الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكم من كلمات براقة، وكم من مذاهب ونظريات، وكم من تصورات مزوقة، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين .. ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله، فيها من سلطانه- سبحانه- سلطان.
وفي ثقة المطمئن، وقوة المتمكن، يواجه هود قومه بالتحدي: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله .. إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال. كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله).
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي من آمن به بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدابر: الأصل أو الكائن خلف الظهر وقطع دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ نفى الإيمان عنهم وأثبت التكذيب؛ ليؤكد أن الاستئصال كان في محله. يقول صاحب الظلال: فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد. وهو ما عبر عنه بقطع الدابر. والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم! وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين. وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير.
فوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى على لسان هود اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يقول صاحب الظلال: (إنها نفس الرسالة، ونفس الحوار، ونفس العاقبة .. إنها السنة الماضية، والناموس الجاري، والقانون الواحد ..
إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة، وقيل: كان عددهم ثلاثة عشر .. وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام وهو الإسلام- كانوا يعبدون الله وحده، ما لهم من إله غيره، وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين. فهكذا قال لهم نوح: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم- وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع، وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد)
2 -
وبمناسبة رد قوم هود على هود عليه السلام واتهامهم إياه بالسفاهة يقول صاحب الظلال: (وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعا في غير تحرج ولا حياء: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ .. هكذا جزافا بلا ترو ولا تدبر ولا دليل.)
3 -
قال محمد بن إسحاق عن عاد: هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وفي سفر التكوين في الإصحاح العاشر أن من أولاد سام أرام ومن أولاد أرام عوص ولم يذكر من ولد عوص فهذا الذي أغفله السفر ذكره ابن إسحاق أن عادا بن عوص ويلاحظ أن إرم ذكره سفر التكوين باسم أرام قال ابن كثير: هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وذلك لشدة بأسهم وقوتهم .... وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل قال محمد بن إسحاق
…
عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة (1) حمراء ذات أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه. قال: لا: ولكني قد حدثت عنه، فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين قال: فيه قبر هود عليه السلام. رواه ابن جرير.
(أقول ولا زال أهل حضرموت يعرفون قبرا عندهم أنه قبر هود عليه السلام.
والله أعلم. قال ابن كثير: وهذا (إشارة إلى ما ساقه) فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن وأن هودا عليه السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسبا، لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شدد الله خلقهم شدد على قلوبهم
…
(أقول: المراد باليمن هنا اليمن كله الذي يشمل جنوبي الجزيرة العربية كلها. قال محمد بن إسحاق: كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله.
(1) المدرة: هو الطين الذي لا رمل فيه
4 -
والعرب يتناقلون كلاما كثيرا عن عاد، فلم يزالوا يتوارثون ما حدث لعاد فيزيدون وينقصون، وما قصه الله عنهم فيه كفاية للعبرة، وأجود ما نستطيع نقله ونطمئن إليه في هذا الباب ما رواه الإمام أحمد وغيره عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، هل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس؟
قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها، قال فجلست، فدخل منزله- أو قال:
رحله- فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت وسلمت، فقال: هل بينكم وبين تميم شئ؟ قلت: نعم وكانت لنا الدبرة (1) عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها،
فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطرك مضطرك؟ قال قلت: إن مثلي ما قال الأول:
معزى حملت حتفها (2)، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. قال هيه، «وما وافد عاد!» - وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه- قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له: قيل. فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان. فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها:
اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا قال: فما بلغني أنه بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل (أحد رجال سند الحديث) وصدق، قال: وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدهم قالوا: لا تكن كوافد عاد هكذا رواه الإمام، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير أيضا. هذا الحديث يبين أن قصة عاد كانت معروفة لدى العرب مألوفة لديهم لا بكل تفصيلاتها ولكن لم تكن غريبة عنهم، وكانوا يتناقلون خبرها جيلا بعد جيل ولكنا لم ننقل كل ما يقولونه لاحتمال الوهم فيه.
(1) الهزيمة لهم، والانتصار للآخرين.
(2)
مثل يضرب لمن يحمل ما فيه حتفه.
ولنا كلام سيأتي عن عاد إذا جاء محله فلنكتف الآن بما ذكرنا
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوة صالح عليه السلام هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ أضيفت الناقة إلى الله لأنها بتكوينه تعالى المباشر بلا صلب ولا رحم لَكُمْ آيَةً هذا بيان لمن هي له آية وهم ثمود لأنهم عايشوها فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ لأن الأرض أرضه، والناقة ناقته، فاتركوها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مئونتها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بأذى فلا تطردوها ولا تعقروها إكراما لآية الله فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إن مسستموها بسوء
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ يوحي هذا بأنه كان لثمود السلطان في أرض العرب بعد عاد وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وأنزلكم في الأرض التي أنتم فيها وهي أرضهم المعروفة حتى الآن بآثارها منهم ما بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي غرفا للصيف وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي للشتاء فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بمعصيتكم لله ورسوله
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي قال المستكبرون للمستضعفين لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ دل على أن المستضعفين كانوا كافرين ومؤمنين، وكلام المستكبرين للمستضعفين المؤمنين أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ سألوهم هذا السؤال على سبيل السخرية قالُوا أي المؤمنون إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ سألهم المستكبرون عن العلم بإرساله فجعلوا إرساله أمرا معلوما مسلما، كأنهم قالوا العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.
يقول صاحب الظلال في قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟
(وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف ولاستنكار إيمانهم به وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه. ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافا لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم والثقة في نفوسهم والاطمئنان في منطقهم .. إنهم على يقين من أمرهم فماذا يجدي التهديد والتخويف، وماذا تجدي السخرية والاستنكار
…
من الملأ المستكبرين؟: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ.