الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفصيل الأول لآيات المحور جاء في سورة الأنفال، وجاءت سورة براءة بمثابة منشور قتال ولكنه كذلك يفصل في المحور الذي فصلت في سورة الأنفال.
فائدة:
تحدث القسم الأول في هذه السورة عن قتال المشركين، وقتال أهل الكتاب، ورأينا أن أهل الكتاب مخيرون بين ثلاثة أشياء: الإسلام، أو القتال، أو الجزية، وأما المشركون فلا خيار أمامهم، إما القتل، أو الإسلام، وهذا في مشركي العرب، لا خلاف عليه- تقريبا- وأما مشركو غير العرب فما حكمهم؟ هل يعاملون معاملة أهل الكتاب؟ أو يعاملون معاملة مشركي العرب؟
لقد أجمع الصحابة على أن يأخذوا الجزية من المجوس، وهذا يفيد أنهم عاملوا المجوس معاملة أهل الكتاب، ولذلك فقد جرى العمل خلال التاريخ على أن يعامل غير مشركي العرب معاملة أهل الكتاب، على خلاف بين الفقهاء في ذلك. وإذن فإن القسم الذي مر معنا، أمرنا أن نقاتل كل الناس، مع ملاحظة أن الناس نوعان: نوع تقبل منه الجزية ونوع لا تقبل منه، وعلى هذا فإن هذا القسم فصل في موضوع فرضية القتال، وحدد الجهات التي يفترض علينا أن نقاتلها، وحدد ما نقبله من كل جهة وما لا نقبله.
ولعل من نافلة القولة أن نقول: إن أكثر المسلمين عن مثل هذا غافلون، بل يستغربون إذا فاتحهم أحد بمثل ذلك، بل يستنكر الكثيرون منهم أن يطالبهم أحد بالسير في الطريق العملي لإقامة هذه الأحكام، على أن العلم بالإسلام- بفضل الله- بدأ ينتشر، والملتزمون بكل ما يطلبه منهم الإسلام بدءوا يكثرون، وإن هذه الأمة لإلى خير بإذن الله.
المعنى الحرفي للمقطع الأول:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين والمعنى: أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم. والمشركون إما أن يكونوا معاهدين أو لا، والمعاهدون إما أن يكون عهدهم إلى مدة محددة، أو لا، والذين عهدهم إلى مدة محددة إما أن تكون هذه المدة أقل من أربعة أشهر، أو أكثر، والتي هي أكثر إما أن يكون أصحابها وافين بالتزاماتهم غير مبيتين نية غدر أو لا. فمن بيت نية غدر، فقد مر
معنا في سورة الأنفال حكمه، ومن وفى بالتزاماته ولا يخشى منه غدر، وعهده إلى أجل محدد زائد على أربعة أشهر، فهذا سيأتي حكمه، وواجب في حقنا له الوفاء، ومن كان عهده مطلقا، أو كان عهده دون أربعة أشهر، فهؤلاء أعطوا فرصة أربعة أشهر- كما سنرى-، ثم لا عهد بيننا وبينهم، وإنما هو القتال. ثم المعاهدين إلى أجل متى
انتهى الأجل فليس بيننا وبينهم إلا القتال، وأما المشركون غير المعاهدون فلا سلام بيننا وبينهم، ما دمنا قادرين على قتالهم بل هو القتال حتى يحكم الله بيننا. وهل هذا خاص بمشركي العرب؟ الإجماع منعقد على أن المشرك العربي- أي غير اليهودي أو النصراني أو المجوسي- لا تقبل منه الجزية، فإما القتل وإما الإسلام. أما اليهودي أو النصراني أو المجوسي من العرب فتقبل منه الجزية، أو الإسلام، وإلا القتال. أما غير العرب فإن كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا فكذلك. أما غير هؤلاء فقد اختلف العلماء هل تقبل منهم الجزية أو هو الإسلام أو القتل؟ قولان والذي عليه العمل خلال العصور قبول الجزية من كل الناس ما سوى العرب المشركين، والجزية هي رمز الخضوع لسلطان المسلمين بالإسلام
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ السيح: هو السير على مهل، والمعنى: فسيروا في الأرض كيف شئتم أربعة أشهر، أمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين لا يتعرض لهم. وهل هذه الأربعة أشهر من تاريخ الإعلام بهذا الأمر- وهو يوم النحر في عام نزول هذه السورة- أو المراد بذلك الأربعة الأشهر الحرم، والتي لم يبق منها يوم الإعلام إلا خمسون ليلة؟ قولان. رجح ابن كثير أنها من تاريخ الإعلام، وقال رادا القول الثاني: وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وإذن فقد أعطي المشركون فرصة أربعة أشهر على التفصيل الذي ذكرناه، ثم إما الاستئصال أو الإسلام وَاعْلَمُوا أي أيها المشركون أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه وإن أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب
وَأَذانٌ أي وإعلام مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أي يوم عرفة، لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج أو يوم النحر، لأن فيه تمام الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي، ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي ورسوله برئ منهم، في الآية الأولى من السورة: إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس؛ لأن البراءة مختصة
بالمعاهدين على التفصيل الذي ذكرناه، وأما الأذان فعام لجميع الناس، من عاهد، ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين، ومن لم ينكث فَإِنْ تُبْتُمْ أيها المشركون مما أنتم فيه من الكفر وعمله فَهُوَ أي التوبة خَيْرٌ لَكُمْ أي من الإصرار على الكفر في الدنيا وفي الآخرة وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن التوبة أي: إن أعرضتم عنها بأن ثبتم على الشرك والإعراض عن الإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير سابقين الله، ولا فائتين أخذه وعقابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ جزاء على كفرهم
