الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُهْتَدِي فلا هداية إلا بتوفيق الله وخلقه وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يضلله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والآية رد على ما ذهب إليه المعتزلة من كون الهدى هو البيان، لأن البيان يستوي به الكافر والمؤمن، إذ البيان ثابت في حق الفريقين، فدل هذا على أن الهدى من الله يراد به توفيقه وعصمته ومعونته، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى
المؤمن.
فوائد:
1 -
أكثر المفسرين- ومن ذلك عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس- على أن المراد بهذا الرجل النموذج بلعام بن باعوراء، وهو رجل من غير بني إسرائيل، كان مجاب الدعوة، فطالبه قومه أن يدعو على موسى فرفض أولا، ثم استجاب لهم فدعا فعوقب.
وفي عرض هذا النموذج هنا تحذير وتذكير. فهو تذكير لبني إسرائيل ألا يكونوا مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان بلعام بن باعوراء مع موسى، كما هو تحذير لكل إنسان أن يكون كهذا الرجل المنحرف، وهو نموذج يقتضيه السياق الخاص، والسياق العام في سورة تفصل موضوع الهدى المنزل، وموقف الناس منه، فهو نموذج لعالم كان مهتديا ثم زل وكفر فعوقب.
2 -
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك» قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: «بل الرامي» . وإسناد هذا الحديث جيد.
3 -
وقصة بلعام بن باعوراء واردة في سفر العدد الإصحاح الثاني والعشرين. والثالث والعشرين والرابع والعشرين ثم تنقطع القصة، ثم يرد ذكر بلعام بن باعور في الإصحاح الحادي والثلاثين إذ يقال فيه (وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف). ويرد ذكر قتله كذلك في سفر يشوع في الإصحاح الثالث عشر (وبلعام بن بعور العراف قتله بنو إسرائيل بالسيف مع قتلاهم). وإذا اقتصر الإنسان على رواية سفر العدد في قصة بلعام لا يجد مبررا لقتل بلعام. وما رواه علماء المسلمين في هذا الموضوع- ويبدو أن روايتهم منقولة عن نسخة قديمة لهذه الأسفار- هو الذي يعطي التصور الأكمل في هذا الموضوع، وهو الذي يوجد الربط ما بين الإصحاح الرابع والعشرين والإصحاح الخامس والعشرين
في سفر العدد كما سنرى، وأجود ما ننقله من روايات علماء المسلمين في هذا الباب ما ذكره محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر: أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان: فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه فقالت:
ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة؟ أما تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟؟ فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك. هذا شئ قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن من السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إذا زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها: كسبتي- ابنة صور رأس أمته- برجل من عظماء بني إسرائيل وهو: زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فلما رآها أعجبته، فقام، فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك لا تقربها. قال: أجل هذا حرام عليك. قال: فو الله لا أطيعك في هذا. فدخل بها قبته فوقع عليها، وأرسل الله عز وجل الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء،
والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون- فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص- فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا. والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة النهار، فمن هنا لك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى، والبكر من كل أموالهم وأنفسها، لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
فإذا استوعبنا هذه الرواية مع تحفظنا على بعض ما ورد فيها فلننظر بعض ما ورد في الإصحاحات المذكورة لتكتمل في أذهاننا القصة ورواية ابن إسحاق هي التي
تفسر ما ورد بعد من قتل بلعام، كما أنها تخلص من التناقضات الكثيرة الموجودة في الأسفار، فهي تارة تزعم أن الله سمح لبلعام أن ينطلق مع وفد الملك، وتارة تزعم أن الله غضب لأنه انطلق معهم، في الإصحاح الثاني والعشرين (فأتى الله إلى بلعام ليلا وقال له إن أتى الرجال ليدعوك فقم اذهب معهم إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط. فقام بلعام صباحا وشد على أتانه وانطلق مع رؤساء موآب فحمي غضب الله لأنه منطلق) فكيف يأمره الله بالذهاب ثم يغضب لذهابه، وفي الإصحاحات نجد أن الله لا يجري على لسان بلعام إلا الدعاء لموسى ومن معه، والتبشير بانتصاره، فلماذا يقتل إذن من قبل موسى وجنده بعد ذلك. إن رواية ابن إسحاق- وهي حتما مأخوذة عن نسخ قديمة للأسفار- هي التي تعطي تعليلا لمقتل بلعام، لولا أن فيها مبالغة أن فنحاص قد رفع الزانية والزاني على رمحه، هذا مع ملاحظة أن ما ذكره ابن إسحاق هو تلخيص واقعي للإصحاحات، ولنكتف بنقل رواية الإصحاح الخامس والعشرين من سفر العدد لأنها تؤيد رواية ابن إسحاق.
وندلل على أن نقل ابن إسحاق كان من نسخة أخرى لهذه الأسفار للمطابقة بين ما فيه وفيها دون الربط بين قصة بلعام وانتشار الزنى، الذي تمتاز به رواية ابن إسحاق، ومجريات الحوادث بعد ذلك تؤكد رواية ابن إسحاق وتصدقها.
قال الإصحاح الخامس والعشرون: وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع