الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللهُ -: ((كيف أترك الْحَدِيْث بعمل من لَوْ عاصرته لحاججته)) (1).
والحديث - إذا صَحَّ سنده واتضحت دلالته - حجة عَلَى الأمة، بِمَا فِيْهَا الصَّحَابِيّ (2)؛ لذا قَالَ ابن القيم:((والذي ندين الله بِهِ ولا يسعنا غيره - وَهُوَ القصد في هَذَا الباب - أن الْحَدِيْث إذا صَحَّ عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يصح عَنْهُ حَدِيْث آخر ينسخه: أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كُلّ ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كَانَ لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الرَّاوِي الْحَدِيْث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته عَلَى تِلْكَ المسألة، أو يتأول فِيْهِ تأويلاً مرجوحاً، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يَكُوْن معارضاً في نفس الأمر، أو يقلّد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنَّهُ أعلم مِنْهُ، وإنه إنما خالفه لما هُوَ أقوى مِنْهُ، وَلَوْ قُدّر انتفاء ذَلِكَ كله، ولا سبيل إِلَى العِلْم بانتفائه ولا ظنه، لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي معصوماً، وَلَمْ توجب مخالفته لما رَوَاهُ سقوط عدالته، حَتَّى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هَذَا الْحَدِيْث الواحد لا يحصل لَهُ ذَلِكَ)) (3).
ومهما يَكُنْ الأمر فإن هَذَا التأصيل قَد انعكس عَلَى المجال الفقهي، فوجدت خلافات بَيْنَ الفقهاء، كَانَ مرجعها إِلَى هَذَا الأصل، ونلمس هَذَا جلياً من خلال الأمثلة الآتية:
النموذج الأول:
اشتراط الولي في النكاح
اختلف الفقهاء في اشتراط إذن الولي لصحة عقد النكاح عَلَى قولين:
الأول: لا يصح عقد النكاح من غَيْر ولي، وَهُوَ شرط في صحة العقد.
وبهذا قَالَ الجُمْهُوْر، وَهُوَ مروي عن: عمر وعلي وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ وعائشة. وبه قَالَ: سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عَبْد العزيز وجابر بن زيد (4) والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك وعبيد الله العنبري وإسحاق بن
(1) تيسير التحرير 3/ 71، وفواتح الرحموت 2/ 163.
(2)
أثر علل الْحَدِيْث في اختلاف الفقهاء: 175.
(3)
إعلام الموقعين 3/ 52.
(4)
هُوَ أبو الشعثاء، جابر بن زيد الأزدي اليحمدي، مولاهم، البصري الخَوفي، وَهُوَ من كبار تلامذة ابن عَبَّاسٍ، توفي سنة (93 هـ)، وَقِيْلَ:(103 هـ).
طبقات ابن سعد 7/ 179و182،وسير أعلام النبلاء 4/ 481و483،وطبقات الفقهاء، للشيرازي:92.
راهويه وأبو عبيد. وَقَد روي عن ابن سيرين والقاسم بن مُحَمَّد والحسن بن صالح (1).
وإليه ذهب الشافعية (2) والمالكية (3) والحنابلة (4) والظاهرية (5) والزيدية (6).
وَقَالَ الصاحبان: لا يصح النكاح إلا بولي، فإذا رضي الولي جاز، وإن أبى - والزوج كفوء - أجازه الْقَاضِي (7).
الثاني: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها مِمَّنْ تشاء، وَلَيْسَ للولي أن يعترض عَلَيْهَا، إذا وضعت نفسها حَيْثُ ينبغي أن تضعها.
وَهُوَ مروي عن الزهري والشعبي (8).
وإليه ذهب أبو حَنِيْفَةَ وزفر (9).
وأما الإمامية ففصلوا بَيْنَ الثيّب والبكر، فإن كَانَتْ بكراً رشيدة فَقَد اختلف فقهاؤهم فِيْهَا عَلَى أقوال:
1 -
ثبوت الولاية لنفسها في العقد الدائم والمؤقت.
2 -
ثبوت الولاية لنفسها في العقد الدائم دُوْنَ المنقطع.
