الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويجاوز الحد في الخلاف بأن يكون في حياته محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحقت له خالِداً فِيها جزاء على جرمه الذي لا جرم أعظم منه ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ وأي ذلة أكبر من دخول جهنم والخلود فيها؟
ثم وصف الله حال هؤلاء المنافقين في خشيتهم من الفضيحة فقال: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ أي تخبرهم بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الكفر والنفاق والمشاقة لله والرسول صلى الله عليه وسلم قُلِ اسْتَهْزِؤُا هذا تهديد لهم إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر ما كنتم تحذرونه أي ما كنتم تحذرون إظهاره من نفاقكم، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه لكان جوابهم لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فعليهم لعنة الله أي حرم يهتكون؟
قُلْ يا محمد أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم الكاذب لأنه حتى على فرض صدقهم فإن جلال الله ومقام آياته ومقام رسوله عليه الصلاة والسلام لا يعتدى عليه جدا أو هزلا، ثم خاطبهم الله موبخا
لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي قد أظهرتم كفركم باستهزائكم بعد إظهاركم الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بإصرارهم على النفاق وعدم توبتهم منه.
وهكذا انتهت هذه المجموعة بعد أن حددت مواصفات نوع من أنواع المنافقين في سياق وصف من يتخلف عن النفير العام بالنفاق، فمن تتبع أقوال وأحوال من يتخلف عن النفير فإنه يجدهم واحدا من هذه الأصناف التي مرت والتي ستمر معنا في هذه السورة بكل خصائصه، وقبل أن ننتقل إلى المجموعة السادسة التي تحدد بدقة شاملة صفات المنافقين بشكل عام، وصفات المؤمنين، وما أعد الله لكل، ننقل
الفوائد
التي لها علاقة بهذه المجموعة.
الفوائد:
1 -
هذه المجموعة تحدثت عن منافقين يطعنون في القيادة النبوية، ويتظاهرون بأعلى درجات الانتماء، ويحرصون على إرضاء الصف الإسلامي، وإذا حوسبوا على كثير من تصرفاتهم، ادعوا أنهم يفعلونها من قبيل اللطف والظرف والنكتة، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مقاتلين في سبيل الله، وهؤلاء منافقون، من حيث إن إرضاءهم للصف
مصطنع؛ ما داموا يحاربون الله ورسوله، ومن حيث كفرهم بالاعتداء على مقام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
قال قتادة في سبب نزول قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ .. قال:
ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير، قال فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد حق ولأنت شر من الحمار قال: فسعى بها الرجل [أي المسلم الصالح] إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال:«ما حملك على الذي قلت؟» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله الآية. [والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب].
3 -
وهذه روايات منها ما هو سبب نزول ومنها ما يفسر بعض آيات المجموعة فلنرها:
روى عبد الله بن وهب بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فقال عبد الله ابن عمر وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.
- وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني أمية ابن زيد، من بني عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي ابن حمير يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا- والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال- إرجافا وترهيبا للمؤمنين- فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر:«أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا» . فانطلق إليهم عمار فقال: ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله واقف على راحلته- فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال
مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر».
وقبل أن ننتقل إلى المجموعة السادسة نحب أن نذكر ببعض ما مر:
في المقطع الأول من القسم الثاني جاءت حتى الآية الأخيرة التي عرضناها خمس مجموعات:
المجموعة الأولى: حضت على النفير.
المجموعة الثانية: حكمت على الذين يستأذنون في ترك الجهاد بالنفاق.
المجموعة الثالثة: حدثتنا عن نوع من المنافقين يعتذرون عن الجهاد بعذر ظاهره شرعي.
المجموعة الرابعة: حدثتنا عن نوع من المنافقين طماع لماز.
المجموعة الخامسة: حدثتنا عن نوع من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاولون إرضاء المؤمنين ويبررون أفعالهم بأنها مزاح.
وها نحن وصلنا إلى المجموعة السادسة في المقطع.
وهي المجموعة الأخيرة فيه، وفيها تحديد لصفات المنافقين والمؤمنين، فليتأملها القارئ بدقة:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي كأنهم نفس واحدة، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيب لهم في ادعائهم أنهم من المسلمين، فإذا رأيت إنسانا مستور الحال يوالي منافقا مكشوف النفاق فاعلم أنه مظنة النفاق يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والعصيان والمخالفة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي عن الطاعة والإيمان، فإذا رأوا خيرا نهوا عنه، وإذا أقبل إنسان على تطبيق سنة أنكروا عليه، وإذا دعوا فإنهم يدعون إلى شر وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ شحا بالمبار والصدقات والإنفاق في سبيل الله ولا ينفي هذا أن يكون عندهم كرم جاهلي، وإنما المنفي أن يكونوا كرماء في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمره أو أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ أي فتركهم من رحمته وفضله إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي هم الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش، الذي هو اسم الفاسق الذي وصف به المنافقون حين بالغ النص في ذمهم، وهكذا وصف المنافقون بما يستطيع المسلم أن يكتشفهم من
خلال أوصافهم: ولاؤهم لبعضهم، أمرهم بالمنكر، نهيهم عن المعروف، بخلهم عن الإنفاق في سبيل الله، نسيانهم ربهم بترك الصلاة أو بالكسل فيها.
وبعد أن حدد الله صفات المنافقين ذكر ما أعد لهم وللكافرين من العذاب وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ في قوله تعالى (هي حسبهم) ما يدل على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملعونين وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم معهم في العاجل والآجل لا ينفكون عنه، والعذاب العاجل هو ما يقاسون من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن؛ خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونول العذاب إن اطلع على أسرارهم،
وبعد أن وصفهم الله وذكر ما أعده لهم ضرب لهم مثلا فقال كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم، أو فعلتم مثل الذين من قبلكم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً كانت أجسامهم أمتن، وأعمارهم أطول، وأولادهم أكثر، وجمعهم أكثر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي تلذذوا بملاذ الدنيا، والخلاق: النصيب فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فتلذذتم بحظكم من الدنيا كما تلذذ الذي من قبلكم بحظهم من الدنيا وبعضهم فسر الخلاق هنا بالدين، فيكون استمتاعهم بدينهم جعلهم إياه متعة يتمتعون بها استهزاء ومحل نكتة وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا الخوض: الدخول في الباطل واللهو، والمعنى: وخضتم في اللهو والباطل كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، وإنما قدم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ مع أن قوله تعالى: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ أي قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ أي مدائن قوم لوط ومعنى ائتفاكهن: انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم؛ لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر وتكذيب الرسل، وبعد أن وصف الله المنافقين وجعل مثلهم مثل من قبلهم في الخوض بالباطل والاستمتاع، ولفت نظرهم إلى