الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول في السورة فصّل في مضمون محور السورة، وبنى عليه وناقش الكافرين. وبيّن الموقف الصّحيح لأهل الإيمان، وكل ذلك كان ضمن سياق السورة الخاص الذي يبدأ بالتعريف على الله عز وجل، وما تقتضيه هذه المعرفة من شكر لله عز وجل، ثم تبدأ السورة في مناقشة الكافرين، وتبيان الخطأ في مواقفهم، وتعلّم أهل الإيمان ماهيّة الموقف الحق. فإذا اتضح محل المقطع بالنسبة للسياق القرآني العام، وأن لسورة الأنعام سياقها الخاص بها. فلنبدأ بعرض المعاني العامة للمقطع الأول:
المعنى العام:
يبدأ الله عز وجل السورة مادحا نفسه الكريمة، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض لعباده، وجعله الظلمات والنور منفعة لعباده، وقد جمع لفظ الظلمات ووحّد لفظ النور لكونه أشرف، وبيّن أنّه مع هذا كله كفر به أكثر عباده، وجعلوا له شريكا وعدلا، واتخذوا له صاحبة وولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثمّ بيّن تعالى أنّه خلق أبانا آدم- الذي هو أصلنا ومنه خرجنا من طين، فانتشرنا في المشارق والمغارب. وقد قضى لكل إنسان أجله الخاص، وقدّر وقضى لهذا العالم كله أجله وهو عمر الدنيا بكمالها، ثم انتهاؤها وقضاؤها وزوالها وانتقالها، والمصير إلى الدار الآخرة.
وهذا أمر لا يعلمه إلا هو، ومع هذا فإنّ النّاس يشكّون في أمر الساعة، وقد بيّن استحقاقه للحمد، وكمال قدرته، ومظاهر هذه القدرة، ومظاهر إنعامه على خلقه، وكيف أنّه مع ذلك يشرك به من أشرك، ويشكّ باليوم الآخر من يشك، ومن هذه المقدمة ندرك أن المحور العام للسورة مناقشة الكفر وأهله، وتقرير قدرة الله، والتدليل على عنايته لاستخراج الشكر وإكمال المعرفة بالله، وهذه القضايا هي التي نجدها في آيتي سورة البقرة اللتين قلنا عنهما إنهما محور سورة الأنعام.
ثمّ بدأ الكلام بعد المقدمة مقرّرا أنه تعالى هو المدعو والمسمى الله في السموات وفي الأرض، أي يعبده ويوحّده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا، إلا من كفر من الجن والإنس، وأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سرّ وجهر، فيعلم سرّنا وجهرنا، ويعلم كسبنا وجميع أعمالنا، خيرها وشرها، وبعد أن يخبر سبحانه عن ربوبيته للسماوات والأرض، وإحاطة علمه بما فيها، يخبر عن المشركين المكذّبين المعاندين أنهّم كلّما أتتهم آية أي:
دلالة ومعجزة وحجّة ممّا يدلّ على وحدانية الله، وصدق رسله الكرام، فإنهم
يعرضون عنها، فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها. وكمثال على ذلك تكذيبهم بالقرآن الذي هو أعظم آية وأكبرها إعجازا، ثمّ هدّدهم وتوعّدهم وعيدا شديدا على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدنّ غبّه وليذوقنّ وباله، ثم قال تعالى واعظا ومحذّرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها، أعطاهم من الأموال والأولاد والأعمال والجاه العريض، والسّعة والجنود، وأكثر عليهم من أمطار السماء، وينابيع الأرض، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ليختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم.
إنّ الإنسان لو تأمّل هذا الموضوع، فتأمّل فعل الله في الأمم السالفة فإنّه يتّعظ ويؤمن، ويترك الكبر والكفر، ويعمل لله، ويعمل لآخرته، ويوقن أنّه كان واجب السابقين الشكر ولم يشكروا، وأنّ واجب اللاحقين الشكر فليشكروا، والمتأمل يرى كيف أن المقطع يسير على نسق المحور العام لسورة الأنعام في مناقشة الكافرين، بالتدليل على قدرة الله، واستخراج شكره، والتهييج على معرفته، وتقرير الرجوع إليه. ثمّ يستمرّ المقطع بالإخبار عن المشركين، وعنادهم ومكابرتهم للحق، ومباهتتهم ومنازعتهم فيه، حتى لو أنزل عليهم كتاب من السماء فعاينوه ورأوا إنزاله، وباشروا ذلك لقالوا: إنّ هذا سحر واضح، فالعلّة في كفر الكافرين إذن هي مرضهم لا قلّة الآيات ولا انعدامها، فالآيات موجودة وكثيرة، ولكن طبيعتهم الجاحدة هي التي تستكبر عن الرؤية والإيمان، وكأثر عن هذه الطبيعة الكافرة الجاحدة اقتراحهم الاقتراحات من أجل الإيمان- في زعمهم- وهم كذبة، ومن اقتراحاتهم ما قصّه الله علينا في هذا السياق أنّهم اقترحوا أن ينزل عليهم ملك من السماء ليكون مع رسول الله نذيرا. وقد ردّ الله عليهم أنّه لو نزّل الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، فتلك سنّة الله، ثمّ بين لهم أنّه حتى لو أنزل مع الرسول البشري ملكا، أي: لو بعث إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل لتمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبّسون على أنفسهم في قبول رسالة الرّسول البشريّ، فلو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور، وفي هذه الحالة يبقى الالتباس، والخلاصة أنهم اقترحوا نزول الملك وذلك يخالف السّنن؛ لأن الملك من عالم الغيب، وقد أمروا أن يؤمنوا بالغيب؛ ممتحنين في ذلك، وهم لا يقومون بواجبهم ويقترحون على الله تغيير سننه، ولو أنّه
سبحانه غيّرها لما أفادهم ذلك شيئا، لأنّ العلّة في الأصل موجودة فيهم. فالعلّة هي الطبيعة الكافرة الجاحدة، ولا شكّ أنّ اقتراح الآيات والمقترحات الفاسدة وتعليق الإيمان عليها يجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المكلّف من الله بالدعوة إليه، ومن ثمّ اتجه السياق ليعزّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ رسلا من قبله قد استهزئ بهم، فأحاط بأقوامهم العذاب ونزل بهم في النهاية، وفي هذا تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ثمّ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: أن يضربوا في الأرض معتبرين فينظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية- الذين
كذبوا رسله وعاندوهم- من العذاب والنّكال والعقوبة في الدنيا مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى رسله وعباده المؤمنين، هذا هو المعنى الأوّل الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله للناس، ثم أمره أن يوجّه لهم سؤالا، وأن يجيب على هذا السؤال، وأن يبني عليه، أمره أن يسألهم لمن ما في السموات والأرض، وأن يجيب هو على هذا السؤال بأن الله هو مالك السموات والأرض، وأن الله الذي هو مالك السموات والأرض قد كتب على ذاته المقدسة الرحمة، وأقسم بذاته المقدسة أنه سيجمع عباده يوم القيامة، وذلك من مظاهر رحمته، وأخبرنا عن هذا اليوم بأنّه هو اليوم الذي لا شك في وقوعه، ولا ريب عند عباد الله المؤمنين فيه، فأما الجاحدون المكذّبون فهم في ريبهم يترددون، وهم سيخسرون أنفسهم يوم القيامة؛ لعدم تصديقهم بالمعاد؛ وعدم خوفهم شرّ ذلك اليوم. والله الذي هو مالك ما في السموات وما في الأرض، مالك كل دابّة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرّفه وتدبيره لا إله إلا هو، وهو السّميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، وبعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمرين السابقين أمره أن يأمرهم بالاعتبار، وأن يبلّغهم مالكية الله لما في السموات والأرض ورجوع الخلق إليه، أمره أن يعلن، أنّه- أي رسول الله- لا يتخذ وليّا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، الذي أبدعهما على غير مثال سبق، إذ هو الرّازق لعباده من غير احتياج إليهم، ثمّ أمر أن يعلن أنّه أمر أن يكون أول الناس إسلاما وألّا يكون مشركا، ثمّ أمره أن يعلن أنه يخاف عذاب الله العظيم إن عصاه، وهو العذاب الذي من صرفه الله عنه فقد رحمه، وذلك أعظم أنواع الفوز، وبعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين ما رأينا، وأن يعلن لهم ما مرّ معنا، بيّن لرسوله أنّه هو الله مالك الضرّ والنّفع، وأنه المتصرّف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، وأنّه لا يكشف الضّرّ إلا هو، ولا يصيب بالخير إلا هو، وإذا أراد أن يصيب أحدا بضرّ فلا يكشفه أحد، وإذا أراد أن