الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ إن الحكم بصحة صوم الصائم الآكل أو الشارب ناسياً يتفق مَعَ ما عهدناه من مبادئ التشريع وأصول الاستنباط عن الشارع الحكيم، في عدم مؤاخذة المكلف في أبواب حقوق الله تَعَالَى إلا بِمَا فعله عن قصد، ومصداق هَذَا قوله تَعَالَى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1)، والنسيان لَيْسَ من كسب القلب (2). وَقَدْ ثبت عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عَلَيْهِ)).
رَوَاهُ الطحاوي (3)، وابن حبان (4)، والدارقطني (5)، والحاكم (6)، والبيهقي (7).
والصوم داخل في عموم هَذَا الأصل.
ولهذا يبدو لي رجحان ما ذهب إِلَيْهِ جمهور الفقهاء.
المبحث الثامن
اختلاف الْحَدِيْث بسبب الاختصار
اختلف الناس في جواز اختصار الْحَدِيْث، والاقتصار عَلَى بعضه، وكانت لَهُمْ مذاهب في هَذَا:
الأول: المنع مطلقاً من اختصار الْحَدِيْث، بناءاً عَلَى المنع من الرِّوَايَة بالمعنى (8)؛
لأن حذف بَعْض الْحَدِيْث ورواية بعضه رُبَّمَا أحدث الخلل فِيْهِ، والمختصر لا يشعر (9).
الثاني: الجواز مطلقاً، وبه قَالَ مجاهد، ويحيى بن مَعِيْنٍ، وغيرهما (10).
قَالَ الحَافِظ العراقي: ((ينبغي تقييد الإطلاق بِمَا إذا لَمْ يَكُنِ المحذوف متعلقاً بالمأتي بِهِ تعلقاً يخل بالمعنى حذفه، كالاستثناء والحال ونحو ذَلِكَ، كَمَا سيأتي في
(1) سورة البقرة: 225.
(2)
فتح الباري 4/ 157.
(3)
في شرح معاني الآثار 3/ 95.
(4)
في صحيحه (7219).
(5)
في سننه 4/ 170.
(6)
في المستدرك 2/ 198.
(7)
في سننه 7/ 356، كلهم من طريق عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عَبَّاسٍ بِهِ، ورواه ابن ماجه (2045) من طريق عطاء، عن ابن عَبَّاسٍ، بِهِ.
(8)
الكفاية (190هـ، 290ت).
(9)
توجيه النظر 2/ 703.
(10)
الكفاية (190هـ، 289 ت).
القول الرابع. فإن كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بلا خلاف، وبه جزم أَبُو بكر الصيرفي (1) وغيره، وَهُوَ واضح)) (2).
الثالث: إن لَمْ يَكُنْ رَوَاهُ عَلَى التمام مرة أخرى هُوَ أو غيره لَمْ يَجُزْ، وإن كَانَ رَوَاهُ عَلَى التمام مرة أخرى هُوَ أو غيره جاز (3).
الرابع: يجوز اختصار الحديث والاقتصار عَلَى بعضه إذا كَانَ فاعل ذَلِكَ عالماً عارفاً، وَكَانَ ما تركه متميزاً عمّا نقله غَيْر متعلق بِهِ، بِحَيْثُ لا يختل البيان، ولا تختلف الدلالة فِيْمَا نقله بترك ما تركه (4).
وهذا المذهب هُوَ الَّذِي صححه ابن الصَّلَاح وغيره، وعلل ذَلِكَ بقوله:((لأن الَّذِي نقله والذي تركه - والحالة هَذِهِ - بمنزلة خبرين منفصلين في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر)) (5).
وَقَدْ ترتب عَلَى اختصار بَعْض الرُّوَاة للأحاديث، خلاف بَيْنَ الفقهاء في بَعْض جزئيات الفقه الإسلامي، ونستطيع أن نمثل ذَلِكَ بِمَا يأتي:
رَوَى شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لا وضوء إلا من صوت أو ريح)) (6).
هكذا رَوَى شعبة الْحَدِيْث مختصراً، نبّه عَلَى ذَلِكَ حفاظ الْحَدِيْث ونقاده، فأبو حاتم الرازي يَقُوْل:((هَذَا وهم، اختصر شعبة مَتْن هَذَا الْحَدِيْث، فَقَالَ: ((لا وضوء إلا من صوت أو ريح))، ورواه أصحاب سهيل عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا كَانَ أحدكم في الصَّلَاة فوجد ريحاً من نفسه فَلَا يخرجن حَتَّى
(1) هُوَ الفقيه الأصولي مُحَمَّد بن عَبْد الله أبو بكر المعروف بالصيرفي الشَّافِعِيّ البغدادي، صنف في الأصول فأجاد، توفي سنة (330 هـ).
وفيات الأعيان 4/ 199، وطبقات الشافعية 2/ 116 - 117، ومرآة الجنان 2/ 224.
(2)
شرح التبصرة والتذكرة 1/ 510 وط العلمية 2/ 171. وانظر: البحر المحيط 4/ 360، والمقنع 1/ 376.
(3)
الكفاية (190هـ، 290ت)، والبحر المحيط 4/ 361، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 510 وط العلمية 2/ 171.
(4)
مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث: 324، وط نور الدين: 192 - 193.
(5)
مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث: 324، وط نور الدين: 192، ونكت الزركشي 3/ 612، ومحاسن الإصطلاح: 334، والتقريب والتيسير: 183 وط الخن: 135، وفتح الباقي 2/ 76، وط العلمية 2/ 171.
(6)
أخرجه الطيالسي (2422)، وابن الجعد (1643)، وأحمد 2/ 410 و 435 و 471، وابن ماجه (515)، والترمذي (74)، وابن الجارود (2)، وابن خزيمة (27)، والبيهقي 1/ 117 و 220.
يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)))) (1).
وَقَالَ البَيْهَقِيّ: ((هَذَا مختصر)) (2).
إلا أن الحَافِظ ابن التركماني قَالَ: ((لَوْ كَانَ الْحَدِيْث الأول مختصراً من الثاني، لكان موجوداً في الثاني مَعَ زيادة، وعموم الحصر المذكور في الأول لَيْسَ في الثاني، بَلْ هما حديثان مختلفان)) (3).
وتابعه عَلَى هَذَا التعليل الشوكاني، فَقَالَ:((شعبة إمام حافظ واسع الرِّوَايَة، وَقَدْ رَوَى هَذَا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة عَلَى الحصر، ودينه، وإمامته، ومعرفته بلسان العرب يرد ما ذكره أبو حاتم)) (4).
وأيّد هَذَا الشَّيْخ أبو إسحاق الحويني في تحقيقه لـ "منتقى" ابن الجارود (5).
وَإِذَا ذهبنا نستجلي حقيقة الأمر بطريق البحث العلمي المستند إِلَى حقائق الأمور وقواعد أصحاب هَذَا الفن، نجد أن أبا حاتم الرازي لَمْ يحكم بهذا الحكم من غَيْر بينة، إِذْ أشار في تضاعيف كلامه إِلَى أن مستنده في الحكم بوهم شعبة واختصاره للحديث: مخالفته لجمهور أصحاب سهيل، وهذا هُوَ المنهج العلمي الَّذِي يتبعه أَئِمَّة الْحَدِيْث في مَعْرِفَة ضبط الرَّاوِي، وذلك من خلال مقارنة روايته برواية غيره، وهذا يقتضي جمع الطرق، والحكم عن تثبت، لا بالتكهن والتجويز العقلي الخلي عن البرهان والدليل.
وبغية الوصول إِلَى الحكم الصائب تتبعنا طرق هَذَا الْحَدِيْث، فوجدنا سبعة من أصحاب سهيل رووه عن سهيل خالفوا في رواياتهم رِوَايَة شعبة، وهم:
1 -
جرير بن عَبْد الحميد بن فرط الضبي، عِنْدَ مُسْلِم (6)، والبيهقي (7).
2 -
حماد بن سلمة، عِنْدَ: أَحْمَد (8)، والدارمي (9)، وأبي داود (10).
3 -
خالد بن عَبْد الله الواسطي، عِنْدَ ابن خزيمة (11).
(1) علل الْحَدِيْث 1/ 47 (107).
(2)
السنن الكبرى 1/ 117.
(3)
الجوهر النقي 1/ 117.
(4)
نيل الأوطار 1/ 224.
(5)
غوث المكدود 1/ 17.
(6)
في صحيحه 1/ 190 (362)(99).
(7)
في سننه 1/ 117.
(8)
في مسنده 2/ 414.
(9)
في سننه (727).
(10)
في سننه (177).
(11)
في صحيحه (24) و (28).