الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى العام:
كما رأينا في سورة الأنفال فقد وجدت نماذج تطبيقية من غزوة بدر على المعاني المرادة هناك، وكذلك هنا. فإن الكلام عن ضرورة النفير العام وعن موقف الناس منه يأتي من خلال غزوة تبوك، التي حدث فيها النفير الأقسى في تاريخ الدعوة النبوية، إن ما حدث قبل غزوة تبوك وخلالها وبعدها هي النماذج التطبيقية على مواقف الناس من النفير، فالإنسان هو الإنسان والإيمان هو الإيمان والنفاق هو النفاق، ومن خلال النماذج يأتي الدرس والتوجيه والتربية والتعليم:
يبدأ المقطع بعتاب المؤمنين أن يتكاسلوا أو يميلوا إلى المقام في الدعة والأمن وطيب الثمار، إذا دعوا إلى النفير للجهاد في سبيل الله، ثم سألهم عما إذا كانوا يفعلون ذلك رضا منهم بالدنيا بدل الآخرة، ثم زهدهم تبارك وتعالى في الدنيا ورغبهم في الآخرة بأن الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئا. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد بالعذاب الأليم، والاستبدال بقوم آخرين ينصرون دين الله، مبينا لهؤلاء الناكلين عن الجهاد بأنهم لا
يضرون الله شيئا بتوليهم عن الجهاد ونكولهم وتثاقلهم عنه، ومبينا لهم أن الله قادر على الانتصار من أعداء الله ورسوله بدونهم، قادر على الاستبدال، قادر على التعذيب، ثم بين لهم تعالى أنهم إن لم ينصروا رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره عام الهجرة لما هم المشركون بقتله، أو حبسه، أو نفيه، فخرج منهم هاربا بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر، فلجئا إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة، فخاف أبو بكر رضي الله عنه أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول:
«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم طمأنينته ونصره وتأييده، وأيده بالملائكة وجعل الشرك هو الأسفل والتوحيد هو الأعلى؛ وذلك كله أثر عن عزة الله في انتقامه وانتصاره حتى لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بجنابه، وذلك أثر حكمة الله في أقواله وأفعاله، ثم أمر الله بالنفير العام لمن كان ثقيلا أو خفيفا، شابا أو كهلا، غنيا أو فقيرا، نشيطا أو غير نشيط، معسرا أو موسرا، راكبا أو راجلا، قويا أو ضعيفا، ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته، مبينا أن هذا خير لأصحاب ذلك في الدنيا والآخرة، لأنهم يغرمون في النفقة قليلا فيغنمهم الله أموال عدوهم في الدنيا مع ما يدخر لهم من الكرامة في الآخرة.
وبعد أن قرر الله عز وجل هذه المعاني ذكر ما حدث يوم تبوك من طلب الكثير الإذن لهم بالتخلف ليبين الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الذين طلبوا الإذن بالتخلف ما طلبوا هذا الإذن إلا فرارا من المشقة لا لأنهم عاجزون حقيقة، بدليل لو أن سفره عليه الصلاة والسلام كان لغنيمة قريبة ولمكان قريب، ما تخلفوا ولا طلبوا الإذن. فهؤلاء هم الكاذبون في إيمانهم، الكاذبون في كلامهم، الذين سيستقبلون المسلمين بعد عودتهم بالأيمان الكاذبة، أنهم ما خلفهم عنهم إلا العذر، وما هم بمعذورين، ثم عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على إذنه لمن أذن له، مبينا له أنه كان عليه ألا يأذن، ليتبين صدق المستأذن في استئذانه هل يتخلف أو يذهب إذا لم يكن إذن؟
وليظهر الصادق في إيمانه من الكاذب في إيمانه، ثم بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين الصادقين لا يستأذنون في القعود عن الغزو لأنهم يرون الجهاد قربة يتقربون بها إلى الله، فكيف يتخلون عنها؟ ثم بين تعالى أن الذين يستأذنون في القعود ممن لا عذر لهم في الحقيقة هم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة
على أعمالهم وشكت قلوبهم في صحة الإسلام حتى أصبحوا في شكهم يتحيرون، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، ثم دلل الله على كذبهم في استئذانهم وأنهم ما تخلفوا بسبب الإذن بل لأنهم من الأصل لا يريدون القتال والخروج أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن، بأنهم ما أظهروا أي علامة صدق للخروج فلم يستعدوا ويعدوا له أصلا، فلو كانوا صادقين لتأهبوا، ثم بين الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن عدم خروج أمثال هؤلاء فيه مصلحة للمسلمين لأنهم لو خرجوا مع المؤمنين لم يكن دورهم إلا دور المخلخل للصف، الباث فيه الفتنة، خاصة وأن بعضا من المؤمنين مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم، لأنهم لا يعلمون حالهم، فيؤدي ذلك إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير، ومن ثم فإن الله كره خروجهم مع المؤمنين فلم يوفقهم للخروج، بل قدر عليهم أن يتخلفوا؛ لعلمه بهم أنهم ظالمون، ولعلمه بهم أنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالا، ثم دلل الله تعالى على ما سيفعلونه لو خرجوا بما فعلوه قبل ذلك: من إعمالهم فكرهم! وإجالتهم آراءهم في كيد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخذلان الإسلام وإخماده مدة طويلة، حتى إذا أعز الله دينه دخلوا فيه نفاقا، وغاظهم كل موقف أعز الله به جنده.
وهكذا أجمل الله حال هؤلاء المستأذنين عن الجهاد يوم يكون نفير، حاكما عليهم بالنفاق بشكل عام، ثم بدأ يذكر أصناف هؤلاء المنافقين من خلال كلامهم الذي يعبر عن نفاقهم، فبدأ بالنموذج الأول من هؤلاء المنافقين المستأذنين الذين يستأذنون ويعتذرون بما ليس عذرا إذ يطلبون الإذن بحجة أنهم إذا خرجوا للجهاد ورأوا النساء لا يصبرون عنهن فيقعون في الحرام، فأي عذر هذا! عذر يقودهم إلى النار التي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب، وهكذا نجد أن النفير العام هو المحك الحقيقي للإيمان، وهو المظهر العملي للنفاق وأهله، وأن هذا النفاق يعبر عن نفسه بنماذج شتى، وقد رأيناه كيف عبر عن نفسه عند النموذج الأول بهذا النوع من الاستئذان السخيف والاعتذار السمج، وبعد أن تحددت صفات هذا النموذج وأعيانهم أعلم الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة- أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه- ساءهم ذلك، وإذا كان العكس فرحوا بموقفهم الاحترازي من المتابعة والسير والغزو، ثم أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى ما يقولونه لهؤلاء جوابا على عداوتهم التامة بالإعلان عن إيمانهم بقدر الله، ورضاهم عن الله فيما
يقدره عليهم، كيف وأنه هو مولى المؤمنين، والمؤمنون عليه متوكلون، وليس عند الله للمؤمنين إلا الخير مهما كان ظاهر الأمر خلاف ذلك، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء أنهم لا ينتظرون بالمؤمنين إلا النصر أو الشهادة، غير أن المؤمنين ينتظرون بالمنافقين عذاب الله المباشر، أو عذاب الله بأيدي المؤمنين، فلينتظروا إذن والمؤمنون منتظرون، وشتان بين الانتظارين، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء أنهم مهما أنفقوا من نفقة طائعين أو مكرهين فإن الله لا يقبلها بسبب كفرهم بالله والرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمال إنما تقبل وتصح بالإيمان، وبسبب كسلهم إذا قاموا إلى الصلاة، مما يدل على أنه ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل، وبسبب كونهم لا ينفقون نفقة إلا وهم كارهون، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا؛ لأنه إنما يتقبل من المتقين، ثم نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعجبه ما هم فيه من أموال أو أولاد، فما هي إلا نوع عذاب لهم، ثم عاقبتهم أن يميتهم الله- حين يميتهم- على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم، فما أموالهم ولا أولادهم إلا استدراج لهم، ثم فضح الله تعالى ما يتظاهرون فيه من كونهم يحلفون الأيمان المؤكدة للمؤمنين أنهم منهم وما هم من المؤمنين، ثم بين أن حلفهم أثر عن جزعهم وخوفهم، وأنهم يودون أن لو وجدوا حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، أو مقامات في الجبال يلجئون إليها، أو سربا ونفقا في الأرض يسرعون إليه كيلا يخالطوا المؤمنين ولا يروهم ولا يروا من سلطانهم وعزهم، فهم يخالطون المؤمنين ويعيشون في دولتهم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونهم. ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام لا يزال في عز ونصر ورفعة، فلهذا فإن كل ما سر المؤمنين يسوؤهم، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين، فلا يغرن المؤمنون بأيمانهم أنهم مع المؤمنين، وبعد أن ذكر الله عز وجل هذا النموذج المار ذكره من المنافقين ثنى بذكر نموذج آخر منهم.
