الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى
خلق الله الجنس البشري متفاوتاً في قدراته، وما وهبه لَهُ بمنّه وفضله، وَقَدْ أثّر هَذَا التفاوت عَلَى قدرات الناس في الحفظ، فإنّك تجد الحَافِظ الَّذِي لا يكاد يخطئ إلا قليلاً، وتجد الرَّاوِي الكثير الخطأ، ومن ثَمَّ تجد بَيْنَ الرُّوَاة مَنْ يؤدي لفظ الْحَدِيْث كَمَا سمعه، ومنهم مَنْ يحفظ المضمون ولا يتقيد باللفظ، وَهُوَ ما نسميه "الرِّوَايَة بالمعنى" وفي جواز أداء الْحَدِيْث بِهَا خلافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاء عَلَى اثني عشر قولاً (1):
الأول: التفرقة بَيْنَ الألفاظ الَّتِي لا مجال فِيْهَا للتأويل وبَيْنَ الألفاظ الَّتِي تحتمل التأويل، فجوزت الرِّوَايَة بالمعنى في الأول دُوْنَ الثاني. حكاه أبو الْحُسَيْن بن القطان (2) عن بَعْض الشافعية، وَعَلَيْهِ جرى الكِيَا الطبري (3) مِنْهُمْ (4).
الثاني: جواز الرِّوَايَة بالمعنى في الأحاديث الَّتِي تشتمل عَلَى الأوامر والنواهي، وأما إذا كَانَ اللفظ خفي المعنى محتملاً لعدة معانٍ فَلَا تجوز. ويستوي في هَذَا الحكم الصَّحَابِيّ وغيره (5).
الثَّالث: المنع مطلقاً من الرِّوَايَة بالمعنى، وتعين أداء لفظ الْحَدِيْث. وبه قَالَ عَبْد الله بن عمر (6)، وابن سيرين (7)، وأبو بكر الرازي (8) الجصّاص (9)، وأبو إسحاق (10)
(1) انظرها في: الحاوي الكبير 20/ 154، والبحر المحيط 4/ 356 - 358، وتوجيه النظر 2/ 686.
(2)
هُوَ أبو الْحُسَيْن أحمد بن مُحَمَّد بن أحمد بن القطان البغدادي، لَهُ مصنفات في أصول الفقه، توفي سنة (359 هـ). وفيات الأعيان 1/ 70، وسير أعلام النبلاء 16/ 159، وشذرات الذهب 3/ 28.
(3)
هُوَ أَبُو الحسن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عَلِيّ الفقيه الشَّافِعِيّ المعروف بالكيا الطبري - بكسر الكاف وفتح المثناة من تَحْتَ مَعَ التخفيف -، توفي سنة (504 هـ).
طبقات الشافعية، للإسنوي 2/ 288، ومرآة الجنان 3/ 133.
(4)
البحر المحيط 4/ 358.
(5)
الحاوي الكبير 20/ 154.
(6)
قواطع الأدلة 1/ 328. وانظر: الكفاية: (171 هـ، 265 ت)، وفواتح الرحموت 2/ 167.
(7)
المحدّث الفاصل: 534 - 535 رقم (691)، والكفاية:(311 ت، 206 هـ).
(8)
هُوَ أبو بكر أحمد بن عَلِيّ الرازي الجصاص الحنفي الأصولي، صاحب التصانيف، مِنْهَا:" الفصول في الأصول " و " شرح الجامع الكبير "، ولد سنة (305 هـ)، وتوفي سنة (370 هـ).
المنتظم 7/ 105 - 106، والعبر 2/ 360، وسير أعلام النبلاء 16/ 340 و 341.
(9)
إلا أنَّهُ استثنى من هُوَ في درجة الحسن البصري والشعبي. الفصول في علم الأصول 3/ 211.
(10)
هُوَ الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الأصولي الشَّافِعِيّ الملقب بـ (ركن الدين) صاحب التصانيف، مِنْهَا: "جامع الخلي في أصول الدين والرد عَلَى
=
الإسفراييني (1)، وبه قَالَ الظاهرية (2)، وثعلب (3) من النحويين (4)، وَهُوَ الأشهر من مذهب مالك (5).
الرابع: من يحفظ اللفظ والمعنى لا تجوز لَهُ الرِّوَايَة بالمعنى، ومن كَانَ يستحضر المعنى دُوْنَ اللفظ جازت روايته بالمعنى. وبه جزم الماورديُّ (6)، فَقَالَ:((والذي أراه: أنَّهُ إن كَانَ يحفظ اللفظ لَمْ يَجُزْ أن يرويه بغير ألفاظه؛ لأن في كلام رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في كلام غيره، وإن لَمْ يحفظ اللفظ جاز أن يورد معناه بغير لفظه؛ لأن الرَّاوِي قَدْ تحمّل أمرين: اللفظ والمعنى، فإن قدر عَلَيْهِمَا لزمه أداؤهما، وإن عجز عن اللفظ وقدر عَلَى المعنى لزمه أداؤه لئلاّ يَكُوْن مقصراً في نقل ما تحمل)) (7).
الخامس: عكس المذهب الَّذِي قبله، فإن كَانَ يستحضر اللفظ جاز لَهُ الرِّوَايَة بالمعنى، وإن لَمْ يَكُنْ حافظاً للفظ لَمْ يَجُزْ لَهُ الاقتصار عَلَى المعنى، إذ لربما زاد فِيْهِ ما لَيْسَ مِنْهُ.
السادس: جواز الرِّوَايَة بالمعنى بشرط إبدال المترادفات ببعضها مَعَ الإبقاء عَلَى تركيب الكلام؛ خوفاً من دخول الخلل عِنْدَ تغيير التركيب (8).
=
الملحدين"، توفي سنة (418 هـ).
الأنساب 1/ 149، وسير أعلام النبلاء 17/ 353 و 354، ومرآة الجنان 3/ 25.
(1)
البحر المحيط 4/ 358.
(2)
البحر المحيط 4/ 358.
(3)
المحدث، إمام النحو، أبو العباس، أحمد بن يَحْيَى بن يزيد الشيباني مولاهم البغدادي المَشْهُوْر بـ (ثعلب)، صاحب التصانيف مِنْهَا:"اختلاف النحويين" و"معاني القرآن"، ولد سنة (200هـ)، وتوفي سنة (291هـ).
العبر 2/ 94، وسير أعلام النبلاء 14/ 5 و 7، ومرآة الجنان 2/ 163.
(4)
قواطع الأدلة 1/ 328.
(5)
الكفاية: (188 - 189 هـ، 288 - 289 ت)، وجامع بَيَان العِلْم 1/ 81، والإلماع:180. وَهُوَ قول عدد من أَئِمَّة الْحَدِيْث. انظر: شرح السنة 1/ 238، والإحكام للآمدي 2/ 261 - 262.
(6)
هُوَ الإمام أبو الحسن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن حبيب البصري الماوردي الشَّافِعِيّ، صاحب التصانيف مِنْهَا:"الحاوي الكبير" و " الأحكام السلطانية "، توفي سنة (450 هـ).
المنتظم 8/ 199 - 200، وسير أعلام النبلاء 18/ 64 و 65، وطبقات الشافعية، للإسنوي 2/ 230.
(7)
الحاوي الكبير 20/ 154 - 155. وقّواه الشَّيْخ الجزائري في توجيه النظر 2/ 686 وعلل ذَلِكَ بكون الرِّوَايَة بالمعنى إنما أجيزت للضرورة، ولا ضرورة إلا في هَذِهِ الحالة.
(8)
توجيه النظر: 2/ 687.