الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لا بك ولا بكتابهم كما يدّعون.
فوائد:
1 - [سبب استحقاق عقوبة عدم تطهير الله قلوب المنافقين واليهود]
في هذه الآيات الثلاث نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحزن لمسارعة نوعين من الناس في الكفر، المنافقين واليهود، ووصف لهؤلاء، ووعيد لهم بالذلّة بالدنيا والعذاب في الآخرة، وقطع رجاء المؤمنين من إيمانهم، وهذه قضية مهمة، إذ ما السبب الذي استحق به هؤلاء عقوبة ألّا يطهر الله قلوبهم؟. أمّا المنافقون فسبب ذلك سماعهم للكذب سماع قبول، وتجسّسهم لحساب أعداء الله، وأما اليهود فسبب ذلك تحريفهم كتاب الله، وإرادتهم أن يكونوا قوّاما على دين محمّد صلى الله عليه وسلم بدلا من الإسلام له، وسماعهم للكذب، وأكلهم المال الحرام، فإذا ربطنا بين هذه الآيات وبين محور السّورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أدركنا بعض الأسباب التي يستحقّ بها أهلها إضلال الله، وأدركنا بعض مظاهر الفسوق عن
أمر الله.
2 - [سبب نزول الآيات (41 - 43)]
يذكر المفسرون سببي نزول لهذه الآيات. قال ابن كثير: «وقد يكون اجتمع هذان السّببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله» . وسنؤخر ذكر أسباب النزول لكنّا هنا نذكّر في أنّ خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالعبرة لعموم اللفظ، فكل من سمع لأعداء الله وتجسس لحسابهم على أولياء الله يدخل في الآيات، وكل من حرّف كلام الله، وسمع للكذب، وأكل السّحت يدخل في الآيات، وإن كانت الآية في الأصل في اليهود، وفي وقائع من وقائعهم.
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي للحق وَنُورٌ يبين ما استبهم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. أي: انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للتبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء من ملّة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم لِلَّذِينَ هادُوا. أي: للذين تابوا من الكفر وَالرَّبَّانِيُّونَ. أي: الزّهاد وَالْأَحْبارُ. أي: والعلماء أي وهؤلاء يحكمون بالتوراة بِمَا اسْتُحْفِظُوا. أي: بما استودعوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. أي: رقباء لئلا يبدّل فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ هذا نهي لمن
يحكم، عن خشية غير الله- في حكومته، وإمضائها على خلاف ما أمر به من العدل؛ خشية من سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد، وأمر بخشية الله وحده أن يخالف أمره وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. أي: ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا وهو الرّشوة وابتغاء الجاه ورضا النّاس وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به، أو جاحدا له، أو مفضّلا غيره عليه، أو مستحلا ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وما أكثر هذا الكفر في عصرنا؟
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها. أي: وفرضنا على اليهود في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنّ النّفس مأخوذة بالنّفس مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. أي: والعين مفقوءة بالعين وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. أي:
والأنف مجدوع بالأنف وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ. أي: والأذن مصلومة بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ. أي: والسن مقلوعة بالسن وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. أي:
والجروح ذات قصاص وهو المقاصّة ومعناه ما يمكن فيه القصاص فحكمه القصاص، وإلّا فحكومة عدل فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. أي: فمن تصدّق بالقصاص من أصحاب الحق وعفا عنه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أي: فالتصدّق به كفّارة للمتصدق بإحسانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إذ لا عدل إلّا بحكم الله، فمن امتنع عن الحكم بما أنزل الله فقد ظلم
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ. أي: وجعلنا على آثار النّبيين الذين أسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي:
مؤمنا بها، حاكما بما فيها، بانيا عليها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي: الإنجيل فيه هداية وفيه نور، وهو مصدّق للتوراة غير ناقض إياها بل مصدّق لها وَهُدىً وَمَوْعِظَةً. أي: هاديا وواعظا لِلْمُتَّقِينَ لأنهم هم الذين ينتفعون بموعظة الإنجيل وهديه
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ.
أي: وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. أي: هم الخارجون عن الطاعة.
يقول صاحب الظلال: «إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد. وإذن فحاكم واحد. ومشرّع واحد. ومتصرف واحد
…
وإذن فشريعة واحدة، وقانون واحد ..
وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج، وحكم بغير ما أنزل الله، فهو كفر وظلم وفسوق .. وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده .. أمة محمد والأمم قبلها على السواء ..
ولم يكن بد أن يكون «دين الله» هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله.
وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين «دين الله» و «الحكم بما أنزل الله» لا تنشأ فحسب من أنّ ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية. وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي:«الاستسلام» . وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان .. الإسلام لله .. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه، وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم؛ ولم يردوها لله؛ ولم يطبقوها باسم الله، إذعانا لسلطانه واعترافا بألوهيته. وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية، إلا تطبيقا لشريعة الله، وتقريرا لسلطانه في الأرض. ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله- سبحانه- ورفضهم لإفراد الله- سبحانه- بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم وألسنتهم.
ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق، أخذا من رفضهم لألوهية الله، حين يرفضون حاكميته المطلقة؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله».
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. أي القرآن بِالْحَقِّ. أي: بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ، أو بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ. أي: يصدّق الكتب التي تقدمته نزولا، وإنما قيل لما قبل الشئ هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه، فما تقدم عليه يكون قدامه
وبين يديه. والقرآن مصدق لجميع كتب الله، لموافقته إياها في حال عدم تحريفها وتبديلها، ولتقريره ما دعت إليه من إخلاص العبادة والتوحيد لله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25).
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. أي: ومهيمنا على الكتب السابقة لأنه تضمّن ما تضمنته وزاد عليها من الكمالات ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله، والهيمنة يدخل في معناها الشهادة، والحكم، والائتمان. فالقرآن مؤتمن على الحق الموجود في الكتب السابقة، فكل ما خالفه مما هو موجود بين أيدي أصحابه الآن باطل، والقرآن شهيد على الحق الذي فيها، وحاكم على كل ما ينسب إليها، فهو يشهد للحق فيها بالصحة والثبات، ولغيره بالبطلان فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: بما في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ هذا نهي أن يحكم بما حرّفوه، وبدّلوه، اعتمادا على قولهم، وقد تضمّن قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أي: ولا تنحرف، فلذا عدّاه بعن، فكأنه قيل:
ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم، أو لا تنحرف عادلا عما جاءك من الحق اتباعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس شِرْعَةً. أي: شريعة وَمِنْهاجاً. أي: وطريقا واضحا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. أي:
جماعة متفقة على شريعة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. أي: ولكن أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، فتعبّد كلّ أمّة بما اقتضته الحكمة، حتى أنزل هذا القرآن فتعبّد النّاس جميعا به فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أي:
فابتدروها، وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة والمراد بالخيرات: كل ما أمر الله تعالى به في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً هذا تعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أي: فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم، ومبطلكم، وعاملكم ومفرّطكم في العمل.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هذا تأكيد للأمر بوجوب الحكم بما أنزل الله وحده وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ كائنة ما كانت هذه الأهواء، متلبسة بالدين أو بغيره وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ حذّره وهو رسول مأمون معصوم لتقتدي به أمته، ولتقطع أطماع أهل الأهواء فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحكم بما أنزل الله إليك، وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. أي: بذنب التولي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وهذا الإبهام لتعظيم التولي، وفيه تعظيم الذّنوب فإن الذنوب بعضها مهلك، فكيف بكلّها. دلّت