الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا الحَدِيْث يختلف عن الحَدِيْث الأول مِمَّا دعى بَعْض العُلَمَاء إلى الحكم عليه بالاضطراب، قَالَ الإِمَام التِّرْمِذِي:((ضعف بَعْض أهل العِلْم حَدِيث عَمَّار عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في التيمم للوجه والكفين لما روي عَنْهُ حَدِيث المناكب والآباط)) (1).
وَقَالَ ابن عَبْد البر: ((كُلّ مَا يروى في هَذَا الباب فمضطرب مختلف فِيهِ)) (2). إلا أن بَعْض العُلَمَاء حاولوا أن يوفقوا بَيْنَ الحَدِيْث الأول والثَّانِي باعتبار التقدم والتأخر، وباعتبار أن الأول من فعلهم دُوْنَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الأثرم:((إِنَّمَا حكى فِيهِ فعلهم دُوْنَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَمَا حكى في الآخر أَنَّهُ أجنب؛ فعلّمه عليه الصلاة والسلام)(3).
وَقَالَ ابن حبان: ((كَانَ هَذَا حَيث نزل آية التيمم قَبْلَ تعليم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عماراً كَيْفِيَّة التيمم ثُمَّ علمه ضربة وَاحِدَة للوجه والكفين لما سأل عمارٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم)) (4).
وذهب الحنفية إلى ترجيح روايته إلى المرفقين لحديثين أحدهما حَدِيث أبي أمامة الباهلي وحَدِيث الأسلع (5).
وَقَالَ البَغَوِيّ: ((وما روي عن عَمَّار أَنَّهُ قَالَ: تيممنا إلى المناكب، فَهُوَ حكاية فعله، لَمْ ينقله عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم كَمَا حكى عن نَفْسه التمعك في حالة الجنابة، فلما سأل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمره بالوجه والكفين انتهى إليه، وأعرض عن فعله)) (6).
قُلْتُ: وما ذكر من توجيه عَلَى هَذَا النحو يشكل عَلَيْهِ أَنَّهُ ورد في الحَدِيْث الأول: ((فقام المسلمون مَعَ رَسُوْل الله فضربوا بأيديهم
…
)).
أثر حَدِيثي عَمَّار في اختلاف الفُقَهَاء
لهذين الحديثين السابقين أثر في الفقه الاسلامي، فَقَدْ بنيت عَلَيْهما اجتهادات وأبين ذَلِكَ في مسألتين للفقهاء، وسأبين ذَلِكَ في مسألتين:
المسألة الأولى: عدد ضربات التيمم
اختلف الفُقَهَاء رحمهم الله في عدد ضربات التيمم عَلَى قولين:
=
والدَّارَقُطْنِيّ 1/ 183، وأبو نُعَيْم في المستخرج (811)، والبَيْهَقِيّ 1/ 209 و 210، والبَغَوِيّ (308) من طرق عن عَمَّار.
(1)
جامع التِّرْمِذِي عقب حَدِيث (144).
(2)
التمهيد 19/ 287.
(3)
نصب الراية 1/ 156
(4)
الإحسان عقب حَدِيث (1307) وط الرسالة (1310).
(5)
المبسوط 1/ 107، وحديث أبي أمامة والأسلع سيأتي تخريجها في أدلة الحنفية.
(6)
شرح السُّنَّة 2/ 114 عقب (309).
الأول: التيمم ضربة وَاحِدَة للوجه والكفين.
روي هَذَا عن ابن عَبَّاس (1)، وعمار (2)، وعطاء (3)، وإسحاق (4)، ومكحول (5)، وداود بن عَلِيّ (6)، والأشهر عن الاوزاعي (7) وَهُوَ إحدى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيّ (8)، والشَّعْبيّ (9)، وسعيد بن المسيب (10)، وإليه ذهب مَالِك (11) وأحمد (12)، واختاره ابن المنذر (13).
والحجة لهذا المذهب حَدِيث عَمَّار الثَّانِي وأسوق لفظه حَتَّى يظهر مِنْهُ الاستدلال قَالَ: ((بعثني رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كَمَا تمرغ الدابة، ثُمَّ أتيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنما يكفيك أن تَقُوْل بيديك هكذا: ثُمَّ ضرب الأرض ضربة وَاحِدَة، ثُمَّ مسح الشمال عَلَى اليمين، وظاهر كفيه ووجهه)). هَذَا لفظ رِوَايَة مُسْلِم (14).
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: ((فضرب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه)) (15).
وَفِي رِوَايَة أخرى قَالَ: ((يكفيك الوجه والكفين (16))) (17).
(1) المغني 1/ 245.
(2)
مصنف ابن أَبِي شَيْبَة (1685)، وتفسير الطبري 5/ 110، والأوسط لابن المنذر 2/ 52.
(3)
مصنف عَبْد الرزاق (816)، والأوسط لابن المنذر 2/ 50.
(4)
الأوسط لابن المنذر 2/ 51، والاستذكار 1/ 354.
(5)
مصنف ابن أَبِي شَيْبَة (1679)، وتفسير الطبري 5/ 110، والأوسط 2/ 50.
(6)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354.
(7)
الأوسط لابن المنذر 2/ 51، والتمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354، وفقه الأوزاعي 1/ 78.
(8)
المغني 1/ 245.
(9)
مصنف عَبْد الرزاق (826)، ومصنف ابن أبي شَيْبَة (1676)، وتفسير الطبري 5/ 110.
(10)
الأوسط لابن المنذر 2/ 51، وفقه سعيد بن المسيب 1/ 104.
(11)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354، وشرح منح الجليل 1/ 92.
(12)
المغني 1/ 245، والمحرر 1/ 21، وشرح الزَّرْكَشِيّ 1/ 169.
(13)
المجموع 2/ 211.
(14)
صَحِيْح مُسْلِم 1/ 192 (368)(110).
(15)
صَحِيْح البُخَارِيّ 1/ 93 (343).
(16)
اللفظ المثبت من الصَّحِيح في الطبعة الأميرية ومثله في المَتْن المطبوع مَعَ شرح الكرماني والعيني وأشار العيني إلى رِوَايَة الرفع. وَفِي المَتْن المطبوع مَعَ فتح الباري وإرشاد الساري ((كفان)) وأشار إلى رِوَايَة النصب. ولكل وجه. انظر: شرح الكرماني 3/ 220، وفتح الباري 1/ 445، وعمدة القاري 2/ 23، وإرشاد الساري 1/ 272.
(17)
صَحِيْح البُخَارِيّ 1/ 93 (341).
وَفِي أخرى: ((فمسح وجهه وكفيه وَاحِدَة)).
واعترض عَلَى هَذَا الاستدلال: بأن المراد بِذَلِكَ: بيان صورة الضرب للتعليم، وَلَيْسَ المراد بيان جَمِيْع مَا يحصل بِهِ التيمم (1).
وأجيب: بأن سياق القصة يدل عَلَى أَنَّ المراد بيان جَمِيْع ذَلِكَ؛ لأن ذَلِكَ هُوَ الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّمَا يكفيك أن تَقُوْل هكذا
…
)) وقوله في إحدى الروايات: ((يكفيك الوجه والكفان)) صريح في ذَلِكَ (2).
القَوْل الثَّانِي: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين وإليه ذهب أبو حَنِيْفَة (3)، والشَّافِعيّ (4). وَقَدْ روي ذَلِكَ عن ابن عُمَر (5)، وجابر (6)، والحَسَن البصري (7)، وسالم (8)، وعبد العزيز بن أبي سلمة (9)، وطاووس (10)، والزُّهْرِيّ (11)، والثَّوْرِيّ (12)، والليث (13)، وَهُوَ رِوَايَة عن عَلِيّ (14)، والشعبي (15)، وابن المسيب (16)، والأوزاعي (17)، واستحب ذَلِكَ أبو ثور (18).
والحجة لهذا القَوْل: من القُرْآن والسُّنَّة.
فالقرآن قوله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (19)، ثُمَّ ذكر
(1) شرح صَحِيْح مُسْلِم 1/ 668.
(2)
فتح الباري 1/ 445 - 446، وفقه سعيد 1/ 105.
(3)
بدائع الصنائع 1/ 45، والدر المختار 1/ 230.
(4)
الأم 1/ 49، والوسيط 1/ 533،والتهذيب 1/ 352، والمجموع 2/ 210.
(5)
مصنف عَبْد الرزاق (817) و (818) و (819)، ومصنف ابن أبي شَيْبَة (1673).
(6)
مصنف ابن أبي شيبة (1688)، وابن المنذر في الأوسط 2/ 48.
(7)
مصنف ابن أبي شيبة (1675)، وابن المنذر في الأوسط 2/ 48.
(8)
الطبري في تفسيره 5/ 111، وابن المنذر في الأوسط 2/ 48.
(9)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354.
(10)
مصنف ابن أَبِي شَيْبَة (1681) و (1690).
(11)
مصنف ابن أبي شَيْبَة (1684).
(12)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354.
(13)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354.
(14)
مصنف عَبْد الرزاق (824)، وابن المنذر في الأوسط 2/ 50.
(15)
ابن المنذر في الأوسط 2/ 48.
(16)
عمدة القاري 4/ 20، وفقه الإمام سعيد 1/ 105.
(17)
ابن المنذر في الأوسط 2/ 48.
(18)
التمهيد 19/ 282، والاستذكار 1/ 354، وفقه الأوزاعي 1/ 79.
(19)
المائدة: 6.
الباري -جل شأنه- التيمم فَقَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1).
وجه الاستدلال:
إن الله تبارك وتعالى ذكر أعضاء الوضوء الأربعة في صدر الآية، ثُمَّ أسقط مِنْها عضوين في التيمم في آخرها، فبقي العضوان في التيمم عَلَى ماذكرهما في الوضوء؛ وَقَدْ ذَكَرَ في الوضوء: غسل اليدين إِلَى المرفقين؛ فهما كَذلِكَ في التيمم؛ إذ لَوْ اختلفا لبينهما (2).
أما السُّنَّة فما روي عن جابر عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين)).
أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ (3)، والحَاكِم (4)، والبَيْهَقِيّ (5)، وَفِي إسناده عُثْمَان بن مُحَمَّد الأنماطي (6) متكلم فِيهِ (7)، وَهُوَ معلول بالوقف قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ عقب تخريجه:((الصَّوَاب مَوْقُوْف)).
وما روي عن ابن عُمَر عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين)). رَواهُ الطبراني (8)، والدَّارَقُطْنِيّ (9)، والحَاكِم (10)، وابن عدي (11) من طريق عَلِيّ بن ظبيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عُمَر، بِهِ. وَهُوَ حَدِيث ضَعِيْف لا يصح مرفوعاً لتفرد عَلِيّ بن ظبيان برفعه وَهُوَ ضَعِيْف قَالَ عَنْهُ النَّسَائِيّ:((كوفيٌّ متروك الحَدِيْث)) (12).
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ((هكذا رَواهُ عَلِيّ بن ظبيان مرفوعاً، ووقفه يَحْيَى القطان، وهشيم
(1) المائدة: 6.
(2)
فقه الإمام سعيد 1/ 105.
(3)
سُنَن الدَّارَقُطْنِيّ 1/ 181.
(4)
في المستدرك 1/ 180.
(5)
السُّنَن الكبرى 1/ 207.
(6)
هُوَ عثمان بن مُحَمَّد بن سعيد الرازي الدَّشتكي الأنماطي، نزيل البصرة: مقبول، وَقَالَ فِيْهِ الذهبي: صويلح، وَقَدْ تكلم فِيْهِ.
تهذيب الكمال 5/ 136 (4447)، والميزان 3/ 52 (5559)، والتقريب (4514).
(7)
تنقيح التحقيق 1/ 219.
(8)
في الكبير (13366).
(9)
سُنَن الدَّارَقُطْنِيّ 1/ 180و181.
(10)
في المستدرك 1/ 179 و 179 - 180.
(11)
الكامل 6/ 320.
(12)
الكامل 6/ 319، وَقَالَ ابن حجر في التقريب (4756):((ضَعِيْف)) وانظر: مجمع الزوائد 1/ 262.