الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو امتداد للكلام عن خلق الأشياء لصالح الإنسان. وههنا يذكر الله- عز وجل شرط حلّ الذبائح، ثم يسير المقطع مقيما الحجّة على الكافرين حتى ينتهي بذكر ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم، مما يتناقض مع إباحة الله الأشياء للإنسان وارتباط ذلك بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً واضح المعالم، وسنرى أن المقطع الثاني من القسم استمرار للكلام عما خلق الله من أجلنا وعن موضوع التحريم. ولنبدأ عرض المعاني العامّة للمقطع:
المعنى العام:
يبتدئ المقطع بالإخبار عن الله أنه فالق الحب والنوى، أي أنه سبحانه الذي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها، من الحبوب والثّمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، ويخرج النبات الحي من الحب والنّوى اللذين هما كالجماد الميت، ويخرج الولد الصالح من الفاجر، والفاجر من الصالح، والحي من الأرض الميتة، والميت مما هو حي. هذا كله فعل الله، وفاعله هو الله وحده، فكيف يصرف الناس عن الحق ويعدلون عنه إلى الباطل؛ فيعبدون معه غيره، أو يكفرون به، ومن هذه البداية في هذا المقطع ندرك كيف أن المقطع يفصّل في محور السورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... وسنرى ذلك واضحا في كل ما يأتي.
- ثم أخبر تعالى أنه خالق الضياء والظلام، فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرّة الصباح، فيضئ الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجئ النهار بضيائه وإشراقه، وذلك من آثار قدرته- عز وجل على خلق الأشياء المتضادّة المختلفة، الدّالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه. وكما أنه فلق الإصباح، فقد جعل الليل ساجيا مظلما لتسكن فيه الأشياء، وجعل الشمس والقمر بحساب مقنّن مقدّر، لا يتغيّر ولا يضطرب، بل لكل منها منازل يسلكها ضمن النظام الدقيق للمجوعة الشمسية مع الأرض، مما يترتب عليه ما يترتّب، والجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شئ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
- وكما فعل هذا كله فقد جعل النّجوم ليهتدي بها الإنسان في ظلمات البرّ والبحر،
فلولاها لضاع الإنسان ولم يستطع أن يسلك طريقا بحريا، ولا أن يهتدي في الظلام إلى طريق- وهو موضوع سنراه- فما أوضح آياته- جل شأنه- في الكون، وكم فصّل آياته في كتابه، ولكن العالم وحده هو الذي يعرفها، ويعقلها ويؤمن بالله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل القرآن.
- وكما فعل ما مر كله فهو الذي أنشأنا من نفس واحدة- هي نفس آدم- ثمّ جعلنا نستمرّ بالتزاوج والتوالد عن طريق الأرحام والأصلاب، ولا يدرك عظمة هذه الآية- آية نشأتنا الأولى واستمرارنا عن طريق التزاوج والحمل- إلا من كان عنده فقه قلب يعي به كلام الله ومعناه.
- وكما فعل الله- عز وجل ما مر فهو الذي أنزل من السماء ماء بقدر، مباركا ورزقا للعباد وإحياء وغياثا للخلائق؛ رحمة من الله بخلقه، فأخرج بهذا الماء كل أصناف النبات ومنه الزرع والشّجر الأخضر، ومنه الذي يخلق الله فيه الحب الذي يركب بعضه بعضا كالسنابل، ومنه النخل الدانية العذوق القريبة المتناول، ويخرج بهذا الماء جنات من أعناب، ويخرج به الزيتون والرمّان المتشابه في الورق والشّكل والمتخالف في الثّمار شكلا وطعما وطبعا، كل ذلك يستأهل النظر، ولذلك أمر الله بالنظر إلى ثمره حين نضجه؛ ليتفكر الإنسان في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود، فبعد أن كان حطبا صار رطبا، ولقد خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح الكثير إن في هذا كله لآيات ودلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء ورحمته لقوم يصدّقون به، ويتّبعون رسله، وبعد هذه الآيات التي دلّلت على الله،
وسفّهت الكافرين به، وأقامت الحجة على أهل الكفر بظاهرة العناية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً والتي رأينا بعضا من تفصيلاتها هنا تأتي الفقرة الأولى من المقطع فنجدنا أمام عرض لأنواع من الكفر ومناقشة لأهله: لقد ذكر الله عز وجل أنّ المشركين أشركوا في عبادته الجنّ؛ فجعلوهم شركاء له في العبادة- تعالى الله عن شركهم وكفرهم- فإن قيل من يعبد الجن؟
فالجواب أنّ كل من أطاع الشيطان- وما أكثرهم- فقد عبد الجن. لقد عبد الإنسان الشيطان وترك عبادة الله وهو الذي خلقه! وكما عبد الجن فقد افترى على الله كذبا بأن جعل له بنين وبنات جهلا وسفها وضلالا، تقدّس الله وتنزّه وتعاظم عمّا يصفه هؤلاء الجهلة الضالّون من الأولاد والأنداد والنّظراء والشّركاء، وكيف لا ينزّه عن هذا وهو المنفرد
بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا نظير! وهو مبدع السموات والأرض، وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق! ومن كان هذا شأنه فكيف يكون له ولد! والولد إنما يتولد بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شئ من خلقه؛ لأنّه خالق كل شئ فلا صاحبة له، وإذ لا صاحبة له فلا ولد له، وكيف يكون له صاحبة أو ولد وهو الذي خلق كل شئ! وهو الذي بكلّ شئ عليم، ومن كان كذلك فإنّه لا نظير له
- هذا الإله الذي خلق السموات والأرض وأبدعهما، وخلق كل شئ والذي هو بكل شئ عليم، هو ربنا، لا الجنّ ولا غيرهم، فهو الذي لا إله إلا هو وهو خالق كل شئ، وهو الذي يستحقّ العبادة وحده؛ فاعبدوه وحده؛ إذ هو الحفيظ والرقيب والمدبّر لكل من سواه، يرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
- هذا الإله العظيم لا تدركه الأبصار في الدنيا، ولا تحيط به لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلا أحد يستطيع أن يحيط بكنه عظمته وجلاله على ما هو عليه، أما هو فإنه يدرك الأبصار، يراها ويحيط بها علما على ما هي عليه؛ لأنه خلقها، إذ هو اللطيف الذي يعلم دقائق الأمور ومشكلاتها، العليم بظواهر الأشياء وخفياتها.
وبعد أن قرّر المقطع شرك من أشرك وردّ عليهم الردّ البليغ العجيب المدهش الذي فيه وصف الذّات الإلهية مما يدّل على أنّ القرآن من عند الله، إذ من يستطيع أن يصف الله هذا الوصف المدهش إلا هو- جل جلاله.
- ثمّ إنه بعد هذا الردّ المدهش والبلاغ العجيب يذكر الله- عز وجل أنّه بإنزاله هذا القرآن قد أعطي البشر البصائر كلها أي: البينات والحجج التي يرى بها الإنسان الأشياء على ما هي عليه، فمن أبصر بها وعلى ضوئها فمصلحة ذلك عائدة عليه، ومن عمي عنها ولم ير بها فوبال ذلك عائد عليه، ومحمّد عليه الصلاة والسلام مبلّغ وما هو بحافظ ولا رقيب. ثمّ بيّن تعالى أنّه بمثل هذا البيان الرائع، وهذا التقرير العظيم، وهذه الحجة الواضحة، يبيّن الآيات، ويوضّحها ويفسّرها، ويكرّرها، فأما الكافرون والمشركون والمنافقون، فإنّهم بدلا من أن يؤمنوا يتّهمون محمدا عليه الصلاة
والسلام بأنّ هذا الكتاب أثر عن دراسته ومدراسته، لا أثر عن نبوته والوحي إليه، وأما العالمون فيؤمنون، ويتضح لهم بهذا الإيمان الحقّ كله في كل شئ نتيجة هذا التصريف للآيات بمثل هذا البيان والكمال.
وبعد هذا البيان يأتي الآن أمر ونهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده.
أما الأمر فهو:
- أن عليه صلى الله عليه وسلم أن يتّبع ما أنزل الله عليه بالاقتداء به واقتفاء أثره والعمل به، وأن عليه أن يعرض عن المشركين بالعفو والصفح، واحتمال الأذى حتى يفتح الله ثم بيّن الله تعالى:
- أن لله حكمة في إضلال الضالّين، فإنّه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولو شاء لجمعهم على الهدى، فله المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإذا كان الأمر كذلك فالله وحده هو الحفيظ على أقوالهم وأفعالهم، وهو الوكيل على أمورهم وأرزاقهم، وليس محمّد صلى الله عليه وسلم بوكيل ولا بحفيظ بل هو مبلّغ فقط.
- ثمّ نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتّب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين، وهو لا إله إلا هو، يسبونه ظلما وجهلا، فمن أجل ألا يقع هذا فعلينا ألا نواجه المشركين بسبّ آلهتهم، ثمّ بيّن تعالى أنه كما زيّن لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زيّن لكل أمة ضالّة من الأمم الخالية عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره، وإليه المعاد، وسوف يحاسب الجميع على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من المقطع.
وتأتي الآن فقرة أخرى على نفس السنن.
تلك مبدوءة ب: (وجعلوا) وهذه مبدوءة ب: (وأقسموا)
- يخبر الله تعالى عن المشركين والكافرين أنهم يحلفون الأيمان المؤكّدة لئن جاءتهم معجزة خارقة ليصدقنّها وهذا يفيد أنهّم يدّعون أنّ الآيات ليست كافية للإيمان، أو أنّها غير موجودة، وهذا كذب وافتراء وتعنّت منهم ولذلك فقد أمر الله رسوله أن يعلن
أن أمر الآيات إلى الله، وأن الآيات عنده كثيرة، وما أنزل فيه كفاية ولكنّهم متعنّتون، ولذلك خاطب المؤمنين مبيّنا لهم أن الكافرين إذا جاءتهم الآيات التي يقترحونها فإنّهم لا يؤمنون- وذلك لأنّ سنّة الله أنّ من لم يؤمن أوّل مرّة بما أنزله الله مع قيام الحجة عليه فيه فإنّه لا يؤمن أبدا لأن الله يقلّب قلوب هؤلاء وأفئدتهم؛ جزاء لهم على
عدم الإيمان، ولذلك فإنهم لو جاءتهم الآيات المقترحة فإنهم يرفضونها ويبقون في كفرهم وضلالهم يلعبون ويتردّدون ويتحيّرون، ثمّ بيّن تعالى أنّه لو أجاب سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، فنزّل عليهم الملائكة تخبرهم بالرّسالة من الله بتصديق الرسل، ولو بعث لهم الموتى فكلّموهم وأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، ولو أنّه حشر عليهم الأمم فعرضت عليهم أمة بعد أمة فأخبرهم الجميع بصدق الرسل فيما جاءوهم به، ولو حدث هذا كله فإنّه ما كان لهم أن يؤمنوا إلا إذا شاء الله هدايتهم، وهو إن هدى يهدي فضلا، وإن أضل يضل عدلا. يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الضلال، وذلك من آثار علمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته، ولكنّ أكثر الخلق جاهلون بالله وبسننه، وفي ذلك أمر للمؤمنين ألا يكونوا من الجاهلين وإذ تقررت هذه المعاني يخبر الله- عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بسنة من سننه هي أنّه:
- كما جعل لمحمد صلى الله عليه وسلم أعداء يخالفونه ويعاندونه فقد جعل لكل نبي من قبله أيضا أعداء من شياطين الإنس والجن يلقي بعض هؤلاء إلى الآخر القول المزيّن المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه- من الجهلة- بأمره، وذلك كله بقدر الله وقضائه ومشيئته. فدع يا محمد ومن اتبعك هذا القول الكاذب المزخرف الغرور وأهله.
فإن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين تميل قلوبهم وعقولهم وأسماعهم إليه، فليرض هؤلاء هذا الزّخرف، وليتبنّوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون، وليعملوا ما هم عاملون، فلهم طريق ولك ولأتباعك طريق. ومن هذا العرض عرفنا أن العلّة التي منها يبدأ الزّيغ هي الكفر بالآخرة، فهي التي يترتّب عليها كل شر، ومن الآيات عرفنا أنّ من يضل فلاستحقاقه الضلال بكفره وذنبه، وإذا استقرت هذه المعاني فإنّ الله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ على كل ما مرّ من كلام الكافرين واتجاهاتهم بالإعلان:
- أنه لا يقبل غير الله حكما، وقد حكم الله له، وعليهم بكتابه البيّن المفصّل الكامل الحجّة، هذا الكتاب الذي يعلم المنصفون من أهل الكتاب أنّه منزّل من الله
بالحق؛ وذلك ممّا عندهم من البشارات في كتبهم، ثمّ ينهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون من الشاكّين، ولم يشكّ عليه الصلاة والسلام وإنما هو الرب يأمر وينهى، والأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أمر لأمّته.
- ثمّ بيّن- عز وجل أنه قد جعل كتابه كاملا وتاما، صادقا فيما قال وفيما أخبر، عدلا فيما حكم وفيما أمر، فكلّ ما أخبر به فحقّ لا مرية فيه ولا شكّ، وكلّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلّ ما نهى عنه فهو الباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، وليس لأحد أن يعقّب على حكمه، أو ينقضه، أو يبدّله، أو يغيّره، وأنّ الله هو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
وبعد أن أمر الله- عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أنه لا يرضى غير الله حكما بيّن له في هذا المقام أنّ أكثر أهل الأرض على ضلال، وأنّهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنّما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل، وأنّ الله وحده هو الأعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، ولذلك فلا تبتغ غيره حكما لأنّ أكثرية أهل الأرض إن اتّبعتها تضلّك، فما أعظم هذا البيان في هذا المقام إذ كثير من الناس تغره الأكثرية وتضلّه، أما المسلم فالله هو وحده مصدر الهداية والإضلال عنده، ومنه تتلقى الهداية. ولو خالف الخلق كلهم أمره فإنهم ضالون.
وفي هذا السياق- سياق أن الحكم لله وحده وأنّه لا طاعة للخلق في معصية الله- يقرّر الله- عز وجل إباحة الذبائح إن ذكر عليها اسم الله، وحرمتها إذا لم يذكر عليها اسم الله، مع حوار مع المشركين في هذا المقام، وكل ذلك منسجم مع سياق ما قبله وما بعده.
فلنر المعاني ثمّ لنر الارتباط:
يأمر الله- عز وجل عباده المؤمنين- أمر إباحة- أن يأكلوا من الذّبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه أنّه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه مما يستبيحه الكفار قديما وحديثا من أكل أنواع الميتات، أو ما له حكمها، ثمّ ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، مبيّنا لهم أنّه لا داعي إلى التحرّج في ذلك بعد أن بين لنا ما حرّم علينا، ثمّ بيّن تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم: الميتات، وما ذكر عليه غير