الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفاق
أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ أي ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه وَنَجْواهُمْ أي ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه شئ، وهكذا عرفنا من خلال هذه الآيات أن من صفات المنافقين منع الصدقة، وانعدام الصلاح، وإخلاف الوعد والكذب، وهم- عليهم اللعنة- لا يكتفون بمنعهم الصدقات، بل يعيبون أهلها، كما ستقص علينا الآية الآتية:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ أي الذين يعيبون المتطوعين المتبرعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي: طاقتهم أي ويعيبون الذين لا يجدون إلا القليل فينفقون منه، فلا يسلم من لسانهم من أكثر من النفقة، ومن أقل فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي فيهزءون من المؤمنين المقلين، والمكثرين في الإنفاق سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي جازاهم على سخريتهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم كفار، والله لا يغفر لمن كفر به، والمعنى: وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم، وليس المراد بذكر السبعين التحديد والغاية، وإنما المراد التكثير، فالسبعون في لغة العرب تستعمل ويراد بها التكثير، ولا يراد منها عينها إلا إذا دل السياق على ذلك ذلِكَ أي عدم المغفرة بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بسبب كفرهم بالله ورسوله، ولا غفران للكافرين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الإيمان، ما داموا مختارين للكفر والطغيان. وبهذا تنتهي هذه المجموعة في هذا السياق، وقد حددت مواصفات للمنافقين، في سياق الأمر بجهادهم، وحددت ما يستحقون من عقاب، وحددت بعض ما يتنافى مع الأمر بجهادهم كالاستغفار لهم وسنرى في أسباب النزول نماذج لهؤلاء ولنلاحظ أن سبب النزول يعتبر إحدى حالات ما يدخل تحت عموم النص ويبقى النص على عمومه ليسع كل ما يدخل تحته من حالات.
فوائد:
1 -
في سبب نزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ .. يقول ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم .. عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا ثعلبة
قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال: ثم قال مرة أخرى فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال: فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا، من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما فعل ثعلبة؟» فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره فقال: يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة وأنزل الله جل ثناؤه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية. قال:
ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلا من جهينة، ورجلا من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما:«مرا بثعلبة، وبفلان- رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرءاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة. وإنما هي لي فأخذاها منه، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال:«يا ويح ثعلبة» . قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي.
فأنزل الله عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية. قال وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال:
ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال:«إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني» .
فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي
من رسول الله، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يقبلها، فقبض أبو بكر ولم يقبلها، فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رضي الله عنه فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان».
أقول: هناك صحابي شهد بدرا اسمه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، فهذا حتما ليس هو صاحب القصة، فإما أن هناك وهما في اسم صاحب القصة وإما أن القصة كلها لا أصل لها فقد شكك بعضهم في أسانيدها وفي استقامة متنها، والآيات مستغنية عن القصة لفهمها.
2 -
في سبب نزول قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ .. روى البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الآية، وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه وروى الإمام أحمد .. عن أبي السليل قال: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقول: «من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة» قال: فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين، وأنا أريد أن أتصدق بهما، فأدركني ما يدرك ابن آدم، فعقدت على عمامتي، فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا ولا أصغر منه، ولا أذم، ببعير ساقه، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال يا رسول الله أصدقة؟
قال: «نعم» قال: دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجل، فقال، هذا يتصدق بهذه، فو الله لهي خير منه، قال فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«كذبت بل هو خير منك ومنها» ثلاث مرات، ثم قال:«ويل لأصحاب المئين من الإبل» - ثلاثا- قالوا: إلا من يا رسول الله؟ قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال: «فقد أفلح المزهد المجهد» ثلاثا- المزهد في العيش والمجهد في العبادة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل من
الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع. وروى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما، فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله هذا صاع من تمر، بت ليلتي أجر بالجرير (أي الحبل) الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال وقالوا: إن الله ورسوله لغنيان عن هذا، وما يصنعان بصاعك من شئ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبق أحد غيرك» فقال له عبد الرحمن بن عوف: فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات: فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أمجنون أنت؟
قال: ليس بي جنون. قال: فعلت ما فعلت؟ قال: نعم؛ ما لي ثمانية آلاف. أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت» ولمزه المنافقون فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، إنما كان به متطوعا، فأنزل الله عز وجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذين جاء بالصاع من التمر.
3 -
في قال تعالى في كتابه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نقول: إن من كمال رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه كان إذا وجد رخصة في موضوع سار بها، حتى ينزل نهي جازم، ولاحتمال الرخصة في قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
…
فإنه عليه الصلاة والسلام بقى يستغفر لأهل النفاق، ويصلي عليهم، حتى نزل الأمر الجازم بالمنع.
قال ابن كثير: (روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الآية أسمع ربي وقد رخص لي فيهم، فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة، لعل الله يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية. وقال الشعبي: لما ثقل عبد الله بن أبي، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما اسمك؟» قال: الحباب بن عبد الله، قال:«بل أنت عبد الله بن عبد الله، إن الحباب اسم شيطان» قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو
عرق وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه؟ فقال: «إن الله قال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين» . وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد وقتادة بن دعامة، ورواه ابن جرير بأسانيده.
4 -
وفي قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال النسفي:
(والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، وليس على التحديد والغاية. إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر الله لهم، لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به. والمعنى:
وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم. وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية. ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير، فالقليل ما دون الثلاث، والكثير الثلاث فما فوقها، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية. والعدد أيضا نوعان شفع ووتر، وأول
الأشفاع اثنان، وأول الأوتار ثلاثة، والواحد ليس بعدد، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين، لأن فيها أوتارا ثلاثة وأشفاعا ثلاثة، والعشرة كمال الحساب، لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة، كقولك اثنا عشر وثلاثة عشر إلى عشرين، والعشرون تكرير العشرة مرتين. والثلاثون تكريرها ثلاث مرات، وكذا إلى مائة.
فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه، وكمال الحساب والكثرة منه. فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه، ولا غاية لأقصاه، فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا. والله أعلم).
ثم تأتي الآن مجموعة ثانية في هذا المقطع تبين حال المنافقين حين يتخلفون عن الجهاد، وموقفهم من آيات الجهاد، وتذكر فيما بين ذلك ما يستأهلون من عقوبات معنوية فقال:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ المنافقون الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان بِمَقْعَدِهِمْ أي بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي مخالفة لرسول الله، أي قعدوا لمخالفته، أو قعدوا مخالفين له وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فهم ليسوا كالمؤمنين الذين يسارعون إلى بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله، وكيف لا يكرهونه وليس فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإتيان وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي: قال بعضهم لبعض ذلك أو قالوا ذلك للمؤمنين
تثبيطا قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ هذا استجهال لهم لأن من تصون من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً أي يضحكون قليلا على فرحهم بتخلفهم في الدنيا، ويبكون كثيرا جزاء في العقبى. إلا أنه أخرج بلفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، لا يكون غيره، وقد دلت الآية على أن فرحهم بالتخلف والقعود بالغ الغاية، فسيعاقبهم الله بما يقابل هذا الفرح جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي جزاء على كسبهم السيئ الذي هو أعمال النفاق
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي ردك من نفيرك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لم يقل إليهم جميعا لأن منهم من يتوب من النفاق ويصلح حاله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا هذه أول العقوبات المعنوية: منعهم من شرف الجهاد إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي أول ما دعيتم إلى النفير فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي مع من سيتخلف
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من المنافقين ماتَ أَبَداً هذه هي العقوبة الثانية ألا يصلي على المنافقين صلاة الجنازة وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي ولا تقف على قبره داعيا له إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ هذا تعليل للنهي عن الصلاة عليهم، والوقوف على قبرهم، أي إنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم، لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا على ذلك
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ هذه الآية قد تقدم مثلها، وفي حكمة تكريرها قال النسفي: التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه، وأن يعتقد أنه مهم، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى فهذه العقوبة المعنوية الثالثة احتقار ما هم فيه من متاع،
ثم زادنا الله بيانا عنهم وعن مواقفهم وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يجوز أن يراد سورة بتمامها، وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ أي آمرة بذلك اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ أي ذو اليسار والسعة مِنْهُمْ أي من المنافقين وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ الخوالف جمع خالفة، والخالفة المرأة، أي رضوا بأن يكونوا مع النساء وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الهلاك والشقاوة
لكِنِ أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد فقد نهض إلى الغزو