الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
…
ثمّ تأتي بعد هذه المقدمة فقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ
…
لاحظ كلمة (يعدلون) في الآية الأولى من السورة، والكلام عن الشركاء في
الفقرة الأولى
من القسم الثاني، لترى كيف أنّ السورة ذات سياق واحد، ولترى صحة ما اتجهنا إليه في تقسيم السورة إلى قسمين رئيسيين.
2 -
رأينا أن محور سورة الأنعام هو قوله تعالى في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
…
أنكر عليهم كفرهم مع ظاهرة الإحياء والإماتة، وأقام عليهم الحجة بظاهرة العناية، وفي مقدمة هذا المقطع تفصيل لمظاهر من خلق كل شئ لصالح الإنسان، وتدليل على القدرة بمظاهر من آثارها، فليتأمل ذلك. ولننتقل إلى الفقرة الأولى في المقطع.
«الفقرة الأولى»
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ بأن أطاعوا الشياطين فيما سوّلت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله بدلا من التوحيد والإخلاص والعبادة والشّكر التي تقتضيها عناية الله التي رأينا مظاهرها قبل هذه الآية وَخَلَقَهُمْ الضمير (هم) إما أن يعود على الجن، وإما أن يعود على الجاعلين لله شركاء. والمعنى على الأول: وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكا. وعلى الثاني: والله هو الذي خلق هؤلاء المشركين فكيف يعبدون معه غيره وهو وحده الذي خلقهم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ. أي:
واختلقوا له فنسبوا إليه بنين كالنّصارى، وبنات كقول بعض العرب في الملائكة إنهم بنات الله بِغَيْرِ عِلْمٍ. أي: جاهلين بما قالوا أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب. ولكن رميا بقول عن جهالة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ. أي: تنزّه وتقدّس وتعاظم عما يصفونه به من الشريك والوالد
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: مبدعهما على غير مثال سبق والمعنى: أن الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون له ولد أو مثل أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وهذا دليل آخر على استحالة أن يكون له ولد، إذ الولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شئ من خلقه؛ لأنّه خالق كل شئ، فلا صاحبة له ولا ولد وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِ
شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: ما من شئ إلا وهو خالقه والعليم به، ومن كان كذلك كان غنيا عن كل شئ، والولد إنما يطلبه المحتاج
ذلِكُمُ. أي: المستجمع للصفات السابقة اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ. أي: من اجتمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. أي: وهو مع تلك الصفات مالك لكل شئ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. أي: لا تحيط به وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. أي: يحيط بها وَهُوَ اللَّطِيفُ. أي: العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها الْخَبِيرُ. أي: العليم بظواهر الأشياء وخفياتها
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب، كما أن البصر أثر جهاز العين الذي به تبصر، والمعنى: قد جاءكم من الوحي والتنبيه بهذا القرآن ما هو للقلوب كالبصائر من الله- عز وجل فَمَنْ أَبْصَرَ فعرف الحق وآمن به وعمل فَلِنَفْسِهِ أبصر وإياها نفع وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها. أي: ومن عمي عن الحق وضلّ فعلى نفسه عمي، وإياها ضرّ بالعمى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. أي: بحافظ يحفظ أعمالكم، ويجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نصرّف الآيات تصريفا مثل ما تلونا عليك فنكرّرها ونؤكّدها ونوضّحها ونبيّنها وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ. أي: وليقولوا درست نصرّفها، ومعنى درست: قرأت كتب أهل الكتاب وَلِنُبَيِّنَهُ. أي: القرآن أو الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحق من الباطل
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن ولا تتبع أهواءهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولهذا فلا يجوز اتّباع غير وحيه وأمره وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بالعفو والصفح واحتمال الأذى والهجران الجميل حتى يفتح الله وينصر بقتال أو بغيره، فتقيم فيهم حكم الله وقتذاك بما يناسب ذلك الحال
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا هذا بيان أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله، ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه، ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. أي: مراعيا لأعمالهم مأخوذا بجرائمهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. أي: بموكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة لئلا يكون سبّهم سببا لسبّ الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً. أي: ظلما وعدوانا بِغَيْرِ عِلْمٍ. أي: على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ. أي: مثل ذلك التزيين الواضح البطلان، زينّا لكل أمة من أمم الكفار ما هم عليه من العمل ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ. أي: مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. أي: فيخبرهم بما عملوا، ويجزيهم عليه.
قال الألوسي بمناسبة هذه الآية:
ونقل الشهاب عن المقدسي أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة، كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي، وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع، وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه ابتلي به- كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي
منصور أنه قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه، وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا، وقتل المؤمن بغير حق منكر، وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه. وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض، وقتالهم فرض، وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه. وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ بالمتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها».
أقول: يفهم من كلام الألوسي وبعض الأقوال التي نقلها أن الطاعة إذ كانت مفروضة أو واجبة أو سنة أو مندوبة فإننا نفعلها ولا نبالي بما يترتب على ذلك، أما إذا كان أمر من الأمور مباحا ولو فعل ترتّب على ذلك مفسدة أو مصلحة فإنّه عندئذ يتردّد في هذا الأمر فإن وجدت المصلحة أقدم وهو مأجور، وإن وجدت المفسدة أحجم وهو مأجور، وإن كثيرا من الأمور تحتاج إلى موازنات كثيرة قبل الإقدام على شئ منها.