الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدما دعاهم لقوله تعالى: {فَآمَنُوا} .
2-
أن أقوامه السابقين كانوا جمعا غفيرا، أما هؤلاء فكانوا عددا قليلا في حدود مائة ألف أو يزيدون.
ولا مانع من أن يكون عليه السلام أرسل لقومه المؤمنين، وأرسل إلى هؤلاء أيضا فآمنوا، فتمتع الجميع بنعيم الله في الدنيا حتى ماتوا، وسوف يتمتعون بنعيم في الآخرة بإذنه تعالى، والله هو الرحمن الرحيم.
"
النقطة الثانية": التعريف بـ "يونس" عليه السلام
هو يونس بن متى، من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله للآشوريين، وكان ملكهم قد غزا بني إسرائيل، وسبى الكثير منهم، فبعثه الله إليهم؛ ليدعوهم إلى دين الله تعالى، ويرسل معه بني إسرائيل ليعودوا إلى ديارهم.
دعا يونس عليه السلام أهل نينوى، لكنهم أصروا على كفرهم، وعبادتهم للأوثان، والأشخاص، فتركهم عليه السلام وذهب مغاضبا.
يفسر العلماء ذهابه مغاضبا بما يليق بمقام النبوة بعدة أوجه:
الأول: أن المعنى ذهب مغاضبا من أجل ربه، والمؤمن يغضب لله إذا عصي أمره، وتركت طاعته.
الثاني: أنه غضب على قومه من أجل كفرهم، واشتد عليهم وفر منهم، ولم يصبر على أذاهم.
الثالث: أنه ترك الناس وذهب مغاضبا للملك الذي يتولى أمور الناس؛ لأنه لم يكن معه في دعوته لهم1، ووقف منه موقفا سلبيا.
1 كان الوحي ينزل على أنبياء بني إسرائيل، ويتولى الحكم والسياسة الملوك.
وأحسنها الرأي الأول.... وتدل هذه المغاضبة أيا كان المراد بها، على ضيق صدر "يونس"، وأنه لما تحمل أمر النبوة قام به بمشقة وعسر؛ ولذلك لم يصبر على قومه، وكان يتوعدهم بالعذاب يحل بهم، فلما أظلّهم العذاب تركهم، ولكنهم تابوا فرفع الله العذاب عنهم، وعاتب الله يونس لأنه تعجل بتركهم1.
وكان عليه ألا يتركهم إلا بإذن من الله تعالى، وألا يغضب أبدا....
يبين القرآن الكريم هذه الصفات في يونس عليه السلام فيقول تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 2.
حيث يأمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم ألا يكون كأخيه يونس في الغضب، والضجر، والعجلة، مع قومه، ويوم أن دعا ربه وهو في بطن الحوت كان مكظوما
…
يقول ابن عباس ومجاهد: أي: مملوءا غما
…
ويقول عطاء وأبو مالك: أي: مملوءا كربا
…
يقول الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب "العقل"، والكرب في النفس "العواطف"، ولا مانع من إرادة المعنيين معا.
خرج يونس من عند قومه، وذهب إلى البحر ليفر منهم بواسطة سفينة تقله بعيدا عنهم، فوجد سفينة مملوءة، فركبها، وسارت السفينة، وولجت بركابها في البحر، فلما جاءها الموج، ثقلت بمن فيها، وتوقفت في عرض البحر، فتشاور الركاب، واتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم، فمن أصابته القرعة، ألقوه في البحر؛ ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس، فلم ينفذوها عليه، لصلاحه وخلقه، وأعادوا القرعة مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة تأتي عليه، فألقوه في الماء، حيث لا مناص من ذلك.
ويجري القدر لتحقيق مراد الله تعالى، ويأتي حوت عظيم يلقمه، فيأمره الله تعالى بعدم أكل لحمه، أو تكسير عظمه، ويبتلعه الحوت، ويستقر "يونس" في بطنه حيا، فأخذ يسبح ربه، ويعبده، واتخذ من بطن الحوت مسجدا، واستغرق في الذكر
1 سورة القلم آية: 48.
2 تفسير القرطبي ج11 ص329.
والتسبيح، والدعاء، ونادى ربه أن ينقذه من هذه الظلمات، وتاب عما كان منه
…
بعدما رأى أنه تضايق في سعة الدنيا، فضيق الله عليه في بطن الحوت، يصور الله ذلك فيقول سبحانه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 1.
والآية تتحدث عن كونه ترك قومه غاضبا، وظن أن لن نقدر عليه، بمعنى: ألا نضيق عليه كقوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 2 أو بمعنى الحكم والقضاء أي: لا نقضي عليه بالعقوبة3، وسكن في بطن الحوت، وعاش ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وتاب عليه السلام عما خالف فيه من ترك دعوة قومه وعدم الصبر عليهم، وضجره من كفرهم، وسأل الله أن يفرج عنه ما هو فيه.
لما محصه الله تعالى، وأدبه، وعلم صلاته، وتسبيحه أمر الحوت أن يقذفه على الساحل، فقذفه ضعيفا، نحيلا، يقول الله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 4، ونجاه الله تعالى إلا أنه كان عاريا يحتاج لستر، وظل، وطعام، وشراب، وأتم الله تعالى فضله عليه، يقول تعالى:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} 5.
والآية تشير إلى أنه ألقي في العراء وهو ضعيف، نحيل، وقد رضي الله عنه وأكرمه بنعمه، يقول تعالى:{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} 6، فبنعمة الله التي أحاطته نبذ بالعراء وهو غير مذموم.... وقد
1 سورة الأنبياء آية: 87.
2 هذا رأي سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وكثير من العلماء "الطبري ج11 ص331".
3 هذا رأي قتادة، ومجاهد، والفراء "الطبري ج11 ص332".
4 سورة الأنبياء آية: 88.
5 سورة الصافات الآيات: 145، 146.
6 سورة القلم آية: 49.
أنبت الله عليه شجرة من يقطين، واليقطين كل شجر ممتد على الأرض لا ساق له، وورقه كبير، ولذلك قال بعض المفسرين: أنبت الله عليه شجرة من القرع لكثرة ظلها، وصلاحية أكل ثمرها من أول طلوعه إلى آخره، ونفعه للطعام، والدواء، وعدم اقتراب الذباب منه، وهيأ الله لـ "يونس" دابة جبلية تسقيه من لبنها.
وصار على هذا الحال حتى أصبح سليما، معافى، قويا.
وأتم الله عليه نعمته، فكلفه بالرسالة مرة أخرى، وأرسله لقوم صدقوا به وأطاعوه، يقول تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1، ولا مانع أن يكونوا قومه السابقين، وحينئذ تكون دعوتهم من قبيل التذكير.
ومن الممكن أن يكونوا قوما آخرين مع قومه وهو الأولى، والله أعلم
…
ما نزل بـ "يونس" عليه السلام تمحيص وتأديب؛ ولذلك كانت رحمة الله معه، وجرت أقدار الله لتحقيق مراده سبحانه وتعالى، في إعادته لدعوة الناس، بعدما عاش هذه المدة سجينا في بطن الحوت.
ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتصور نقصا بـ "يونس" عليه السلام فهو رسول الله عليه السلام يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنه يقول: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"2.
ويقول الحافظ ابن حجر: "خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة"3.
1 سورة الصافات الآيات: 147، 148.
2 صحيح البخاري، باب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ج6 ص450.
3 فتح الباري ج6 ص452.