيجزيهم الله على هذا الكذب، ومجازاته لهم هي عين الحكمة وهو العليم بأعمال عباده، من خير وشر، وسيجزيهم عليها أتم الجزاء، وبهذا تمّ المقطع معرّفا على الله، مبيّنا عقائد وأفعالا للكافرين ورادّا عليها.
كلمة في السياق:
يتألف هذا المقطع من مقدمة وثلاث فقرات، كل فقرة مبدوءة بفعل ماض يتكلم عن الكافرين: وَجَعَلُوا، وَأَقْسَمُوا، وَجَعَلُوا.
المقدمة تحدثت عما فعله الله لهذا الإنسان، والفقرة الأولى تحدثت عن اتخاذ الإنسان شريكا لله، والفقرة الثانية تحدثت عن دعوى الكافرين أنهم يؤمنون لو جاءتهم آية، والفقرة الثالثة تحدثت عن بعض ما شرعه الكافرون لأنفسهم في اثنتين من أكبر نعم الله على الإنسان: الأنعام والحرث.
فالمقطع في سياقه شديد الصلة ببعضه، وهو شديد الصلة كذلك بمحوره من سورة البقرة- كما رأينا وكما سنرى- شديد الصلة فيما قبله وما بعده من سورة الأنعام.
المعنى الحرفي:
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى الفلق: الشّقّ، والمعنى: فلق الحب عن السنبلة، والنواة عن النخلة. فهو فالق الحب والنوى بالنّبات والشجر يُخْرِجُ الْحَيَ
مِنَ الْمَيِّتِ. أي: يخرج النبات الغض النامي من الأرض الميتة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ كما هو مشاهد، ويمكن أن نفهم النصّ على أنّه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر. وهذا لفت نظر إلى قدرته على بعثهم؛ فالذي خلق هذه الأشياء قادر على بعثهم ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. أي: ذلكم المحيي المميت القادر هو الذي تحقّ له الربوبيّة فكيف تصرفون عنه وعن الإيمان به وعن توليه بعد وضوح الأمر
فالِقُ الْإِصْباحِ. أي: شاقّ عمود الصبح عن سواد الليل، أو خالق نور النهار وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً. أي: مسكونا فيه، يسكن فيه الخلق عن كدّ المعيشة إلى نوم الغفلة، ويسكن فيه أحبابه عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. أي: وجعل الشمس والقمر علمي حسبان أي علمين على نوع من الحساب؛ لأن حساب الأوقات يعلم بحركتهما ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. أي:
ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير العزيز الذي قهرهما وسخّرهما، العليم بتدبيرهما وتسييرهما وبكل شئ
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ. أي: خلقها لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. أي: في ظلمات الليل في البر والبحر، أو في مشتبهات طرق البر والبحر قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. أي: قد بيّنّا الآيات الدالّة على التوحيد لقوم يعلمون
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. أي: نفس آدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. أي: فلكم مستقر في الرّحم، ومستودع في ظهور الآباء، أو مستقر فوق الأرض، ومستودع تحتها،
أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الفقه يفيد تدقيق النظر، فهو معنى أوسع من العلم، وإنما ذكر العلم في الآية السابقة، والفقه هنا لأن الدلالة هناك أظهر، وهنا أدقّ، لأنّ إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدقّ، فكان ذكر الفقه هنا والعلم هناك أوفق
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال النسفي: من السحاب مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ. أي: بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ. أي: أنبت كل صنف من أصناف النبات، فالسبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة فَأَخْرَجْنا مِنْهُ. أي: من النبات خَضِراً. أي: شيئا أخضر وهو ما تشعّب من أصل النّبات الخارج من الحبّة نُخْرِجُ مِنْهُ. أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل الذي تراكب حبّه وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ القنوان جمع قنو:
وهو العذق، والدانية القريبة من المجتني إما لثقل حملها، أو لقصر ساقها، وذكره ذكر لما يقابله، وهو غير الدانية، والمعنى: وقنوان دانية حاصلة من النّخل من طلعها
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ. أي: وأخرجنا كذلك بالمطر جنات من أعناب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ. أي: وأخرجنا بالمطر الزيتون والرّمّان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. أي: متشابها وغير متشابه يعني أنّ الزّيتون والرّمّان بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللّون والطّعم، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ. أي: إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفا لا ينتفع به وَيَنْعِهِ. أي: ونضجه. ومعنى الأمر:
انظروا إليه ساعة خروجه، وإلى حال نضجه نظر اعتبار واستدلال على قدرة مدبّرة ومقدّرة وناقلة من حال إلى حال إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: لآيات دالة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفترقة من أصل واحد، لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجّح ما تقتضيه حكمته، ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه، أو ضد يعانده، وبهذا تنتهي مقدمة المقطع وتعليقا على هذه المقدمة يقول صاحب الظلال:
«وبعد، فنحن- في هذا الدرس- أمام كتاب الكون المفتوح، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة، فلا يقفون أمام خوارقه وآياته، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه .. وها هو ذا النّسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود، كأنما نهبط إليه اللحظة، فيقفنا أمام معالمه العجيبة، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين!
ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار .. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموت الهامد .. لا ندري كيف انبثقت، ولا ندري من أين جاءت- إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها!
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة .. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة .. وهي خارقة لا يعدلها شئ مما يطلبونه من الخوارق .. وهي تتم في كل يوم وليلة بل تتم في كل ثانية ولحظة ..
وها هو ذا يقف بنا أمام الحياة البشرية .. من نفس واحدة .. وأمام تكاثرها بتلك الطريقة
وها هو ذا يقف أمام نشأة الحياة في النبات .. وأمام مشاهد الأمطار الهائلة والزروع