الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النموذج على النصر الرباني، ولو تخلفت بعض أسباب النصر المادية، كما بينا كيف أن معركة بدر قد تركت آثارها البعيدة على عقلية المسلمين القتالية من يومها حتى هذه اللحظة، فمن يومها لم يعد المسلمون يكترثون بعدة أو عدد، مع بذلهم الجهد لتحصيل العدة والعدد؛ ثقة بنصر الله، فانظر أي خير للإسلام والمسلمين تولد عن هذه الغزوة، مع كراهة المسلمين يومها لدخولها.
2 -
في فن الحرب يقال: أنك إذا أردت أن ترفع معنويات الجند، فاجعلهم أول معركة يدخلونها يحققون نصرا، ولو كان نصرا بسيطا، فإن ذلك يرفع معنوياتهم، والملاحظ أن الله قد رزق المسلمين نصرا عظيما في أول معاركهم، وكان في ذلك ارتفاع لمعنويات هذه الأمة، ليس فقط في جيلها الأول، بل في كل أجيالها، فليلاحظ المجاهدون هذا المعنى.
3 -
وكنموذج على الجدال الدال على كراهة القتال يوم بدر يروي ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها؟» فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا:«ما ترون في قتال القوم؟ فإنهم قد أخبروا بخروجكم؟ فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير، ثم قال ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم. قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وذكر تمام الحديث.
كلمة في السياق:
من أعظم ما يدل على صواب ما اتجهنا إليه في سيرنا هذا في ربط القرآن بعضه ببعض، وإظهار وحدته الكبرى مجئ الكاف في قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وبيان ما قلناه: أن ننظر ما قاله المفسرون عند هذه الكاف وما نقوله.
قال ابن جرير- كما نقله ابن كثير-: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله، ثم روى عن عكرمة نحو هذا. قال ابن كثير: ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة- وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم- فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره، لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد؛ رشدا وهدى، ونصرا وفتحا، كما قال تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
وقال النسفي في تقدير هذه الكاف: والتقدير قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون.
وذكر ابن كثير عن ابن جرير أقوالا أخرى لتخريج هذه الكاف.
وأقول: لو أنك قرأت الآيات هكذا:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ
…
ألا ترى الربط على أتمه وأحكمه، فهذه الآيات مثل على ما يحب وهو شر، وعلى ما يكره وهو خير، وفي شأن القتال بالذات، وعلى هذا الاتجاه أقول: إن المحذوف الذي ترتبط به الكاف في الآية هو ما تتعلق به الكاف لو أن آية البقرة قد سبقتها.
إن من أبغض الأمور إلى نفسي أن أتكلف أو أتعسف في فهم القرآن، أو أن أحمل كتاب الله ما لا يحتمل، وهذا الذي اتجهت إليه في إبراز الوحدة في السورة الواحدة، وإبراز الوحدة ما بين سور القرآن كلها على نسق واحد، ونظام واحد، وإن لم أسبق إليه فإني أسأل الله ألا أكون متعسفا أو متكلفا.