الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النموذج الثاني:
طهارة الإناء من ولوغ الكلب
اختلف الفقهاء في عدد الغسلات الَّتِي يحصل بِهَا التطهير من ولوغ الكلب عَلَى قولين:
الأول: ذهب جمهور الفقهاء إِلَى أنَّ الإناء يغسل سبع مرات من ولوغ الكلب، واختلفوا في نجاسة سؤره واشتراط التتريب، وهل الأمر بالغسل للنجاسة أم هُوَ للتعبد؟ عَلَى النحو الآتي:
1 -
ذهب الشافعية إِلَى أن سؤر الكلب نجس، ويغسل الإناء سبعاً أولاهن بالتراب، والأمر بالغسل سبعاً للتعبد (1).
2 -
ذهب مالك إِلَى أن الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء مِنْهُ، عبادة غَيْر مدركة العلة، والماء الَّذِي ولغ فِيْهِ لَيْسَ بنجس، وَلَمْ يرَ إراقة ما سوى الماء في أشهر الروايات عَنْهُ (2).
قَالَ المازري (3): ((اختلف في غسل الإناء من ولوغ الكلب، هَلْ هُوَ تعبد أو لنجاسته؟ فعندنا أنَّهُ تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله سبع مرات: أنَّهُ لَوْ كَانَتْ العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء، وَقَدْ يحصل في مرة واحدة)) (4).
3 -
ذهب الحنابلة إِلَى أن سؤر الكلب نجس، ويجب غسل الإناء مِنْهُ سبعاً، إحداهن بالتراب، من غَيْر تحديد لمكانها من السبع (5).
4 -
قَالَ الظاهرية: سؤر الكلب طاهر، وغسل الإناء مِنْهُ سبعاً إذا ولغ فِيْهِ فرض، وما في الإناء من طعام وشراب وماء فَهُوَ طاهر (6).
5 -
قَالَ الزيدية: التسبيع في غسل الإناء وتتريبه واجب، من غَيْر تعيين لغسل
(1) المهذب 1/ 55، والوسيط 1/ 404 - 407، وروضة الطالبين 1/ 34، والمجموع 1/ 183.
(2)
المدونة 1/ 5 - 6، وبداية المجتهد 1/ 242، والقبس في شرح موطأ مالك بن أنس 2/ 812، والاستذكار 1/ 248، وتفسير القرطبي 6/ 69. وقارن بالموافقات 3/ 195 - 196.
(3)
الإمام، المحدث، أَبُو عَبْد الله مُحَمَّد بن عَلِيّ بن عمر المازري، المالكي، لَهُ مصنفات مِنْهَا " الإكمال " و " المعلم بفوائد كتاب مُسْلِم " توفي سنة (536 هـ).
وفيات الأعيان 4/ 285، وسير أعلام النبلاء 20/ 104 - 105، وشذرات الذهب 4/ 114.
(4)
إكمال المعلم 1/ 242.
(5)
المغني 1/ 42 و 48، والمقنع: 19، والمحرر 1/ 4، والمبدع 1/ 48.
(6)
المحلى 1/ 112 - 113، وانظر: الاستذكار 1/ 249.
التراب، وهذا الحكم يخالف غسل سائر النجاسات؛ لحكمة مختصة غَيْر معقولة (1).
الثاني: ذهب الحنفية إِلَى نجاسة الكلب، وأن الإناء الَّذِي يلغ فِيْهِ يجب غسله مرتين أو ثلاثاً كسائر النجاسات من غَيْر حدٍّ، وأن الأمر بالغسل للتنجيس لا للتعبد؛ لأن الجمادات لا يلحقها حكم العبادات، والزيادة في العدد والتعفير بالتراب دليل عَلَى غلظ النجاسة (2).
وبنحو هَذَا القول: قَالَ الليث بن سعد وسفيان الثوري؛ إلَاّ أنهما قيدا الغسل بطمأنينة القلب إِلَى زوال النجاسة، سواء كَانَتْ الغسلات سبعاً أو أقل أو أكثر (3).
وإليه ذهب الإمامية، فقالوا: يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً، تَكُوْن الثانية مِنْهَا بالتراب، وإن الكلب نجس، لا يجوز التطهر بِمَا أفضل، ويجب إراقته (4).
واستدل القائلون بالمذهب الأول بِمَا صح عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات)). وفي رِوَايَة: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثُمَّ يغسله سبع مرات)). وفي رِوَايَة: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فِيْهِ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)).
والحديث رَوَاهُ عَبْد الرزاق (5) والحميدي (6) وأحمد (7) والبخاري (8)
(1) السيل الجرار 1/ 37 - 38.
(2)
المبسوط 1/ 48، وبدائع الصنائع 1/ 21، وشرح فتح القدير 1/ 75، وحاشية ابن عابدين 1/ 338.
(3)
الاستذكار 1/ 249.
