الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن
الاختلاف القادح والاختلاف غَيْر القادح
مِمَّا لا شك فِيْهِ أن الاختلاف غَيْر القادح لا عبرة بِهِ ولا أثر لَهُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ، ونحن حينما عنينا بدراسة هَذِهِ الاختلافات في الأسانيد والمتون إنما قصدنا القادح مِنْهَا. واختلاف الرُّوَاة في أمر لا تناقض فِيْهِ لا يضر لأنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
إِذْ قَدْ يَكُوْن الاختلاف بَيْنَ طريقين أحدهما قوي والآخر ضعيف فمثل هَذَا الاختلاف لا يقدح؛ لأن الرِّوَايَة الصحيحة لا تقدح بِهَا الرِّوَايَة الضعيفة ولا تؤثر. وكذلك قَدْ يَكُوْن هناك اختلاف في الظاهر لَكِنْ يمكن الجمع بينهما؛ بحيث يمكن أن يَكُوْن المتكلم معبراً باللفظين الواردين عن معنى واحد، فلا إشكال أَيْضاً. مثل: أن يَكُوْن في أحد الوجهين قَدْ قَالَ الرَّاوِي: ((عن رجل))، وفي الوجه الآخر سمى هَذَا الرجل.
ويمكن أن يَكُوْن ذَلِكَ المسمى هُوَ ذَلِكَ المبهم، فلا تعارض. أما إذا سمى الرَّاوِي باسم معين في رِوَايَة، ويسميه باسم آخر في رِوَايَة أخرى فهذا محل توقف ونظر، إِذْ يتعارض فِيْهِ أمران:
أحدهما: أنه يجوز أن يَكُوْن الْحَدِيْث عن الرجلين معاً.
والثاني: أن يغلب عَلَى الظن أن الرَّاوِي واحد اختلف فِيْهِ. فهاهنا لا يخلو أن يَكُوْن الرجلان معاً ثقتين أو لا.
فإن كانا ثقتين فعلى رأي جَمَاعَة لا يضر هَذَا الاختلاف؛ لأنه إن كَانَ الْحَدِيْث عن هَذَا المعين فهو عدل، وإن كَانَ عن الآخر فهو عدل، فكيف انقلب الْحَدِيْث فإلى عدل فلا يضر هَذَا الاختلاف. بينما يرى جهابذة الْمُحَدِّثِيْنَ أن هَذَا قادح في الرِّوَايَة إِذْ إنه يدل عَلَى عدم ضبط راويه لَهُ. والضبط شرط لصحة الْحَدِيْث. وهذا إنما يتجه إذا كَانَ لا دليل لنا عَلَى أنَّّ الْحَدِيْث عَنْهُمَا جميعاً. أما إن دلَّ دليل فلا اختلاف مثل أن يروي إنسان حديثاً عن رجل تارة، ويروي ذَلِكَ الْحَدِيْث عن آخر تارة ثُمَّ يرويه عَنْهُمَا معاً في مرة ثالثة.
وأما إن كَانَ أحد الراويين ضعيفاً فَقَدْ تردد الحال بَيْنَ أن يَكُوْن عن القوي أَوْ عن الضعيف أَوْ عَنْهُمَا. وَهُوَ عَلَى أحد هَذِهِ التقديرات غَيْر حجة، ثُمَّ إن هَذَا يشترط فِيْهِ أن لا يَكُوْن الطريقان مختلفين بَلْ يكونان عن رجل واحد. ومع ذَلِكَ فيجوز أن يَكُوْن رَوَاهُ
عَنْهُمَا جميعاً (1).
وَقَدْ أشار الحافظ السيوطي (2) في "التدريب"(3) إلى بعض الاختلافات غَيْر القادحة بصحة الْحَدِيْث عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ، قَالَ:((فمن ذَلِكَ أنهما أخرجا قصة جمل جابر من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه. وَقَدْ رجّح البخاري الطرق الَّتِيْ فِيْهَا الاشتراط عَلَى غيرها مع تخريج الأمرين، ورجح أَيْضاً كون الثمن أوقية (4) مع تخريجه ما يخالف ذَلِكَ)).
قلت: والاختلاف في ثمن البعير أنه جاء بأوقية وفي رِوَايَة بأربعة دنانير، وَهُوَ يَكُوْن بأوقية عَلَى حساب الدينار بعشرة دراهم. وفي رِوَايَة أوقية ذهب، وفي رِوَايَة ومئتي درهم، وفي رِوَايَة أربع أواقٍ، وفي رِوَايَة بعشرين ديناراً. وَقَدْ خرّجها البخاري جميعها (5) ورجّح أنه بأوقية، قَالَ البخاري:((وقول الشعبي (6) بأوقية أكثر الاشتراط: أكثر وأصح عندي)) (7). وَقَدْ فسّر الحافظ ابن حجر ذَلِكَ بقوله: ((أي أكثر طرقاً وأصح مخرجاً)) (8)، ثُمَّ قَالَ:((وما جنح إِلَيْهِ المصنف من ترجيح رِوَايَة الاشتراط هُوَ الجاري عَلَى طريقة المحققين من أهل الْحَدِيْث لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح الْمَتْن إذا وقع فِيْهِ الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وَهُوَ شرط الاضطراب الَّذِيْ يرد بِهِ الخبر، وَهُوَ مفقود هنا مع إمكان الترجيح)) (9).
(1) اقتباس من الاقتراح: 220 - 222، وحاشية محاسن الاصطلاح:204.
(2)
هُوَ عَبْد الرحمان بن أبي بكر بن مُحَمَّد الخضري المصري، جلال الدين أبو الفضل السيوطي، ولد سنة (849 هـ)، برع في علوم متعددة من مصنفاته:" حسن المحاضرة " و " تدريب الرَّاوِي " وغيرهما، توفي سنة (911 هـ). الضوء اللامع 4/ 65، درة الحجال 3/ 92، وشذرات الذهب 8/ 51.
(3)
1/ 28.
(4)
الأوقية: بضم الهمزة وتشديد الياء: اسم لأربعين درهماً. النهاية 5/ 217 وقارن بـ: السنن الكبرى، للبيهقي 4/ 134، ولسان العرب 15/ 404 (وقي)، ومعجم متن اللغة 1/ 89، و5/ 804، والمعجم الوسيط 1/ 33.
(5)
صَحِيْح البخاري 3/ 248 (2718).
(6)
هُوَ عامر بن شراحيل الشعبي أَبُو عمرو الكوفي، ثقة مشهور فقيه فاضل، أدرك عدة من الصَّحَابَة، وَكَانَ أمياً لا يكتب، توفي سنة (104 هـ) وَقِيْلَ:(105 هـ)، وَقِيْلَ:(106 هـ).
تاريخ بغداد 12/ 227،وتهذيب الكمال 4/ 27 (3029)، وتاريخ الإسلام:124 وفيات سنة (104 هـ).
(7)
صَحِيْح البخاري 3/ 249 عقيب (2718).
(8)
فتح الباري 5/ 318 عقيب (2718).
(9)
فتح الباري 5/ 318.