الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها .. يحذرهم الغفلة والغرة ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى .. ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها .. لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالات الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها
…
».
نقول:
1 -
في الربط بين العقيدة والحياة الاقتصادية للأمم يقول صاحب الظلال:
«إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان. إن الإيمان بالله وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟ ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله، نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى الإيمان ..
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه.
إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية وصدق في الإدراك الإنساني وحيوية في البنية البشرية ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود
…
وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة من العبيد للهوى ولبعضهم بعضا.
وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور في دفعة الحركة ودفعة الحياة وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج فلا يعتدي ولا يتهور ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح عاملة في الأرض متطلعة إلى السماء متحررة من الهوى والطغيان البشري عابدة خاشعة تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه فلا جرم تحفها البركة ويعمها الخير ويظلها الفلاح- والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له
علله وأسبابه الظاهرة إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود.
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها. وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد، ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال.
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة. وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيدا. ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمما- يقولون: إنهم مسلمون- مضيقا عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!
…
ويرى أمما لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ .. فيتساءل: وأين إذن هذه السنة التي لا تتخلف!.
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال.
إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون .. هم في الغالب لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم أو التقاليد- وما أولئك بالمؤمنين.
فالمؤمن لا يدع عبدا من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبدا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره .. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقا. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله».
2 -
وفي شرح سنة الله بالإملاء للظالمين يقول صاحب الظلال عند قوله تعالى:
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجا من شئ يعملونه، ولا تخوفا من أمر يصنعونه ..
والتعبير: «عفوا» - إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة. حالة قلة المبالاة. حالة الاستخفاف والاستهتار. حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء .. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفرادا وأمما- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئا، أو تحسب حسابا لشئ. فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار. ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان في يسر واطمئنان. وهم لا يتقون غضب الله ولا لوم الناس، فكل شئ يصدر منهم عفوا بلا تحرج ولا مبالاة، وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس. ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافا، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم: وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ..
وقد أخذنا دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء. وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء.
عندئذ .. وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجئ العاقبة وفق السنة الجارية. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله وأطلقوا لشهواتهم العنان فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال.
هكذا تمضي سنة الله أبدا. وفق مشيئته في عباده. وهكذا تحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة، ويحذرهم الفتنة
…
فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء .. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقا على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه ويعرضها