وانطلاقاً من هَذَا المفهوم، قَالَ الشَّيْخ مَحْمُوْد شلتوت رحمه الله في " الفتاوى ": 76 - 78: ((وَقَدْ فهم كَثِيْر من الْعُلَمَاء أن العدد في الغسل مَعَ التتريب مقصودان لذاتهما، فأوجبوا غسل الإناء سبع مرات، كَمَا أوجبوا أن تَكُوْن إحداهن بالتراب؛ وَلَكِن الَّذِي نفهمه هُوَ الَّذِي فهمه غيرهم من الْعُلَمَاء، وَهُوَ أن المقصود من العدد مجرد الكثرة الَّتِي يتطلبها الاطمئنان عَلَى زوال أثر لعاب الكلب من الآنية، وأن المقصود من التراب استعمال مادة مَعَ الماء من شأنها تقوية الماء في إزالة ذَلِكَ الأثر، وإنما ذَكَرَ التراب في الْحَدِيْث؛ لأنَّهُ الميسور لعامة الناس؛ ولأنه كَانَ هُوَ المعروف في ذَلِكَ الوقت مادة قوية في التطهير واقتلاع ما عساه يتركه لعاب الكلب في الإناء من جراثيم، ومن هنا نستطيع أن نقرر الاكتفاء في التطهير المطلوب بِمَا عرفه الْعُلَمَاء بخواص الأشياء من المطهرات القوية، وإن لَمْ تَكُنْ تراباً ولا من عناصرها التراب)).
وما يعضده الدليل خلاف كلام الشَّيْخ.
(4)
تهذيب الأحكام 1/ 242، والاستبصار 1/ 22.
(5)
في مصنفه (330).
(6)
في مسنده (968).
(7)
في مسنده 2/ 265.
(8)
في صحيحه 1/ 54 (172).
ومسلم (1) وأبو داود (2) وابن ماجه (3) والترمذي (4) والنسائي (5) وابن خزيمة (6).
واعترض القائلون بالمذهب الثاني عَلَى استدلال الجُمْهُوْر، بأن أبا هُرَيْرَةَ - راوي الْحَدِيْث - أفتى بخلاف ما رَوَى، وَهُوَ الغسل ثلاثاً، فكان دليلاً عَلَى وجود النسخ (7). فروى الطحاوي (8) والدارقطني (9) من طريق عَبْد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء، عن أبي هُرَيْرَةَ - في الإناء يلغ فِيْهِ الكلب أو الهر - قَالَ:((يغسل ثلاث مرات)).
وأجاب الجُمْهُوْر عن اعتراضهم: بأن هَذِهِ الرِّوَايَة تفرد بِهَا العرزمي، ونص الحفاظ عَلَى خطئه فِيْهَا، ومخالفته للثقات.
إذا رَوَى الدارقطني (10) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن مُحَمَّد بن سيرين، عن أبي هُرَيْرَةَ - في الكلب يلغ في الإناء - قَالَ:((يراق ويغسل سبع مرات)). قَالَ الدارقطني: ((صَحِيْح موقوف)).
ومما يشد عضد هَذِهِ الرِّوَايَة أنها موافقة للمرفوع، فظهر بِهَا أن عَبْد الملك بن أبي سليمان العرزمي أخطأ فِيْهَا، وَقَدْ قَالَ عَنْهُ الإمام أحمد:((ثقة يخطئ)) (11). وَقَالَ الحَافِظ ابن حجر: ((صدوق لَهُ أوهام)) (12).
وَقَدْ رجّح الرِّوَايَة الموافقة للحديث المرفوع البيهقي، فَقَالَ:((تفرد بِهِ عَبْد الملك من أصحاب عطاء، ثُمَّ من أصحاب أبي هُرَيْرَةَ، والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هُرَيْرَةَ يروون سبع مرات، وفي ذَلِكَ دلالة عَلَى خطأ رِوَايَة عَبْد الملك بن أَبِي سليمان، عن عطاء عن أبي هُرَيْرَةَ في الثلاث، وعبد الملك لا يقبل مِنْهُ ما يخالف الثقات، لمخالفته أهل الحفظ والثقة في بَعْض روايته، تركه شعبة بن الحجاج، وَلَمْ يحتج بِهِ البُخَارِيّ في صحيحه)) (13).
وَقَالَ ابن حجر: ((ورواية من رَوَى عَنْهُ موافقة فتياه لروايته أرجح من رِوَايَة
(1) في صحيحه 1/ 161 (279).
(2)
في سننه (71) و (73).
(3)
في سننه (363).
(4)
في جامعه (91).
(5)
في المجتبى 1/ 177.
(6)
في صحيحه (96).
(7)
شرح معاني الآثار 1/ 23، وشرح فتح القدير 1/ 109.
(8)
شرح معاني الآثار 1/ 23.
(9)
سنن الدارقطني 1/ 66.
(10)
سنن الدارقطني 1/ 64.
(11)
الخلاصة للخزرجي: 244.
(12)
التقريب (4184).
(13)
نقله صاحب التعليق المغني 1/ 66، والمباركفوري في تحفة الأحوذي 1/ 302.