الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة، ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض، والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ* وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ* وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. فهو يشي بثقل هذا العبء- عبء دعوة الناس- ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل، والتواءات وأغراض وشهوات، وغفلة وثقلة وتقاعس. وضرورة الصبر .. وضرورة اليسر.
وضرورة السير أيضا في الطريق. ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق ..
الاستماع والإنصات إلى القرآن .. وذكر الله في كل آن وفي كل حال. والحذر من الغفلة والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ.
المعنى العام للقسم:
يبدأ القسم بأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر إذ استخرج الله ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، وإنما فعل ذلك ربنا حتى لا يحتجوا عليه بغفلتهم أو باتباعهم لشرك آبائهم.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم خبر من أكرمه الله بتعريفه بآياته فكان أن تركها وتخلى عنها وخالفها واستحوذ عليه الشيطان، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ فكان من الهالكين الحائرين البائرين. ولو أن الله أراد أن يرفعه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتاه إياها لفعل. ولكنه مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها
ونعيمها، وغرته كما غرت غيره، فأصبح كالكلب في لهثه في كلتا حالتيه، إن زجر وإن ترك، وهذا مثل كل من كذب بآيات الله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص هذه القصص من أجل أن يتفكروا، ثم ذكر الله- عز وجل أن من هداه الله فإنه مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة وهو من الخاسرين.
ثم يذكر القسم أن الله جلت حكمته قد خلق جهنم وخلق لها أهلها وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. وأهل النار هؤلاء المهيئون لدخولها، قلوبهم لا تفقه الحق ولا تعقله، وأعينهم لا تبصر الآيات، وأسماعهم لا تسمع الموعظة، فهم لا يسمعون الحق ولا يعونه، ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في ما يقيتها. بل هم أضل من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا ناداها ودعاها، وإن لم تفقه كلامه ولأنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به، ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده.
ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه، وهؤلاء هم أهل الغفلة عن الله وآياته ودينه وشريعته. ولكي لا نكون كهؤلاء الغافلين عن آيات الله التي تدل على أسمائه الحسنى. ذكرنا الله عز وجل بأن له الأسماء الحسنى، وأمرنا أن نسميه بها، وأن نترك الملحدين بأسمائه، بالإعراض عنهم، وانتظار ما أعد الله لهم من عذاب جزاء أعمالهم.
ثم بين الله عز وجل أنه إذا كان قد خلق للنار أهلها- وهم من لا عقول لهم- فإنه قد خلق كذلك ناسا قائمين بالحق قولا وعملا. يقولون الحق ويدعون إليه، وبالحق يعملون وبه يقضون، والحق: هو ما أنزله الله، هو آياته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء إذن هم المؤمنون بآيات الله العاملون بها، وفي مقابل هؤلاء يوجد المكذبون بآيات الله.
فهؤلاء من سنة الله بهم أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، والتقلب في الجاه، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شئ، ثم يزيدهم الله إملاء لهم واستدراجا وهم يجهلون سنة الله هذه، ولا يعلمون أن هذا من إملاء الله لهم، وأن الله سيضربهم الضربة القاصمة. وهو القوي الشديد، الفعال لما يريد. وإذا استقرت في القلب معرفة صفات الكافرين واستدراج الله لهم، دعاهم الله عز وجل إلى التفكر في وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنهم سيهديهم التفكر إلى أنه ليس مجنونا،
بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، ثم دعاهم إلى النظر في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض، وفيما
خلق من شئ فيهما، ليتدبروا ذلك ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه. ومن فعله لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له. فيجب أن يؤمنوا به، ويصدقوا رسوله، وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان. ويعترفوا بالله وآياته وحاكميته، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله، وأليم عقابه، فإذا لم يهدهم التفكر والنظر إلى هذا وهذا، ولم يهدهم هذا القرآن إلى الإيمان فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد هذا التحذير وهذا الترهيب الذي جاءهم من عند الله يؤمنون؟ وبأي كتاب يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا، الحديث، وهذا القرآن الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله؟ ولما كان من مثار العجب أن يبقى إنسان كافرا مع وضوح أن محمدا رسول الله، ومع وضوح الآيات التي تدل على الله في هذا الكون، فقد بين الله عز وجل أن الأمر أمره، فإن من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد، ولا يضل الله إلا من يستحق الضلال، فذلك الذي يتركه الله متخبطا في ظلمات الضلال، ثم بين الله لنا سخف هؤلاء إذ يتركون التفكير فيما ينبغي، ويتركون العمل فيما ينبغي، ويسألون عما لا تقدم أو تؤخر معرفته، فهم يسألون عن الساعة، عن وقت وقوعها، وهم في الأصل مكذبون، فسؤالهم في الحقيقة استبعاد لوقوعها وتكذيب بوجودها، ومع أنهم مستبعدون ومكذبون فهم يتساءلون عن محطها، وأول وقتها، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كأنه هو من المتكلفين لمعرفة ما لم يرد الله أن يعرفه عليه، وهنا يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جوابين: الجواب الأول: أن الساعة لا يعرف علمها أحد إلا الله، والجواب الثاني أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل هو مفوض أموره كلها إلى الله، وهو تحت مشيئته، وأنه لا يعلم المستقبل ولا اطلاع له على شئ منه، إلا بما أطلعه الله عليه، وأنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، فإذا اشترى شيئا لا يشتري إلا ما يربح به، ولا يبيع إلا في ذروة الربح.
ولأعد للسنة المجدبة من الخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص، ولأجتنب ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقاه، فإذا لم يكن كذلك فذلك دليل على أنه لا يعلم الغيب. ثم أمره أن يخبر أنما هو نذير للكافرين من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات، وهذا الإعلان في هذا المقام دليل على أن محمدا رسول الله، وهو الذي فات الكافرين التفكر فيه للوصول إليه.
لفت نظرهم إلى التفكر في وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أعطاهم دليلا من خلال إعلاناته عن نفسه بما يدل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما لفت نظرهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض، مما يوصل إلى التوحيد فكذلك يلفت نظرهم مرة أخرى إلى ما يوصل إلى التوحيد، وكيف أن ما يوصل إلى التوحيد وصل ببعض الناس إلى الشرك. فذكر أنه هو الذي خلق جميع الناس من آدم، وأنه خلق منه زوجه حواء. وأنه خلق منهما كل الأزواج. وأن هؤلاء الأزواج إذا مارسوا ما خلقه الله فيهم وما هيأهم له مما فيه بقاء الجنس أنهم في شوقهم إلى الولد، وفي حالة رهبهم من مسخه أو حظره، كانوا يطلبون من الله ويعدون الله من أنفسهم الشكر، فإذا ما أعطاهما الله ما أرادا قابلاه بالشرك. وتعالى الله أن يكون له شريك في ملكه وسلطانه وفي ألوهيته وربوبيته.
ومن خلال ما مر ويمر نلاحظ أن هذا القسم يعرض قضية الضلال والهداية بلغة العزة وجبروت الجلال، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، أنك تشعر أن هذا القرآن يعرض ما يعرض ويظهر لك في كل ما يعرض آثار عزة الذات العلية القاهرة، فلا تحس فيه آثار الضعف البشري لا في الدفاع ولا في الهجوم.
ولنعد إلى عرض معاني القسم: فبعد أن بين الله عز وجل أن الإنسان يشرك مع وجود ما يستدعي منه التوحيد، يناقش هؤلاء المشركين وينكر عليهم أن يشركوا معه غيره من مخلوقاته المربوبة له، المصنوعة بقدرته، التي لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر.
وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، سواء في ذلك الأصنام آلهة الوثنيين القدامى، وكثير من المعاصرين، أو الطبيعة كلها آلهة الملحدين، ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى هؤلاء المشركين بأن تستطيع آلهتهم أن تكيده شيئا، ثم أمره أن يعلن أن الله الذي أنزل عليه الكتاب هو يتولاه، ويتولى الصالحين، ومن تولاه الله فإن كل الخليقة لا تستطيع ضره إلا إذا شاء الله شيئا من ذلك؛ لحكمة هو يعلمها، ومن كان هذا شأنه في الغلبة والقهر والنصر فهو الإله الحق، لا هذه الآلهة المزعومة التي لا تستطيع نصرا لأنفسها ولا لعابديها، ولا تعي ولا تسمع ولا تبصر، وبعد هذا النقاش للمشركين، وإقامة الحجة عليهم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه أربعة أوامر: الأمر الأول بالعفو، والثاني فعل المعروف، والأمر الثالث الإعراض عن الجاهلين، والأمر الرابع الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وذكر الشيطان في آخر السورة تذكير ببدايتها. ثم بين الله تعالى أنه من رحمته بعباده المؤمنين المتقين، أنه إذا وسوس لهم الشيطان شيئا فإنه