الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6/ 94 - 93
كلمة في المقطع:
يبدأ المقطع بالكلام عن التوحيد من خلال الكلام عن إبراهيم عليه السلام، وينتهي بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة يؤنّب فيه المشركون: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وفي وسط المقطع نرى كلاما عن دعاة التوحيد وهم الرّسل عليهم الصلاة والسلام ومن والاهم. وفي البداية والنهاية والوسط نجد نقاشا وحوارا مع أهل الشّرك والكفر ممّا يؤكد وحدة المقطع، كما يؤكد صلته بالسياق الخاص لسورة الأنعام الذي حددته الآيات الأولى فيها: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ
والمقطع يحدثنا عن كفر الكافرين بالله، وشرك المشركين به، كما يحدثنا عن حال هؤلاء الكافرين إذا رجعوا إلى الله، وذلك له صلة بمحور السورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ لاحظ قوله تعالى في المقطع على لسان إبراهيم عليه السلام إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إنّه من ملاحظة ذلك ندرك الصلة بين المقطع ومحور السورة من البقرة.
وبعد هذا الذي قدّمناه عن وحدة المقطع، ومحله في السياق الخاص لسورة الأنعام، وصلته بمحور السّورة من البقرة، فلننقل ما قدّم به سيد قطب لهذا المقطع مبيّنا وحدته وتلاحمه قال رحمه الله:
«هذا الدرس بطوله لحمة واحدة؛ يتناول موضوعا متصل الفقرات .. إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة- وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية. وما بينهما من ارتباطات- ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة .. يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه .. مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة .. ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات؛ وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة ..
والدرس- في جملته- يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح- عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية- كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين، إبراهيم عليه السلام ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة، وهي تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في أعماقها، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها .. إلى أن يخلص لها تصور حق، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق. ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس. ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟.
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول؛ يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور؛ حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له. يتناثر على جانبي الموكب الجليل، الماضي في طريقه الموصول. وحيث يلتحم آخره مع أوله، فيؤلف الأمة الواحدة، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها، دون اعتبار لزمان أو مكان ودون اعتبار لجنس أو قوم، ودون اعتبار لنسب أو لون .. فالحبل الموصول
بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم.
إنه مشهد رائع كذلك؛ يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يأتي التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا، ولم ينزل على بشر كتابا .. إنهم لم يقدروا الله حق قدره. فما قدر الله حق قدره من يقول: إنه- سبحانه- تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور. فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته، وعلمه وحكمته، وعدله ورحمته .. إنما اقتضت حكمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا، وأن ينزل على بعض الرسل كتبا، ليحاولوا جميعا هداية البشر إلى بارئها، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها، ويغلق منافذها، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها .. ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى. وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا ..
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله ..
وهي الدعاوى التي كان يدّعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة.
وفي الختام يأتي مشهد الاحتضار المكروب للمشركين:
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ* وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ! لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب، يجلله الهون، ويصاحبه التنديد والتأنيب جزاء