3 -
عكس الَّذِي قبله، أي: ثبوت الولاية لنفسها في العقد المؤقت دُوْنَ الدائم.
4 -
لَيْسَ لها ولاية عَلَى نفسها سواء كَانَ العقد دائماً أو منقطعاً، إذا كَانَ الولي الأب أو الجد للأب.
5 -
الكل شركاء في حق الولاية، فَلَا يمضي العقد إلا برضا الْجَمِيْع.
فإن عضلها الولي، وَكَانَ المتقدّم كفوءاً، وكانت راغبة في الزواج مِنْهُ، فلها أن تُزَوِّج نفسها إجماعاً في المذهب (10).
أما الصغيرة فتثبت ولاية الأب والجد للأب عَلَيْهَا بكراً كَانَتْ أو ثيّباً، وإذا زوجها
(1) الإشراف لابن المنذر 4/ 33، والتمهيد 19/ 84، والمغني 7/ 337.
(2)
الحاوي الكبير 11/ 204، والتهذيب 5/ 242، وشرح المنهج مَعَ حاشية الجمل 4/ 133، وكفاية الأخيار 2/ 87.
(3)
المدونة 2/ 165، والقوانين الفقهية: 202 - 203.
(4)
المغني 7/ 337، والكافي 3/ 10، والمقنع: 208، والمحرر 2/ 15، والمبدع 7/ 27.
(5)
المحلى 9/ 451.
(6)
السيل الجرار 2/ 263.
(7)
شرح معاني الآثار 3/ 7، والاستذكار 4/ 395.
(8)
الاستذكار 4/ 395.
(9)
شرح معاني الآثار 3/ 7، والهداية 1/ 196، والاختيار 3/ 90، وبدائع الصنائع 2/ 242، ورد المحتار 3/ 55 - 56، وتبيين الحقائق 2/ 117.
(10)
شرائع الإسلام 2/ 229، وانظر: من لا يحضره الفقيه 3/ 245، والاستبصار 3/ 240.
أحدهما وَهِيَ صغيرة لزمها عقده، ولا خيار لها إذا بلغت عَلَى الأشهر عندهم (1).
وإذا كَانَتْ ثيّباً بالغةً فليس لأحد ولاية عَلَيْهَا (2).
واستدل القائلون بالاشتراط بحديث عَائِشَة رضي الله عنها عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم: ((أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، ثلاث مرات، فإن دخل بِهَا فلها المهر بِمَا أصاب مِنْهَا، فإن تشاجروا فالسلطان ولي مَن لا ولي لَهُ)).
رَوَاهُ الشَّافِعِيّ (3)، والطيالسي (4)، وعبد الرزاق (5)، والحميدي (6)، وسعيد ابن مَنْصُوْر (7)، وأحمد (8)، والدارمي (9)، وأبو داود (10)، وابن ماجه (11)، والترمذي (12)، والنسائي (13)، وأبو يعلى (14)، وابن الجارود (15)، والطحاوي (16)، وابن حبان (17)، وابن عدي (18)، والدارقطني (19)، والحاكم (20)، والسهمي (21)، وأبو نعيم (22)، والبيهقي (23)، والخطيب (24)، وابن عَبْد البر (25)، والبغوي (26).
(1) شرائع الإسلام 2/ 228، وانظر: من لا يحضره الفقيه 3/ 245، والاستبصار 3/ 241.
(2)
من لا يحضره الفقيه 3/ 246، والاستبصار 3/ 237 - 238، وتهذيب الأحكام 7/ 337 فما بعدها.
(3)
في مسنده (1139) و (1140) بتحقيقنا.
(4)
في مسنده (1463).
(5)
في مصنفه (10472).
(6)
في مسنده (228).
(7)
في سننه (528).
(8)
في مسنده 6/ 47 و 66 و 165.
(9)
في سننه (2190).
(10)
في سننه (2083).
(11)
في سننه (1879).
(12)
في جامعه (1102).
(13)
في الكبرى (5394).
(14)
في مسنده (4682) و (4750) و (4837).
(15)
في المنتقى (700).
(16)
في شرح معاني الآثار 3/ 7.
(17)
في الإحسان (4074).
(18)
في الكامل 3/ 435.
(19)
في سننه 3/ 221.
(20)
في مستدركه 2/ 168.
(21)
هُوَ الحَافِظ المتقن، أَبُو القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم القرشي السهمي، محدّث جرجان، صاحب " تاريخ جرجان "، توفي سنة (428 هـ)، وَقِيْلَ:(427 هـ).
الأنساب 3/ 369، وسير أعلام النبلاء 17/ 469 و 471، وتذكرة الحفاظ 3/ 1089. والحديث أخرجه في تاريخ جرجان: 315 - 316.
(22)
في الحلية 6/ 88.
(23)
7/ 105 و 138.
(24)
في الكفاية: (542 ت، 380 هـ).
(25)
في التمهيد 19/ 85 - 87.
(26)
في شرح السنة (2262).
وَقَدْ أجاب أصحاب المذهب الثاني عن هَذَا الْحَدِيْث، بأنه قَدْ عارضه فعلها، وأنها فعلت خلاف ما روت، فَقَالَ الطحاوي:((ثُمَّ لَوْ ثبت ما رووا من ذَلِكَ عن الزهري، لكان قَدْ روي عن عَائِشَة رضي الله عنها ما يخالف ذَلِكَ)) (1).
ثُمَّ رَوَى من طريق مالك، أن عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم أخبره، عن أبيه، عن عَائِشَة زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنها زوجت حفصة بنت عَبْد الرَّحْمَان (2)، المنذر بن الزبير (3)، وعبد الرَّحْمَان غائب بالشام.
فلما قدم عَبْد الرَّحْمَان قَالَ: أمثلي يصنع بِهِ هَذَا، ويفتات (4) عَلَيْهِ؟ فَكُلِّمَتْ عَائِشَة عن المنذر، فَقَالَ المنذر: إن ذَلِكَ بيد عَبْد الرَّحْمَان، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَان: ما كنت أرد أمراً قضيته، فقرت حفصة عنده، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طلاقاً)) (5).
فلولا أنها كَانَتْ ترى عدم اشتراط الولي لصحة عقد النكاح، لما فعلته مع ابنة أخيها، وهذا يدل عَلَى وجود ناسخ أو تأويل لما روته من اشتراطه.
ورد الجُمْهُوْر هَذَا الاستدلال: بأنه لَيْسَ في خبر عَائِشَة هَذَا التصريح بأنها باشرت العقد بنفسها، فَقَدْ تَكُوْن مهدت لأسبابه، فإذا جاء العقد أحالته إِلَى الولي بدليل ما روي عن عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم، قَالَ:((كنت عِنْدَ عَائِشَة يخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد، فإذا بقيت عقدة النكاح، قالت لبعض أهلها: زَوّج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح)) (6).
فإذا علمنا أن مذهبها هَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم عَنْهَا، اتَّضح أن مراد الرَّاوِي بقوله:((زوجت حفصة))، أي: هيأت الأسباب، فانتفت المخالفة المظنونة، لما روت عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم.
(1) شرح معاني الآثار 3/ 8.
(2)
هِيَ حفصة بنت عَبْد الرحمان بن أَبِي بكر الصديق: ثقة.
الثقات 4/ 194، وتهذيب الكمال 8/ 526 (8411)، والتقريب (8562).
(3)
أبو عثمان المنذر بن الزبير بن العوام القرشي، قتل سنة (64 هـ).
طبقات ابن سعد 5/ 182، والثقات 5/ 420، وسير أعلام النبلاء 3/ 381.
(4)
افتات في الأمر: استبد بِهِ، وَلَمْ يستشر من لَهُ الرأي فِيْهِ. ويقال: افتات عَلَيْهِ فِيْهِ، وفلان لا يفتات عَلَيْهِ: لا يفعل الأمر دُوْنَ مشورته. المعجم الوسيط 2/ 705.
(5)
شرح معاني الآثار 3/ 18. وانظر نصب الراية 3/ 186، وتحفة الأحوذي 4/ 229.
(6)
نصب الراية 3/ 186، وفتح الباري 9/ 186.