الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسورة الأعراف تبدأ بالأحرف (المص) فهي تبدأ بالأحرف نفسها التي ابتدئت بها سورتا البقرة وآل عمران، مع زيادة (ص) وكنا ذكرنا من قبل أن فواتح السور تؤدي خدمات متعددة منها أنها تعتبر مفاتيح من مفاتيح الفهم للوحدة القرآنية، وسيتضح هذا الموضوع معنا شيئا فشيئا وسنرى أن الحرف (ص) إذا وجد في سورة يكون علامة على شئ له صلة بهذا الموضوع. وكل ما
نقول
ه هنا: إن مجئ الأحرف الثلاثة التي بدئت بها سورة البقرة مع زيادة الحرف (ص) في قسم واحد يشير إلى انطلاقة جديدة بعد جولات:
لنتذكر أن سورة البقرة بدأت بقوله تعالى الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثم سارت حتى وصلت إلى قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ والصلة واضحة بين الآيتين هناك، فإذ تأتي سورة الأعراف مبدوءة بنفس الأحرف مع زيادة حرف الصاد، فكأنها تشير إلى ذلك الربط للانطلاق منه إلى تفصيل جديد، إن مجئ سورة الأعراف وابتداءها بقوله تعالى المص أي بالأحرف التي بدأت بها سورة البقرة مع زيادة «ص» التي فهم منها ابن عباس أنها تشير إلى التفصيل كما سنرى، والتي تفصل آية فيها حرف الصاد أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* كل ذلك فيه إشارات لمن تأمل. وسنرى أن لمجئ الصاد هنا زيادة على «الم» معنى خاصا له صلة في الدلالة على السياق القرآني العام، وهو شئ سنراه عند سورة «مريم» وسورة «ص» وهو مرتبط بذكر «ص» هنا، ومن ثم فإننا نؤخر الكلام عنه إلى هناك.
نقول:
1 -
قال الألوسي في تقديمه لسورة الأعراف: أخرج أبو الشيخ وابن حبان عن قتادة قال: هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وقال غيره إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مدني. وأخرج غير واحد عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ...... وكلها محكم، وقيل: إلا موضعين، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ فإنه نسخ بآية السيف، والثاني خُذِ الْعَفْوَ فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد، وادعى أيضا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ كذلك وفيما ذكر نظر»
2 -
ذكرنا من قبل أن الذين تكلموا عن الوحدة القرآنية، والمناسبات بين السور
إما أنهم تكلموا عن هذا الموضوع من خلال صلة أوائل السورة اللاحقة بأواخر السورة السابقة، أو من خلال الوحدة الموضوعية للقرآن بمعنى: أن المعاني القرآنية تتكامل شيئا فشيئا في هذا القرآن، وكنموذج على الشيئين معا نذكر ما قاله السيوطي في المناسبة بين سورة الأعراف وسورة الأنعام: قال:
ومناسبتها لما قبلها أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وأشير إلى ذكر المرسلين، وتعداد الكثير منهم، وكان ما ذكر على وجه الإجمال جئ بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحها وتفصيله، فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة، وقال سبحانه في قصة عاد جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وأيضا قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهو كلام موجز، وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الخ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ قال جل شأنه في مفتتح هذه فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الخ، وذلك من شرح التنبئة المذكورة، وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، وذلك لا يظهر إلا في الميزان؛ افتتح هذه بذكر الوزن فقال عزّ من قائل وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ثم من ثقلت موازينه: وهو من زادت حسناته على سيئاته، ثم من خفت وهو على العكس، ثم ذكر سبحانه أصحاب الأعراف وهم- على أحد الأقوال-: من استوت حسناتهم وسيئاتهم).
وكما ترى فإن في هذه اللفتات معاني صحيحة فالوحدة القرآنية لها أكثر من مظهر
3 -
ومما قدم به صاحب الظلال لسورة الأعراف هذه المقتطفات:
إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة ..
ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها- وكل جاهلية أخرى كذلك. مواجهة صاحب الحق
الذي يصدع بالحق، وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف .. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج، وتسلك في الطريق ..
نجد سورة الأعراف- وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك- تأخذ طريقا آخر، وتعرض موضوعها في مجال آخر. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري .. في مجال رحلة البشرية كلها من الجنة والملأ الأعلى، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها .. وفي هذا المدى المتطاول تعرض «موكب الإيمان» من لدن آدم «عليه السلام» إلى محمد عليه الصلاة والسلام تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل .. ويرسم سياق السورة في تتابعه: كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب. وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد، وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة؟ إنها رحلة طويلة .. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة وتقف منها عند معظم المعالم البارزة، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة ومعالمه قائمة، ومبدؤه معلوم، ونهايته مرسومة .. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة .. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى ..
لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء، ممثلة في شخصين اثنين .. آدم وزوجه ..
أبوي البشر .. وانطلق معهما الشيطان. [ممهلا] من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما، ومأخوذ عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك ومبتلى كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار، ليأخذوا عهد الله بقوة، أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم!.
انطلقت البشرية من هناك .. من عند ربها سبحانه .. انطلقت إلى الأرض تعمل وتسعى، وتكد وتشقى، وتصلح وتفسد، وتعمر وتخرب، وتتنافس وتتقاتل، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد .. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال .. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال
الرحلة المرسومة .. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم .. فقد انطلقت في مطلعه! .. وها نحن أولا نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال- أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها. تطلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل .. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا .. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ويلقى جزاءه .. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ..
ومع الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر؛ والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها، وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير .. وهذه الوقفات تجئ وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو وكما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة: كلمة تعقيب للإنذار والتذكير .. ثم يمضي.
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول .. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأول .. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام- وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود.
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما