الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما كانوا يسمعون من حديث البعث: ما هو بحق قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا وأكدوا الإقرار باليمين حيث لا ينفعهم إقرارهم قالَ. أي: الله فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. أي: بسبب كفركم، وفي معرض إنكارهم لليوم الآخر يأتي في السياق مجموعتان، مجموعة تقرر جزاء من لم يؤمن بالآخرة، ومجموعة فيها تعزية وتسلية وتوجيه لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإننا نستطيع أن نقول: إن هاتين المجموعتين استمرار للمجموعة السابقة وفي موضوعها، ولكنا سنعرضهما على أنهما
المجموعة الرابعة
والخامسة.
المجموعة الرابعة
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ. أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها من لقاء الله حَتَّى هذه غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم لأن خسرانهم لا غاية له إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ. أي: القيامة لأنّ مدة تأخرهم مع تأبّد ما بعدها كساعة واحدة بَغْتَةً. أي: فجأة، والبغتة: هي ورود الشئ على صاحبه من غير علمه بوقته قالُوا يا حَسْرَتَنا هذا نداء تفجّع معناه يا حسرة احضري فهذا أوانك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها. أي: على ما قصّرنا في الحياة الدنيا أو في السّاعة، أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ. أي: آثامهم عَلى ظُهُورِهِمْ خصّ الظّهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور، كما عهد الكسب بالأيدي، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. أي: ألا بئس شيئا يحملونه، ومجئ (ألا) في هذا السياق يفيد تعظيم ما يذكر بعده
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا هذا جواب لقولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا وتقييم لها إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب: ترك ما ينفع لما لا ينفع. واللهو: الميل عن الجدّ إلى الهزل، والمعنى: ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، أو ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، لأنّها لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ. أي: ولدار الساعة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو أَفَلا تَعْقِلُونَ. قيمة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة؛ فتعملون للآخرة، وأ فلا تعقلون عن الله فتسمعون وتطيعون وتؤمنون وتتقون؟ وهكذا يتكامل الردّ على دعوى الكافرين أنه لا
معاد من خلال التذكير بحقيقة الحياة الدنيا، وستأتي المجموعة الخامسة لتكمّل الردّ، وقبل أن نعرض المجموعة الخامسة نحب أن ننقل هنا ما قاله صاحب الظلال في هذا المقام مذكّرا بأبعاد التصور الإسلامي لقضية الحياة: يقول صاحب الظلال:
«فالحياة- في التصور الإسلامي- ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.
إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد طولا في الزمان، وتمتد عرضا في الآفاق، وتمتد عمقا في العوالم، وتمتد تنوعا في الحقيقة .. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.
إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة- فترة الحياة الدنيا- وفترة الحياة الأخرى؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!. وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ دارا أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض؛ ونارا تسع الكفرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ..
وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله. وجود يبدأ من لحظة الموت، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله.
وتمتد الحياة في حقيقتها؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى .. في الجنة وفي النار سواء. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا
…
ولا تساوي الدنيا- بالقياس إليها- جناح بعوضة!. والشخصية الإنسانية- في التصور الإسلامي- يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان وفي هذه الآفاق من المكان، وفي هذه الأعمال والمستويات من العوالم والحيوات
…
ويتسع تصورها للوجود كله؛ وتصورها للوجود الإنساني؛
ويتعمق تذوقها للحياة؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها؛ بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات .. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا!
ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النظم ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج للحياة متكامل متناسق؛ وتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصورا واعتقادا، وخلقا وسلوكا، وشريعة ونظاما ..
إن إنسانا في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق، ويصارع الآخرين عليه، بلا انتظار لعوض عما يفوته ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به .. إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس!.
إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس، وكبرا في الاهتمامات، ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي خلق وسلوك، غير الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم. فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه، طبيعة هذا التصور، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته، استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله، وأنه مناط العوض والجزاء؛ وصلح الفرد واستقام سلوكه- متى استيقن الآخرة كما هي في التصور الإسلامي- وصلحت الأوضاع والأنظمة، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة فيخسرون الدنيا والآخرة.
والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا؛ وإلى إهمال هذه الحياة؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة .. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة- كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة- وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم
…
فالدنيا- في التصور الإسلامي- هي مزرعة الآخرة. والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه