الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكلفهم أعراضهم في النهاية .. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر- كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ- أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبا مباحا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار .. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله. إنما يعيش في وهم أو يفقد الإحساس بالواقع!.
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال .. ومهما تكن تكاليف العبودية لله فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلا على وزنها في ميزان الله.
أقول: في شريعتنا الإكراه الملجئ يبيح للإنسان أن يقول كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وهو موضوع سيمر معنا في سورة النحل
فائدة:
قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق عن مدين: هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال: واسمه بالسريانية يثرون، (قلت): مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة، وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ (القصص: 23) وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة. وفي سفر التكوين الإصحاح السابع والثلاثين في قصة يوسف يرد ذكر الإسماعيليين ويبدو أن المراد بهم العرب، ثم يرد ذكر المديانيين فيقول:(واجتاز رجال مديانيون تجار). فالمديانيون غير العرب وغير الفلسطينيين وعلى حسب خريطة ما يسمى بالكتاب المقدس فإن مدين تمتد شرقي وغربي خليج العقبة.
وبعد أن قص الله علينا ما فعله بأقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب فإن تعقيبا على هذا كله يأتي في هذا المقطع: يقول صاحب الظلال: «ثم يقف سياق السورة وقفة للتعقيب على ذلك القصص- وفق منهج السورة- فيكشف في هذا التعقيب عن خطوات قدر الله بالمكذبين .. كيف يأخذهم بالبأساء والضراء لعل قلوبهم تصحو وترق، وتلجأ إلى الله وتتضرع إليه، فإذا لم تستيقظ هذه القلوب ولم تنتفع بالابتلاء، أخذهم الله بالسراء- وهي أشد في الابتلاء- حتى يزدادوا عن قدر الله غفلة ويظنون
الحياة لهوا ولعبا. وعندئذ يأخذهم الله بغتة على حين غفلة: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ! فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
وهنا يكشف السياق كذلك عن العلاقة بين القيم الإيمانية وسنن الله في أخذ الناس، حيث لا انفصال في خطوات قدر الله بين هذه السنن وتلك القيم. هذه العلاقة التي تخفى على الغافلين لأن آثارها قد لا تبدو في المدى القريب؛ ولكنها لا بد واقعة في المدى الطويل. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ويعقب الكشف عن خطوات قدر الله بالمكذبين؛ وسننه وعلاقتها بالقيم الإيمانية في حياة البشر، لمسات من التهديد تهز القلوب، ولفتات إلى مصارع المكذبين توقظ
الغافلين: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وينتهي هذا التعقيب بلفتة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن هذا القصص؛ وتلخيص لأمر الأقوام التي كذبت من قبل؛ ووصف لحقيقة حالهم ونسيانهم لعهد الله معهم على الاعتراف بألوهيته ووحدانيته؛ وعدم جدوى الآيات والبينات والخوارق التي جاءهم بها رسلهم بسبب تعطل فطرتهم وغفلة قلوبهم: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ.
ولنعرض التفسير الحرفي لهذا التعقيب الذي يأتي كدرس بين قصص من ذكر وقصة موسى وفرعون:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ يقال لكل مدينة قرية إذ المعروف أن الأنبياء ترسل في الحواضر إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ أي: بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ أي:
الضر والمرض وهذا الأخذ لاستكبارهم عن اتباع نبيهم فعاقبهم الله بنقصان النفس والمال لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة والصحة حَتَّى عَفَوْا أي حتى كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم: عفا النبات إذا كثر وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي قالوا هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك، وما هو بعقوبة الذنب، ولا رب ولا رسول، فكونوا على ما أنتم عليه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بنزول العذاب
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى المذكورة أو كل قرية مطلقا آمَنُوا وَاتَّقَوْا آمنوا بالله ورسله، واتقوا الشرك والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي المطر والنبات، أو لآتيناهم بالخير من كل وجه وَلكِنْ كَذَّبُوا بالله وآياته ورسله فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بكفرهم وسوء كسبهم.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي الكافرون منهم أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا أي وقت بيات وَهُمْ نائِمُونَ
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي وهم يشتغلون بما لا يجدي عليهم. والاستفهام في الآيتين للإنكار والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلا، أو ضحى
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي:
أخذه العبد من حيث لا يشعر، وقال بعضهم: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه ثم أخذهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار
أَوَلَمْ يَهْدِ أي: يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي: أو لم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ونحن نختم على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الوعظ
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها أي تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها
لم نقصها عليك وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي عند مجئ الرسل والبينات بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بما كذبوا من قبل مجيء الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل أي: استمروا على التكذيب من لدن مجئ الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي لأكثر الناس مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ أي وإنه أي: وإن الشأن والحديث وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي لخارجين عن الطاعة ومعنى ما وجدنا هنا ما علمنا وهل المراد بأكثرهم الأمم المذكورون- فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجاهم ليؤمنن ثم أنجاهم ولم يفوا- أو المعنى: إن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان؟.
قال الألوسي:
والكلام على تقدير مضاف أي: ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم، فإنهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، وإلى هذا ذهب قتادة، وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعاهدون ولا يوفون، وقيل المراد بالعهد:
ما وقع يوم أخذ الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب، وأبي العالية، وقيل المراد به:
ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى، بنصب الدلائل والحجج، وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى: مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وقيل: هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم.
وقال صاحب الظلال في الآية الأخيرة:
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ
…
«والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا
…
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف، كما يقع في كل جاهلية. إذ تظل الأجيال تنحرف شيئا فشيئا حتى تخرج من
عهد الإيمان وترتد إلى الجاهلية.
وأيا كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. وإنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ منحرفين عن دين الله وعهده القديم ..
وهذه ثمرة التقلب .. ونقض العهد، واتباع الهوى
…
ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيما على طريقته، مسترشدا بهداه، فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق .. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف.».
وتعليقا على هذا التعقيب الذي جاء بعد قصص أقوام عذبوا والذي جاء خاتمة للمقطع الأول من القسم الثاني في السورة، والذي يأتي بين يدي قصة موسى وفرعون، وقصة موسى مع قومه تعليقا على هذا التعقيب يقول صاحب الظلال:
«هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب .. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين، ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل ..
أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء، لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله وتعرف ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون
…
كل ذلك للابتلاء .. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافا بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء. ولم يتدبروا حكمته في هذه الغفلة في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله .. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار.