الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكائن البشري يشق طريقه؛ بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر؛ وبما وهبه من عقل مرجح، وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل؛ ومن الضبط والتقويم بهذا الدين، كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية؛ وأن يصطرع في كيانه الخير والشر؛ وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين، فتحق عليه سنة الله، وتتحقق مشيئته بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضل، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة يتحقق الهدى أو الضلال)
فصل: في تعقيبات على قصة آدم:
مما عقب به صاحب الظلال على قصة آدم هذه القطوف التي ننقلها استكمالا لأخذ عبر هذه الفقرة من المقطع:
إن الحقيقة الأولى التي نستلمها من قصة النشأة الإنسانية هي- كما قلنا من قبل- التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني، والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان والذي يجعل هذه النشأة قدرا مرسوما لا فلتة عارضة، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة.
…
والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية: هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية؛ وضخامة دوره المنوط به؛ وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها؛ وتنوع العوالم التي يتعامل معها- في حدود عبوديته لله وحده- مما يتناقض تماما مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدد قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية. ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل بخصائصه الإنسانية المتميزة، أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقا في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه! .. إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد لا تجعل من الإنسان «إلها» كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول، إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم.
والحقيقة الثالثة: أن هذا الكائن- على كل تفرده هذا- أو بسبب تفرده هذا- ضعيف في بعض جوانب تكوينه، حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل، من خطام شهواته .. وفي أولها ضعفه تجاه حب البقاء. وضعفه تجاه حب
الملك .. وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه، في جهد ناصب، لا يكل ولا يدع وسيلة من الوسائل!.
وقد اقتضت رحمة الله به- من ثم- ألا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير- كما سيجئ في آية تالية في معرض التعقيب على القصة- وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له
…
النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله. والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه .. وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته .. وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض «المحظور» عليه؛ لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف. وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى، فقد كانت هذه التجربة رصيدا له فيما سيأتي.
…
والحقيقة الرابعة: هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها، واستمرارها وضراوتها.
لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، وعلى اتباعه في كل ساعة ولحظة:
قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.
لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد، وأن ينظر لمزاولته على المدى الطويل .. اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة! ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله، لا يمكنهم من سلوكه وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه.
وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة. ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوي بالإيمان والذكر، والتقوي على إغوائه ووسوسته، والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله.». «وأخيرا فإن القصة والتعقيبات عليها- كما سيجئ- تشير إلى شئ مركوز في طبع الإنسان وفطرته. وهو الحياء من التعري
وانكشاف سوأته:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .. يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ. يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما.
وكلها توحي بأهمية هذه المسألة، وعمقها في الفطرة البشرية. فاللباس وستر العورة زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية. كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية.
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها .. والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس. وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة- في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة- هم الذين يريدون سلب «الإنسان» خصائص فطرته، وخصائص «إنسانيته» التي بها صار إنسانا. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته! وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة. وقد فقدت مقوماتها الإنسانية.
إن العري فطرة حيوانية. ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان. وإن رؤية العري جمالا هو انتكاس في الذوق البشري قطعا. والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة. والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة، فأما في الجاهلية الحديثة «التقدمية» فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى «الحضارة» بمفهومها الإسلامي الذى يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها.
والعري النفسي من الحياء والتقوى- وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية. وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس).