الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانية، مع ملاحظة أن حكم الله في الأسير إذا وقع في الأسر مرة ثانية بعد إطلاق سراحه أن يقتل، ولو أننا قلنا إن هذه الفقرة فيها توجيه لقيادات المسلمين، ماذا عليها أن تفعل، وكيف ينبغي أن تكون، وكيف ينبغي أن تكون تطلعاتها وتصرفاتها لا نكون مبعدين.
المعنى الحرفي للفقرة الأولى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة فاثبتوا ولا تفروا واللقاء اسم غالب للقتال وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به، داعين له على عدوكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، أشغل ما يكون قلبا، وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، وإن كانت متوزعة عن غيره
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل شئ ومن ذلك أوامر الجهاد وأوامر المعركة وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي دولتكم وسلطانكم وَاصْبِرُوا أي في القتال مع العدو وغيره إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي يعينهم ويحفظهم
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ أي كمن جاء إلى بدر من المشركين في بطرهم وريائهم، نهى المسلمين أن يكون خروجهم للقتال كخروج هؤلاء بطرين مراءين بأعمالهم، وهذا يقتضي أن يكونوا في خروجهم من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله، مخلصين أعمالهم لله. والبطر: أن تشغل الإنسان كثرة النعم عن شكرها وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه والمعنى: ولا تكونوا بخروجكم كهؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي عالم بأعمالهم وهذا تهديد لهم ووعيد، وهكذا بدأ المقطع بتوجيه المؤمنين إلى الآداب الربانية في القتال، ليصل إلى الكلام عن أهل بدر من المشركين وخروجهم ونفسيتهم كنموذج للعقلية الكافرة والنفسية الفاجرة، التي طبيعتها البطر والفخر والكبر والصد عن سبيل الله. هذه النفسية نهانا الله عز وجل أن نكون مثلها، وبعد أن صور لنا هذه النفسية يقص علينا جل جلاله ما نعرف به هذه النفسية، وذلك من خلال عرضه صفحة من صفحات معركة بدر التي هي النموذج الخالد للصراع بين الكفر والإيمان وأهلهما:
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج لحربه وما هم عليه من فسوق ومجون
وضلال وكفر وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب كائن لكم من الناس أبدا، وهذه طبيعة الشيطان الغرور وينمي عند أتباعه الغرور، وعلى المسلمين ألا يأبهوا لغرور أعداء الله وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي وإني مجير لكم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي فلما تلاقى الفريقان نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي نكص الشيطان هاربا على عقبيه أي رجع القهقرى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ أي الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أي أخشى عقوبته، وكذب عدو الله، ما به مخافة الله، ولكنه علم أنه لا قوة له ولا منعة، وتلك عادة عدو الله مع من أطاعه وانقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن يريد أن يعاقبه
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ في المدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي المنافقون، أو الذين هم على حرف، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أن المسلمين غرر بهم دينهم، حتى تجرءوا على القتال، مع ما هم فيه من قلة وضعف، والجواب وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي يكل إليه أمره فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب، ومن غلبته أنه يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي حَكِيمٌ ومن حكمته أنه لا يسوي بين وليه وعدوه، ولذلك فإنه ينصر وليه
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي يقبضون أرواحهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ أى يضربون وجوههم إذا أقبلوا، وظهورهم وأستاههم إذا أدبروا وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقولون لهم ذوقوا مقدمة عذاب النار، أو وذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به، أو يقال لهم ذلك يوم القيامة والمعنى لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بما كسبت وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبسبب أن الله عادل لأن تعذيب الكفار من العدل
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الدأب: العادة. والمعنى: دأب هؤلاء الكافرين مثل دأب آل فرعون والذين من قبلهم الذي دأبوا عليه أي داوموا عليه كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ والمعنى أن هؤلاء جروا على عادتهم في التكذيب فأجري عليهم مثل ما فعل بهم من التعذيب
ذلِكَ أي العذاب والانتقام بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا ما بهم من الحال. نعم لم يكن لآل فرعون وأمثالهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة. لكن كما تتغير الحال
المرضية إلى المسخوطة تتغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها. ومشركو مكة كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله مكذبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كرر ذلك للتأكيد وزاد هنا بيانا بتفصيل نوع العذاب وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ أي بماء البحر وَكُلٌّ أي من آل فرعون ومن قبلهم ومشركي مكة الذين عذبهم بيد المؤمنين يوم بدر كانُوا ظالِمِينَ أي أنفسهم بالكفر والمعاصي. وهكذا علمنا في هذا المقطع استحقاق الكافرين للعذاب الرباني، فإذا كان الأمر كذلك علمنا لماذا لا يجوز أن نكون مثلهم، وعلمنا لماذا أمرنا بقتالهم. فهذه الآيات في وسط المقطع هي تعليل لما قبلها وما بعدها. فما بعدها كلام عن الكافرين، وكون نقض العهد من صفاتهم وعقوبتهم على ذلك، وأن الكافرين لا يعجزون. وأمر بالإعداد المادي. وأمر بالتوكل على الله الذي يتولى أولياءه ويعذب أعداءه، وكل هذه المعاني مرتبطة بما مر.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلإصرارهم على الكفر لا يتوقع منهم الإيمان
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي في كل معاهدة وَهُمْ لا يَتَّقُونَ أي لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون بما في الغدر من العار والنار، جعل الذين كفروا شر الدواب، ثم خص منهم الناقضين للعهود. قال النسفي: وجعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون، وشر المصرين الناكثون للعهود. أليس هؤلاء يستحقون العذاب
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي ففرق بقتلهم شر قتلة من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد؛ اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم وبتعبير مختصر: افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم، وبتعبير أخصر:
اضربهم ضربة قاصمة تكون عبرة لغيرهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل المشردين من ورائهم يتعظون. هذا هو الموقف الذى فرضه الله من الغادرين، وهو موقف لا يستطيعه المسلمون إلا إذا كانوا على أعظم أنواع الجاهزية للقتال بالعتاد والتخطيط والسلاح والتدريب، ومن ثم نلاحظ أنه في هذا السياق يأتي الأمر بالإعداد كما سنرى
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ أي معاهدين خِيانَةً أي نكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ أي على استواء منك ومنهم في
العلم بنقض العهد، أي حتى تكونوا أنتم وإياهم حاصلين على استواء في العلم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أي الناقضين للعهود، وهذا الموقف كذلك يحتاج من المسلمين لأن يكونوا على أنواع الاستعداد للقتال، وأن يكون رصدهم لعدوهم قويا،
ثم ذكر الله المسلمين بشيئين: عجز الكافرين أمام قدرته، ووجوب الإعداد فقال وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم، أو وصلوا إلى حال لا يغلبون معها إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم، كيف والطالب الله ثم جنده، وهذه بشارة للمؤمنين وشحذ لهممهم فلا يبالون بالقوة الكافرة مهما بلغت، ثقة بنصر الله وتدبيره
وَأَعِدُّوا لَهُمْ أي للكافرين جميعا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي مهما أمكنكم قال ابن كثير: أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، والقوة مدلولها واسع، وخص الرسول عليه الصلاة والسلام بالذكر منها الرمي فقال:«ألا إن القوة الرمي» ويدخل في ذلك إعداد كل ما يرمى به من المدافع إلى القنبلة الذرية إلى غير ذلك وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي ومن جنس ما يركب للقتال كالخيل، فدخل في ذلك البارجة والطائرة والدبابة وغير ذلك تُرْهِبُونَ بِهِ أي بهذا الإعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ أي الكافرين، وهذا عين ما يسمى حاليا الآن بمبدإ القوة من أجل السلام، ولكنه هنا سلام أهل الإسلام وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غيرهم من المنافقين أو المعاهدين الذين يفكرون بنقض العهد أو غير ذلك لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفى لكم جزاؤه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي في الجزاء بل تعطون على التمام. بدأ الآية في الأمر بالإعداد، وختمها بالأمر بالإنفاق؛ لأن الإعداد يحتاج إلى إنفاق
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ أي وإن مالوا للصلح فَاجْنَحْ لَها أي فمل إليها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال وغيرها الْعَلِيمُ بالأحوال كلها. بدأ بالموقف ممن ينقض الميثاق، ثم بالموقف ممن يخشى منه نقض الميثاق، وجعل المسلمين في الوضع المناسب لكل الاحتمالات. ثم أذن لهم بالمصالحة وعقد المعاهدات، متوكلين على الله بعد أخذ الأسباب كلها،
ثم قال مطمئنا وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ أي أن يمكروا ويغدروا فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي كافيك الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي قواك بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد التعادي الطويل بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي