الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه هي مقدمة المقطع، وفيها أمر بجهاد الكافرين والمنافقين، وتعليل لما استحق به هؤلاء المنافقين أن يجاهدوا. وجهاد المنافقين إما أن يكون جهاد حجة وغلظة، وإما أن يكون بالقتل والقتال، وإما أن يكون بإفساد المخططات على حسب ما هم فيه، وما يحتاجه جهادهم.
قال ابن كثير: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة. وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وسيف للكفار وأهل الكتاب قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وسيف للمنافقين جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ. وسيف للبغاة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير، وقال ابن مسعود في قوله تعالى جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم. وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم. وعن مقاتل والربيع مثله، وقال الحسن وقتادة ومجاهد:
مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم، وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا، بحسب الأحوال. والله أعلم». اه. كلام ابن كثير.
لاحظنا قوله رحمه الله (وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير) وقد أظهر المنافقون النفاق في عصرنا، وأصبحت لهم الشوكة والسلطان، وكل يوم يأتي يزداد الأمر شدة، والمسلمون متقاعسون عن القتال، متراخون عنه، يتهيبون في ذات الله، خوفا من لسان كافر أو منافق، فأين منهم قوله تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.
فوائد:
- وفي سبب نزول قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا
…
نذكر هذه الروايات: قال عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت؛
أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها، فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخفت أن ينزل في القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخلط بخطيئته، فقلت: يا رسول الله، أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك، قال:
فدعا الجلاس فقال: «يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟» فحلف، فأنزل الله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. وقال محمد بن إسحاق: كان الذي قال تلك المقالة- فيما بلغني- الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عليه رجل كان في حجره، يقال له عمير بن سعد، فأنكرها، فحلف بالله ما قالها، فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع، وحسنت توبته، فيما بلغني. وقال ابن جرير .. عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة، فقال:«إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم فأنزل الله عز وجل يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. وقوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في عبد الله بن أبي، هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: نزلت في أناس أرادوا أن
يتوجوا عبد الله ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي، في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية، وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة .. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقود به، وعمار يسوق الناقة- أو أنا أسوقه وعمار يقوده- حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، قال فانبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، فصرخ بهم، فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل عرفتم القوم؟» قلنا: لا يا رسول الله- وقد كانوا متلثمين- ولكنا قد عرفنا الركاب قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. وهل تدرون ما أرادوا؟» قلنا: لا، قال «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، فيلقوه فيها» . قلنا: يا رسول الله أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: «لا أكره أن
تتحدث العرب بينهم أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم- ثم قال- اللهم ارمهم بالدبيلة» قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك» . وروى الإمام أحمد
…
عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة «قد، قد (1)» حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط نزل ورجع عمار فقال:«يا عمار، هل عرفت القوم؟» فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه، قال: فسأل عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلا، فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون، وهم متلثمون، فأرادوا سلوك العقبة، فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر حذيفة فرجع إليهم، فضرب وجوه رواحلهم، ففزعوا ورجعوا مقبوحين، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم، وما كانوا هموا به من الفتك به، صلوات الله وسلامه عليه، وأمرهما أن يكتما عليهم. وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق إلا أنه سمى جماعة منهم فالله أعلم. وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي، ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم .. عن أبي الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة، وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذا سألك، فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب الله
(1) أي حسبك.
ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرة فمشى فقال: إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوما قد سبقوه، فلعنهم يومئذ. ويشهد لها أيضا ما رواه مسلم أيضا
…
عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط: ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار، يظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم» ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره- أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء- قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله أعلم. وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ثم روى .. عن الزبير بن بكار أنه قال: هم معتب بن قشير، ووديعة بن ثابت، وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قيظى، والحارث بن سويد، وسعد بن زرارة، وقيس بن فهد، وسويد وداعس من بني الحبلى، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيت، وسلالة ابن الحمام، وهما من بني قينقاع أظهروا الإسلام.
وبعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين، وذكر موقفا من مواقفهم التي تهيج على جهادهم، يستمر السياق في عرض مواصفاتهم، وخصائصهم، وسماتهم:
وَمِنْهُمْ أي ومن المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ أي المال لَنَصَّدَّقَنَّ أي لنتصدقن أي لنخرجن الصدقة منه وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بشكره بالإيمان والعمل الصالح على ما آتانا
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي أعطاهم الله المال ونالوا مناهم بَخِلُوا بِهِ أي منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي أعرضوا عن طاعة الله وهم مصرون على هذا الإعراض
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم، لأنه كان سببا فيه، فما أفظع العقاب، فليحذر أهل الإيمان من عمل يترتب عليه العقاب بالنفاق إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي أورثهم البخل نفاقا إلى يوم يلقونه جزاء فعلهم وهو يوم القيامة، ويمكن أن يكون المعنى: فأعقبهم هذا الطبع نفاقهم إلى يوم يلقون الله، ويمكن أن
يكون فأعقبهم الله جزاء على فعلهم نفاقا إلى يوم يلقونه يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي وبسبب كونهم كاذبين وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخلاف في الوعد والكذب علامتي