هذا النموذج الثاني من المنافقين نموذج طامع لماز، يعيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقسيمه الصدقات ويتهمه في عدله، فعليهم لعائن الله؛ إذ أنهم لا يعلنون ذلك إلا لحظ النفس والشيطان، ولا يمكن أن يكون فعلهم إلا حظا للنفس والشيطان، بدليل أنهم إذا أعطوا من هذا الزكوات رضوا، وإذا لم يعطوا منها أظهروا سخطهم، ولما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسمه الصدقات، بين تعالى مصارف الزكوات؛ ليعلم هؤلاء المنافقون أن الله هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى
أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، وقد حدد الله مصارفها بأنهم ثمانية أصناف: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها وهم: الجباة والسعاة، والمؤلفة قلوبهم
وهم أقسام: فمنهم من يعطى ليسلم، ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه، ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، أو ليكف ضرره، والصنف الخامس من مصارف الزكاة هم الرقاب من مكاتبين أو غير ذلك على خلاف بين الفقهاء- كما سنرى- والصنف السادس:
الغارمون وهم أقسام: فمنهم من تحمل حمالة، أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب، وتفصيل ذلك سيأتي، والصنف السابع: في سبيل الله ويدخل فيهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وغير ذلك مما سيأتي، والصنف الثامن: ابن السبيل: وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شئ يستعين به على سفره فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال، وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شئ فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه، ثم ختم الله آية الزكاة بتبيان أن هذا فرض فرضه الله، فهو حكم مقدر بتقدير الله وفرضه وقسمه، والله عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، حكيم فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وهكذا حدد الله مصارف الزكاة في معرض السياق العام في الأمر بالنفير، وفي معرض قطع طمع المنافقين في الزكاة في السياق الخاص، ومجيئها في السياق العام واضح الحكمة لما في الزكاة من إعانة على الجهاد، ومجيئها في السياق الخاص واضح الحكمة.
ثم يذكر الله عز وجل نموذجا ثالثا من نماذج المنافقين: وهو النموذج الذي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام، ويصف ما هو حسن فيه فيجعله غير حسن، ومن ذلك قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أذن أي: يصدق كل ما يقال له، وقد رد الله عز وجل عليهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شديد الإصغاء لمستمعه، وليس ذلك شرا بل هو خير لصالح المؤمنين ولكنه عليه الصلاة والسلام يعرف الصادق من الكاذب، فيصدق الصادق ويصدق المؤمنين، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الكاملة الخالصة للمؤمنين، ثم هدد الله هؤلاء الذين يؤذون رسوله عليه الصلاة والسلام بالعذاب الأليم، ثم زادنا الله بصيرة بحال هذا الصنف من المنافقين، وكيف أنهم يحلفون للمسلمين ليرضوا المسلمين، مع أن الأجدر بهم أن يرضوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا، ولكنهم ليسوا مؤمنين،
ولذلك لم يعلموا ولم يتحققوا أنه من حارب الله ورسوله فإن له عذاب جهنم خالدا فيها، مهانا معذبا، وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير، وبعد أن بين الله عز وجل في بداية المقطع أن المحك الذي يظهر المنافق من المؤمن هو الموقف من النفير العام، وأن الذين يستأذنون ولا عذر لهم هم المنافقون. وبعد أن ذكر لنا ثلاثة نماذج من نماذجهم بين الله عز وجل كيف أن المنافق يبقى دائما خائفا أن يفتضح أمره بأن ينزل الله سورة تتحدث عما في قلبه، كما بين أن هؤلاء المنافقين من طبيعتهم الاستهزاء، وقد هددهم الله عز وجل بأن الله سينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يفضحهم، ويبين أمرهم، وقد كان ذلك بهذه السورة، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، فاضحة المنافقين.
وإذن وفي هذا السياق بين لنا الله عز وجل طبيعة من طبائع المنافقين وهي استهزاؤهم بالإسلام وأهله، واستهزاؤهم بالله وآياته، ولكنهم من جبنهم إذا ووجهوا بأقوالهم تظاهروا بأنهم قالوا ما قالوه من باب المداعبات والملاطفات والتنكيتات، وقد رد الله عز وجل عليهم أن تكون آيات الله محل استهزاء في مزاح أو جد، وجعل ذلك كفرا وفتح باب التوبة لمن يتوب وهدد بالعذاب لمن أصر.
وهكذا تكشفت لنا طبيعة أخرى من طبائع المنافقين، وظهر لنا نموذج من نماذجهم ثم ختم الله هذا المقطع بأن عرف لنا المنافقين والمؤمنين الصادقين.
أما المنافقون فقد وصفهم بأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأنهم بخلاء عن الإنفاق في سبيل الله، وأنهم ينسون ذكر الله، وأنهم فاسقون خارجون عن طريق الحق، داخلون في طريق الضلالة، ثم ذكر الله ما أعده لهم من العذاب المقيم الخالد في نار جهنم. ثم ذكر الله عز وجل أن ما سيصيبهم قد أصاب أمثالهم من السابقين، وقد كانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فأحبط الله أعمالهم وجعل عاقبتهم النار. وهؤلاء يسيرون على طريق أولئك في التمتع في الدنيا، والخوض في الكذب والباطل، فالطريق واحدة والنهاية واحدة: النار وبطلان العمل، ثم وعظ الله هؤلاء المنافقين بأن ذكرهم بما أصاب الأمم السابقة عدلا منه، فليحذروا أن يصيبهم ما أصابهم.
ثم عرف الله المؤمنين بأنهم متناصرون متعاضدون فيما بينهم، وأنهم أمرة بالمعروف، نهاة عن المنكر، مقيمون للصلاة، مؤتون للزكاة، طائعون لله والرسول فيما أمر ونهى، هؤلاء هم المؤمنون الصادقون، وقد وعدهم الله أن يرحمهم بما اتصفوا