الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، وهذا من كثرة جهلهم، وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، فبدلا من أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه قالوا ما قالوا
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فيه دلالة على أن تعذيبهم ورسول الله بين أظهرهم غير مستقيم، لأنه بعث رحمة للعالمين، وسنته عز وجل ألا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم، ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، أو لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. أو معناه نفي الاستغفار عنهم، ولذلك عذبهم فيما بعد بتسليط المؤمنين عليهم يوم بدر
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، ومن ذلك إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منه، فذلك أعظم الصد وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي وما كان للمشركين مع إشراكهم وعداوتهم لدين الله، أن يستحقوا أن يكونوا ولاة أمر الحرم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي إن أولياء الحرم إلا المسلمون، ويحتمل أن يكون المراد به وما كان المشركون أولياء الله، إن أولياء الله إلا المتقون وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك أي من استحق ولاية الله، أو ولاية الحرم
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي صفيرا وَتَصْدِيَةً أي وتصفيقا فَذُوقُوا الْعَذابَ أي عذاب القتل والأسر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.
فوائد:
1 -
يلاحظ أن هذه المجموعة قد عرضت نوعا من أنواع الفرقان، وذلك أن أمة كأهل مكة في سوء أدبها مع الله ومع كتبه، وفي مثل كبرها وتعنتها ومحاربتها للحق، وفي مثل كيدها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخطيطها ضده كيف كان عاقبة أمرها؟ إفساد كيدها وهزيمتها وقتل عظمائها وأسرهم، كل ذلك أنواع من الفرقان الذي وعد الله المتقين به في نهاية المقطع السابق، وفي المجموعة معان أخرى، منها ما يفيد استحقاق الكافرين للعذاب والقتل، ومنها ما يعرفنا على بعض سنن الله في موضوع العذاب وإنزاله، وكل هذه
المعاني تمضي على نسق السياق العام للسورة، فيما فيه تفصيل لفريضة القتال، وأسبابها، وحكمها، وما تقتضيه، وما يلزم لتنفيذها.
2 -
في سبب نزول قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ .. يذكر ابن كثير عدة روايات يرد بعضها ويثبت بعضا فلنذكر ما أثبته:
روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي .. عن ابن عباس: أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل أدخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير، والنابغة، إنما هو كأحدهم. قال:
فصرخ- عدو الله- الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي. والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه؛ فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم قالوا: صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، قال أبو جهل- لعنه الله-: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي:
هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، أخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك
بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال: 30) وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (الطور: 30) فكان ذلك اليوم يسمى الزحمة للذي اجتمعوا من الرأي، وعن السدي: نحو هذا السياق، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 76) وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك. وروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. (يس: 1: 9) روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عكرمة ما يؤكد هذا. وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه .. عن ابن عباس قال:
دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي قال: «وما يبكيك يا بنية؟» قالت: يا أبت وما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر، يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال:«يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطئوا رءوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال:«شاهت الوجوه» فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا» ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وروى الإمام أحمد .. عن ابن عباس في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الآية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم. فقالوا:
أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال».
3 -
قص سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم أن القائل عن القرآن أنه أساطير الأولين، وأنه قادر على أن يأتي بمثله، هو النضر بن الحارث لعنه الله، فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وإسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر، فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر، ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففعل ذلك، ولله الحمد، وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه، كما روى ابن جرير .. عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا: عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر ابن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول» فأمر رسول الله بقتله،
فقال المقداد: يا رسول الله أسيري؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم اغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت، قال: وفيه أنزلت هذه السورة وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. (الأنفال: 31)
4 -
وأما الذين قالوا: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ وأشباه ذلك فيبدو أنهم كثيرون، منهم أبو جهل، كما تذكر بعض الروايات، ومنهم النضر كما تذكر روايات أخرى، ومنهم عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وقد أسلم.
5 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قد
قد» ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك ويقولون: غفرانك فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار، وروى الترمذي .. عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الله علي أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» .
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه
…
عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» . ثم قال الحاكم صحيح الإسناد، وروى الإمام أحمد .. عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«العبد آمن من عذاب الله، ما استغفر الله عز وجل» .
6 -
وبمناسبة قوله تعالى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ يذكر ابن كثير آثارا وأحاديث ننقلها مع حذف الأسانيد:
روى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك؟ قال: «كل تقي» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ.
وروى الحاكم في مستدركه .. عن رفاعة قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال:
«هل فيكم من غيركم؟» فقالوا: فينا ابن أختنا، وفينا حليفنا، وفينا مولانا، فقال:
«حليفنا منا، وابن أختنا منا، ومولانا منا. إن أوليائي منكم المتقون» . ثم قال: هذا صحيح. وقال عروة والسدي. ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ: قال: هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا.
7 -
وقد فسر ابن عباس قوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، تصفر وتصفق. وقال ابن عمر في تفسيرها: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون. وحكى عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه.