الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السورة ومقطع، والقسم الثاني يتألف من أربعة مقاطع، المقطع الأول في قصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، والتعقيب عليها، وقد مر معنا، وسيأتي بعد المقطع الأول من القسم الثاني ثلاثة مقاطع كلها في بني إسرائيل.
المقطع الأول: فيه قصة موسى مع فرعون.
المقطع الثاني: فيه قصة موسى مع قومه.
المقطع الثالث: في بني إسرائيل: ما فعل الله لهم وبهم.
وكل من المقاطع الثلاثة يرينا كيف استقبلت الأمم هدى الله، وكيف عوقبت، ولو أننا تذكرنا مقدمة السورة التي جاء فيها: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.
ولو أننا تذكرنا المقطع الأول وما جاء فيه من نداءات لبني آدم لرأينا ارتباط وتلاحم مقاطع هذا القسم مع القسم الأول، فإذا عرفنا أن القسم الثالث يبدأ بالحديث عن أخذ الله العهد على بني آدم. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وأن القسم الأخير كله في تفصيل قضية العبودية والربوبية، وإذا ما تذكرنا ما جاء في نهاية المقطع الذي مر معنا. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ إذا تذكرنا هذا كله أدركنا تلاحم أقسام السورة ومقاطعها.
3 -
وفيما بين يدي المقاطع الثلاثة الآتية بعد التعقيب على مصارع أقوام ننقل ما قاله صاحب الظلال ونضعه تحت عنوان:
بين يدي الكلام عن المقاطع الثلاثة الآتية بالسورة
«وبعد الوقفة للتعقيب على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب تجئ قصة موسى- عليه السلام مع فرعون وملئه أولا، ثم مع قومه بني إسرائيل أخيرا .. وتشغل قصة موسى في هذه السورة أوسع مساحة وأكبر قدر شغلته في سورة واحدة من سور القرآن كلها، وقد وردت حلقات من قصة بني إسرائيل
في مواضع كثيرة، وذلك عدا الإشارات القصيرة إليها في مواضع من القرآن أخرى ..
وكانت أكثر القصص ورودا في القرآن كله- ولعل ذلك التفصيل في قصة هذه الأمة كان للحكمة التي أشرنا إليها من قبل- في هذه الظلال- في الجزء السادس في صحفتي (124 - 125) على النحو التالي:
«من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء
والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها، فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول، هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة، وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا، وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة، وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم، كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة، وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة، فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها: ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟
وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم؟ ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله، كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ووسائلهم كلها مكشوفة.
«ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير. وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة، ووقعت الانحرافات في عقيدتهم، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم
…
فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة- وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ، وتعرف مزالق الطريق وعواقبها، ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم؛ لتضم هذه التجربة- في حقل العقيدة والحياة- إلى حصيلة تجاربها، وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. ولتتقي- بصفة خاصة- مزالق الطريق ومداخل الشيطان وبوادر الانحراف على هدي التجارب الأولى.
«ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل، وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها وتنحرف أجيال منها، وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فترات من حياة بني إسرائيل، فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي التي عرفت ثم انحرفت، فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة؛ لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها. وينفض عنها الركام لجدته عليها وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول
مرة. فأما القلوب التي نوديت من قبل فالنداء الثاني لا تكون له جدته ولا تكون له هزته ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف وإلى الصبر الطويل!» .... الخ.
وقد وردت حلقات من قصة موسى- عليه السلام وبني إسرائيل من قبل في هذه الظلال المرتبة وفق ترتيب السور في المصحف- لا وفق ترتيب النزول- في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام .. ولكن إذا اعتبرنا ترتيب النزول فإن هذه الحلقات الواردة منها هنا في سورة الأعراف المكية تكون سابقة على ما ورد منها في السور المدنية، وذلك ظاهر من طبيعة عرضها هنا وطبيعة عرضها هناك. فهي هنا تعرض على طريق الحكاية والقصص، وهناك تعرض على سبيل مواجهة بني إسرائيل بها وتذكيرهم بأحداثها ووقائعها ومواقفهم فيها.
ولقد وردت القصة في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن كله- مكية ومدنيه- ولكن ورودها مفصلة اقتصر على عشرة مواضع في عشر سور منها ستة مواضع هي أكثرها تفصيلا. والذي ورد منها في سورة الأعراف كان هو أول تفصيل .. كما أنه هو أوسع مساحة وإن تكن الحلقات التي وردت في هذه المساحة أقل مما ورد منها في سورة طه.
وهي تبدأ هنا من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة. بينما تبدأ في سورة طه من حلقة النداء لموسى عليه السلام في جانب الطور، وتبدأ في سورة القصص من حلقة مولد موسى في فترة اضطهاد بني إسرائيل .. ويبدأ عرضها .. متناسقا مع جو السورة وأهدافها- بالتوجيه إلى عاقبة تكذيب فرعون وملئه وذلك منذ اللحظة الأولى في عرضها ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
ثم تمضي حلقات القصة ومشاهدها .. أولا .. في مواجهة فرعون وملئه .. وأخيرا في مواجهة بني إسرائيل والتوائهم وزيفهم وانحرافهم.
ولما كنا سنستعرض القصة- فيما بعد- بالتفصيل فإننا نكتفي هنا بالوقوف أمام معالمها البارزة وموحياتها الكلية:
إن موسى- عليه السلام يواجه فرعون وملأه بأنه رسول من رب العالمين:
وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ كذلك حين تقع المباراة بينه وبين سحرة فرعون فيغلبون ويؤمنون فإنهم يؤمنون برب العالمين. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وحين يهددهم فرعون
بالعذاب الرهيب فإنهم يتوجهون إلى ربهم ويعلنون أنهم عائدون إليه في حياتهم ومماتهم وبعثهم وفي أمرهم كله: قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ.
ثم إن موسى عليه السلام وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق فعند ما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وعند ما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام، وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام وتضمنه دين الله في جميع الرسالات، كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة.
كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية- حتى بعد بعثة موسى عليه السلام ذلك من مثل قولهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه، ومثل طلبهم رؤية الله جهرة، وإلا فإنهم لا يؤمنون ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه، إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها؟ ويقال إنها «تطورت» إلى التوحيد؟!.
كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله
وبين الجاهلية كلها، وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين، وكيف يحس فيه الخطر على وجوده، كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت:
إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ تبين مدلول هذه الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين، وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل، فإنه إذا كان الله رب العالمين فما يكون لعبد من عبيده- وهو فرعون المتجبر الطاغي- أن يعبدهم لنفسه فهم ليسوا عبيدا إلا لرب العالمين، إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس- وهم من العالمين- وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده، فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده وإلا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية، أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره لا يحكمهم بشرعه.
ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون- وسلطانهم المستمد منه- فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وما أرادوا، إلا أن هذه الدعوة إلى رب العالمين لا تحمل إلا مدلولا واحدا هو انتزاع السلطان من يد العبيد- الطواغيت- ورده إلى صاحبه- سبحانه- وهذا معناه- من وجهة نظرهم- الإفساد في الأرض أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية التي تغتصب سلطان الله- أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان، يكون هذا «قلبا» لنظام الحكم لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد، لبقية العبيد بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان: إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم وهددهم بأبشع العذاب والنكال. قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين. وأسلموا لله وحده وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت، إنها المعركة على العقيدة لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين، بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين، ومن ثم قالوا لفرعون ردا على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثم لجئوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فكان هذا فرقانا جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها.
ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات وما أرسله عليهم من الآفات ومواجهتهم لهذا كله بالعناء والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ
من خلال عرض هذا كله تبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق، ومدى مقاومته للدعوة إلى رب العالمين ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه بإنكار شرعية قيامه من أساسه، وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان لا إله إلا الله، أو أن الله هو رب العالمين إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه لأنها لا تعنيه، فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات
جدا بمدلولها الحقيقي فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية- بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله- لا يطيق هذه العصبة كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين، وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة والآيات تتوالى عليهم، والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين.
كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين من أخذهم بالبأساء والضراء، ثم أخذهم بالرخاء والسراء، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف، والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ.
ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة ففسقوا عن أمر الله- كما يجلو السياق القرآني ذلك- وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا، وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم- مرة بعد مرة- إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
لقد صدق وعيد الله، ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام، وإنما هي دورات لهم في التاريخ حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة.
وأخيرا فإن هذه السورة مكية وقد ورد فيها عن التواء بني اسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير .. بينما يزعم المستشرقون- اليهود والصليبيون سواء- أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يهاجم اليهود- بزعمهم- بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له، وأنه كان يحاسنهم في مكة وفي أول عهده بالمدينة فيقول- بزعمهم- قرآنا لا يهاجمهم فيه إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم، طمعا في إسلامهم له، فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم
…
وكذبوا فهذه سورة مكية تصف الحق في