الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث ضعيف لانقطاعه؛ ولضعف طرقه الأخرى (1).
أثر هذا الحديث في اختلاف الفقهاء (حكم من أفطر في صيام التطوع)
وما دمنا قَدْ تكلمنا بإسهاب عن حديث الزهري متصلاً ومنقطعاً، وذكرنا طرقه وشواهده، وبيّنا ما يكمن فيها من ضعف وخلل، فسأتكلم عن أثر هذا الحديث في اختلاف الفقهاء، فأقول: من شَرَعَ في صوم تطوع، أو صلاة تطوع ولم يتم نفله، هل يجب عليه القضاء أم لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ذهب بعض العلماء إلى أن النفل يجب على المكلف بالشروع فيه، فإذا أبطل وجب عليه قضاؤه صوماً كان أم صلاةً أم غيرهما.
وهو مروي عن: ابن عباس (2)، وإبراهيم النخعي (3)، والحسن البصري (4)، وأنس (5) بن سيرين (6)، وعطاء (7)، ومجاهد (8)، والثوري (9)، وأبي ثور (10).
(1) هنا مسألة أود التنبيه عليها، وهو أنه قَدْ يتبادر إلى أذهان بعض الناس أنّ هذا الحديث ربما يتقوى بكثرة الطرق، والجواب عن هذا:
بأن ليس كل ضعيف يتقوى بمجيئه من طريق آخر، فالعلل الظاهرة؛ وَهِيَ الَّتِي سببها انقطاع في السند، أو ضعف في الرَّاوِي، أو تدليس، أو اختلاط تتفاوت ما بَيْنَ الضعف الشديد والضعف اليسير، فما كَانَ يسيراً زال بمجيئه من طريق آخر مثله أو أحسن مِنْهُ، وما كَانَ ضعفه شديداً فَلَا تنفعه كثرة الطرق. وبيان ذَلِكَ: أن ما كَانَ ضعفه بسبب سوء الحفظ أو اختلاطٍ أو تدليسٍ أو انقطاع يسير فالضعف هنا يزول بالمتابعات والطرق، وما كَانَ انقطاعه شديداً أو كَانَ هناك قدحٌ في عدالة الراوي فلا يزول. وانظر في ذلك بحثاً موسعاً في:" أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء ": 34 - 43.
(2)
المصنف، لابن أبي شيبة (9094)، والسنن الكبرى، للبيهقي 4/ 281.
(3)
المصنف لعبد الرزاق (7788).
(4)
المصنف لعبد الرزاق (7789)، والمصنف، لابن أبي شيبة (9096).
(5)
هُوَ أنس بن سيرين الأنصاري، أبو موسى، وَقِيْلَ: أبو حمزة، وَقِيْلَ أبو عَبْد الله البصري: ثقة، توفي سنة (118 هـ).
الثقات 8/ 48، وتهذيب الكمال 1/ 287 (557)، والتقريب (563).
(6)
المصنف، لابن أبي شيبة (9093).
(7)
المصنف، لابن أبي شيبة (9097).
(8)
المصنف، لابن أبي شيبة (9097).
(9)
الاستذكار 3/ 238، إلا أنه قال بالاستحباب لا الوجوب.
(10)
الاستذكار 3/ 238، والتمهيد 12/ 72.
وهو مذهب الحنفية (1)، والمالكية (2)، والظاهرية (3).
والحجة لهذا المذهب:
1 -
قوله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (4): قال الجصاص الحنفي: ((يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها؛ لما فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره)) (5).
وللشافعي جواب عن هذا فقال: ((المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهي الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلاً فلا؛ لأنه ليس واجباً عليه، فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييراً)) (6).
2 -
جعلوا عمدة قولهم حديث الزهري السابق، وكأنهم رجحوا الاتصال على الانقطاع، أو أخذوا بالحديث لما له من طرق، وجعل ابن حزم الظاهري عمدة قوله حديث جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة. ودافع عن زيادة جرير (7). وقد تقدم الكلام بأن جريراً مخطئٌ في حديثه، وقد ذكرنا كلام ابن حزم وأجبنا عنه.
القول الثاني:
ذهب فريق من الفقهاء إلى استحباب الإتمام ولا قضاء عليه، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو مروي عن: علي (8)، وعبد الله بن مسعود (9)، وعبد الله بن عمر (10)، وابن
(1) بدائع الصنائع 2/ 102، وحاشية رد المحتار 2/ 430، وتبيين الحقائق 1/ 337، والاختيار 1/ 135.
(2)
الموطأ (849) و (850) رواية الليثي، وبداية المجتهد 1/ 227، والقوانين الفقهية: 120، وأسهل المدارك 1/ 431، وشرح منح الجليل 1/ 400.
(3)
المحلى 6/ 268.
(4)
محمد: 33.
(5)
أحكام القرآن 3/ 393.
(6)
الجامع لأحكام القرآن 7/ 6075.
(7)
المحلى 6/ 270 - 271.
(8)
مصنف عبد الرزاق (7772)، وانظر: الحاوي الكبير 3/ 336.
(9)
مصنف عبد الرزاق (7784)، ومصنف ابن أبي شيبة (9084)، والسنن الكبرى، للبيهقي 4/ 277، وانظر: الحاوي 3/ 336.
(10)
مصنف ابن أبي شيبة (9088)، والسنن الكبرى، للبيهقي 4/ 277، والمحلى 6/ 270، وانظر: الحاوي الكبير 3/ 336.
عباس (1)، وجابر بن عبد الله (2).
وإبراهيم النخعي (3)، ومجاهد (4)، والثوري (5)، وإسحاق (6).
وهو مذهب الشافعية (7)، والحنابلة (8).
والحجة لهم: وهو أن حديث الزهري لم يصح، فهو ضعيف منقطع، ولم يروا الآية دليلاً لذلك، فقد احتجوا بجملة من الأحاديث، منها:
1 -
حديث عائشة بنت طلحة (9)، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: دخل عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيءٌ؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم. ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس (10)، فقال: أَرينيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل)). رواه مسلم (11).
(1) عند عبد الرزاق في المصنف (7767) و (7768) و (7769) و (7770) و (7778)، ومصنف ابن أبي شيبة (9080)، والسنن الكبرى، للبيهقي 4/ 277. وهي إحدى الروايتين عنه، وانظر: الحاوي الكبير 3/ 336، والاستذكار 3/ 239 و 240.
(2)
مصنف عبد الرزاق (7771)، والسنن الكبرى، للبيهقي 4/ 277، والمحلى 6/ 270، وانظر: الاستذكار 3/ 240.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (9085).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (9086).
(5)
انظر: الحاوي الكبير 3/ 336، والمجموع 6/ 394.
(6)
المصدر نفسه.
(7)
انظر: الأم 2/ 103، ومختصر المزني: 59، والتهذيب 3/ 187، والمجموع 6/ 394، وروضة الطالبين 2/ 386، ونهاية المحتاج 3/ 210.
(8)
انظر: المغني 3/ 89، والهادي: 55، والمحرر 1/ 231، وشرح الزركشي 2/ 45.
ونقل حنبل عن الإمام أحمد: ((إذا أجمع على الصيام، وأوجب على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد يوماً، ولكن حمله على الاستحباب أو النذر)). انظر: المصادر السابقة.
(9)
هِيَ أم عمران عَائِشَة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية المدنية: ثقة، قَالَ أبو زرعة: امرأة جليلة، حدث الناس عَنْهَا لفضائلها وأدبها.
الثقات 5/ 289، وتهذيب الكمال 8/ 555 (8483)، والتقريب (8636).
(10)
الحيس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت. وقيل: التمر البرني والأقط يدقان ويعجنان بالسمن عجناً شديداً حتى يندر النوى منه نواة نواة، ثم يسوى كالثريد. انظر: النهاية 1/ 467، ولسان العرب 6/ 61، وتاج العروس 15/ 568 مادة (حيس).
(11)
صحيح مسلم 3/ 159 (4454)(169)(170)، وأخرجه مطولاً ومختصراً غيره. انظر: تخريج رواياتهم في تحقيقي للشمائل (182).
2 -
عن أبي جحيفة (1) قال: ((آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان (2) وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرآى أم الدرداء (3) متبذلة (4)، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لَيْسَ لَهُ حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع لَهُ طعاماً، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فإني صائم، قَالَ: ما أنا بآكل حَتَّى تأكل، قَالَ: فأكل، فَلَمَّا كَانَ الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فَقَالَ: نَمْ، فنام، ثُمَّ ذهب يقوم، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخر الليل، قَالَ سلمان: قم الآن، فصليا، فَقَالَ لَهُ سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فاعطِ كُلّ ذي حق حقه، فأتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((صدق سلمان)). أخرجه البُخَارِيّ (5)، والترمذي (6)، وابن خزيمة (7)، والبيهقي (8).
فهذه أحاديث صحيحة أجازت لصائم النفل الإفطار، ولم تأمره بقضاء.
3 -
حديث أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصائم المتطوع أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر)). أخرجه الإمام أحمد (9)، والترمذي (10)، والنسائي (11)، والدارقطني (12)، والبيهقي (13). قال الترمذي:((في إسناده مقال)) (14).
القول الثالث:
التفصيل وهو مذهب المالكية، قالوا: إن أفطر بعذر جاز، وإن أفطر بغير عذر
(1) الصَّحَابِيّ وهب بن عَبْد الله بن مُسْلِم أبو جحيفة السوائي، توفي سنة (64 هـ).
أسد الغابة 5/ 157، وتجريد أسماء الصَّحَابَة 2/ 154، والإصابة 3/ 642.
(2)
الصَّحَابِيّ الجليل مولى رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم أبو عَبْد الله سلمان الخير الفارسي، توفي سنة (35 هـ).
معجم الصَّحَابَة 5/ 2098، وتجريد أسماء الصَّحَابَة 1/ 230 (2400)، والإصابة 2/ 62.
(3)
هِيَ هجيمة أو جهيمة، أم الدرداء الأوصابية الدمشقية، وَهِيَ الصغرى: ثقة فقيهة، توفيت سنة (81 هـ).
تهذيب الكمال 8/ 593 و 594 (8569)، وسير أعلام النبلاء 4/ 277، والتقريب (8728).
(4)
التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيأة الحسنة الجميلة. انظر: النهاية 1/ 111، ولسان العرب 11/ 50 (بذل).
(5)
صحيح البخاري 3/ 49 (1968) و 8/ 40 (6139).
(6)
جامع الترمذي (2413).
(7)
صحيح ابن خزيمة (2144).
(8)
في السنن الكبرى 4/ 275 - 276.
(9)
في مسنده 6/ 341 و 343.
(10)
جامع الترمذي (732).
(11)
السنن الكبرى (3302) و (3303).
(12)
سنن الدارقطني 2/ 175.
(13)
السنن الكبرى 4/ 276.
(14)
جامع الترمذي عقيب (732).