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي ثم لم ينكثوا، ولم ينقصوكم من شروط العهد بمعنى: أنهم وفوا بالعهد ولم ينقضوه وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي ولم يعاونوا عليكم عدوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي فأدوه إليهم تاما كاملا إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى تمام مدتهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يفون بعهودهم، هذه الآية استثناء من الأمر بالسيح أربعة أشهر.
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هل المراد بالأشهر الحرم هنا الأشهر الحرم بالمعنى المشهور أي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، أو المراد بها هنا الأشهر الأربعة التي أعطيها المشركون كمهلة؟ قولان. والذي رجحه ابن كثير أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة التي أمهلوا فيها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ممن لا عهد محددا بينكم وبينهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في حل أو في حرم وَخُذُوهُمْ أي وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي واسجنوهم وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي كل ممر ومجتاز ترصدونهم به فَإِنْ تابُوا أي عن الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ اللتان هما علامتا الإسلام فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فأطلقوا عنهم قيد الأسر والحصر، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور يستر ما حدث قبل الإسلام من كفر وغدر، رحيم برفع القتل بعد الإسلام، ومجئ ذكر اسم الله الرحيم في هذا المقام إشعار بأن الله ذا الرحمة هو الذي يأمر بمعاملة المشركين هذه المعاملة، فإياكم أن تظنوا أن الرحمة تتنافى مع هذه الأحكام
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أي وإن جاءك أحد من المشركين بعد الأشهر الأربعة، ولا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ أي بعد ذلك مَأْمَنَهُ أي داره التي يأمن فيها إن لم يسلم، ثم قاتله إن شئت، وفيه دليل على أن المستأمن لا يؤذى، وليس له الإقامة في دارنا، ويمكن من العود ذلِكَ أي الأمر بالإجارة
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق.
وبعد إعلان البراءة وإيجاب القتل والقتال بين الله عز وجل الحكمة في ذلك وذلك كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يستنكر الله عز وجل أن يثبت لهؤلاء المشركين عهد وفي هذا الاستنكار نهي عن تحديث النفس أصلا في إعطائهم الأمن بل هو القتل، ولكن استثنى من ذلك من عوهدوا عند المسجد الحرام، فهؤلاء قال الله فيهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي فما أقاموا على وفاء العهد ولم يظهر نكث فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي على الوفاء إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين لا يغدرون
كَيْفَ أي كيف يكون للمشركين عهد ينالون به أمانا وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ وحالهم إن يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا أي حلفا أو قرابة وَلا ذِمَّةً أي ولا عهدا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ يتظاهرون بما لا يبطنون، وبواطنهم مملوءة حقدا وغيظا وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ناقضون للعهد، أو متمردون في الكفر، لا مروءة تمنعهم عن الكذب، ولا شمائل تردعهم عن النكث، ولم يقل كلهم لوجود القليل الذي يتحامى عن بعض ما لا يستقيم في العقول
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي استبدلوا بالقرآن ثَمَناً قَلِيلًا أي عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ عملا وحالا، وعدلوا عنه وصرفوا غيرهم إِنَّهُمْ ساءَ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ
أي بئس الصنيع صنيعهم
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ أي مؤمن، خصص في المرة الأولى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عمم كل مؤمن إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فمن كان هذا شأنهم كيف يستحقون أمنا؟ وكيف نكف أيدينا عنهم فلا نقتلهم شر قتلة؟
فَإِنْ تابُوا عن الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين لا في النسب إذا اجتمع لهم الإسلام علما وعملا وَنُفَصِّلُ الْآياتِ أي ونبينها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون فيتفكرون فيها، وفي النص تحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها، إذ النص أفهم أن من تأمل تفصيل هذه الآيات فهو العالم
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي وإن نكث المشركون المعاهدون إلى مدة محددة مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي من بعد عهودهم ومواثيقهم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي عابوه وانتقصوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي زعماءه ورؤساء أهله إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أثبت لهم الأيمان في أول الآية، ونفاها عنهم هنا، مريدا في
ابتداء الآية أيمانهم التي أظهروها، وهاهنا أيمانهم على الحقيقة، فإنها لا تساوي شيئا لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ فليس هناك من طريق لانتهائهم عن الفساد إلا القتال، ألا فليعقل المسلمون ذلك،
ثم حرض على القتال فقال أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة، يذكرهم بفعلهم برسولهم وبهم فكيف يترددون في القتل والقتال وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ والبادئ أظلم، فما يمنعكم من قتالهم وفي الآية توبيخ على ترك القتال، وحض عليه، وتذكير بما يوجب القتال، من نكث العهد، وإخراج الرسول، والبدء بالقتال من غير موجب أَتَخْشَوْنَهُمْ هذا توبيخ على الخشية منهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ أي فالله أحق أن تخشوه فقاتلوا أعداءه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن قضية الإيمان الكامل ألا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه،
ولما وبخهم الله على ترك القتال جدد لهم الأمر به قاتِلُوهُمْ ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل وَيُخْزِهِمْ بالأسر وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي ويغلبكم عليهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مما أصابهم من أذيتهم
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم من المكروه، وقد حصلت هذه المواعيد كلها فكانت معجزة خاصة زائدة على ما في القرآن كله من إعجاز عام وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ هذا إخبار بأن بعضا من المشركين يتوب ويدخل في الإسلام وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ في قبول التوبة.
وبعد أن فرض القتال، وأعلن البراءة، وبين حكمة القتال وضرورته، بدأ السياق يصحح التصورات أَمْ حَسِبْتُمْ هذا توبيخ على وجود مثل هذا التصور أَنْ تُتْرَكُوا أي أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، ولهذا جاء بعده وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي: بطانة ودخيلة، ففي الآية أمر بالجهاد، ونهي عن اتخاذ الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بطانة ودخيلة، وخلانا وأصفياء والمعنى: أظننتم هذا الحسب الخاطئ أن تتركوا ولا مجاهدة ولا براءة من المشركين. والمعنى: لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا بطانة من دون المؤمنين ودل قوله تعالى وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا .. على أن الذين لم يخلصوا دينهم لله سيميز الله بينهم وبين المخلصين ويعرفون وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من خير أو شر فيجازيكم
عليه. فالآية أكدت أنه لا بد من جهاد ولا بد من مفاصلة لأهل الكفر والشرك والنفاق.
وبعد أن استقر هذا كله يقرر الله حكما جديدا وهو وجوب منع المشركين من الحج فيقول: ما كانَ أي ما صح لهم وما استقام لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وخاصة إمام المساجد: المسجد الحرام شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ باعترافهم أنهم غير مسلمين والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فلا يؤجرون عليها وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ أي دائمون،
ثم بين الله المستحقين لأن يعمروا مساجد الله إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ العمارة المعنوية: بالعبادة والذكر والعلم، والعمارة الحسية من رم ما تهدم منها وتنظيفها، وتنويرها، وصيانتها وبنائها أصلا، وكل ذلك داخل في الآية مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فاجتمع له الإيمان والعمل بالأركان وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ من صنم أو إله مزعوم أو بشر أو غير ذلك، والمراد الخشية في أبواب الدين، بألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف؛ إذ المؤمن قد يخشى المحاذير خشية طبع، ولا يتمالك ألا يخشاها فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ المعنى: إن أولئك هم المهتدون، قال ابن كثير: كل عسى في القرآن فهي واجبة، ولكن ذكرها هنا يفيد تبعيد الهداية للمشركين، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم؛ لأن إذا كان من ذكروا عسى أن يكونوا من المهتدين فكيف يكون حال المشركين.
وكما صحح السياق بعد فرضية قتال المشركين مفهوما خاطئا، فههنا كذلك بعد تحريم الحج على المشركين يصحح مفهوما أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مع الشرك وهي من مكارم قريش في الجاهلية كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أجعلتم أهل سقاية الحج، وعمارة المسجد الحرام أي سكناه، كالمؤمنين بالله المجاهدين في سبيله، وفي ذلك إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وقد جعل الله جل
جلاله تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر، لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعيهما لذلك قال لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
ثم أكد عدم الاستواء فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً