الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
النقطة الأولى": التعريف بـ "أيوب" عليه السلام
أيوب بن موص بن زراح بن إسحاق1، من ذرية إبراهيم عليه السلام يقول الله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} 2، والضمير في {ذُرِّيَّتِهِ} يعود إلى إبراهيم عليه السلام وأيوب نبي أوحى الله إليه؛ لقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} 3.
وقد تزوج أيوب ابنة عمه، قيل: اسمها: رحمة بنت يوسف بن يعقوب4، وكان مبعثه عليه السلام بـ "حران"5.
وقد مدحه الله تعالى، وأبرز صفاته الخيرة، فقال تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 6.
فلقد التزم عليه السلام مقام العبودية، وأسلم أمره لله تعالى، وابتلي فصبر، وكان كثير التسبيح لله رغم ما كان فيه من بلاء.
لم يتحدث القرآن الكريم عن دعوة أيوب عليه السلام واكتفى بالحديث عن خصائصه، وصفاته، وما ابتلي به.
يقول الحافظ ابن حجر: "وكان له البثنية7، سهلها، وجبالها، وله فيها أهل ومال وولد، فسلب ذلك منه شيئا فشيئا، وهو يصبر ويحتسب، ثم ابتلي في
1 البداية والنهاية ج1 ص220.
2 سورة الأنعام آية: 84.
3 سورة النساء آية: 163.
4 البداية والنهاية ج1 ص221.
5 فتح الباري ج6 ص421.
6 سورة ص آية: 44.
7 بفتح الباء والثاء وكسر النون: اسم ناحية من نواحي الشام، بين دمشق وأذرعات. "معجم البلدان ج1 ص338".
في جسده بأنواع من البلاء، فرفضه الناس إلا امرأته"1.
وقد استمر أيوب عليه السلام في دعوة الناس إلى الله تعالى سبعين عاما، وكان فيها عظيم التقوى، رحيما بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف، وينصح بالحق في رفق ولين، ومن رفقه بقومه، وشدة تقواه أنه كان يمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله، فيرجع إلى بيته يكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، ومخافة أن يكبهما الله في النار2.
وذات يوم قال أخ له لآخر: لو كان الله يعلم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء، وسمعهما أيوب، فجزع من ذلك جزعا لم يجزع مثله قط، فقال لله: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعانا وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني، فصدق من السماء، وهما يسمعان
…
اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، فصدق من السماء، وهما يسمعان3.
وهذه كلها شواهد حق على حسن خلقه، وصدقه في دعوة الناس التي استمرت سبعين عاما.
وبعد ذلك نزل به البلاء، ففقد ماله، وأهله، وولده، ولم يبق معه إلا زوجته، وأصيب بعد ذلك في بدنه حتى لم يبق في جسده عضو سليم.
وقد عاش أيوب عليه السلام في البلاء مدة طويلة، اختلف العلماء في تحديدها، وأقلها في أقوالهم ثلاث سنين، وأكثرها ثماني عشرة سنة
…
وقد قابل أيوب هذا البلاء بالصبر، والاستسلام لله، عبودية وخضوعا، قالت له زوجته: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك.... فقال لها: لقد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر على البلاء سبعين سنة4؟
1 فتح الباري ج6 ص421.
2 تفسير ابن كثير ج4 ص39.
3 البداية والنهاية ج1 ص223.
4 تفسير ابن كثير ج3 ص188.
وكما اختلف العلماء في تحديد مدة البلاء، اختلفوا في صوره وأنواعه، وبخاصة ما كان في بدنه، ويذهبون في ذلك إلى آراء كثيرة، أوصلها الإمام القرطبي إلى خمس عشرة صورة.
والذي أراه -والله أعلم- أن الله ابتلى أيوب عليه السلام فصبر حتى صار يضرب بصبره المثل، وكان مما ابتلى به المرض، وأراه مرضا لا ينفر الناس منه، ولا يلحق به نقصا في شخصه، فهو عليه السلام رسول، مكلف بدعوة الناس، ولو كان به نقص ذاتي، أو مرض منفر، لاعتذر الناس به عند الله، وكان لهم عذرهم في أن الذي نفرهم هو المرض.
ولذلك فهو مرض لا ينفر، كالروماتيزم، وآلام العظام، والضعف العام، وهكذا
…
والابتلاء متحقق بهذه الأمراض التي لا تنفر، كما يتحقق بغيرها، والضر به لشدته، ولمدته الطويلة، وحينما قال الله له:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ضربها، ولم يكن عاجزا.
وأي فائدة تترتب على إلقائه في مزبلة، أو امتلاء جسده بالدود، أو تقيح جسده، أو عبث الدواب به؟ لا فائدة في كل هذا؟ والأنبياء والرسل كرام عند الله تعالى.
ولذلك كان أيوب في أثناء بلائه يصدق من الله تعالى، ويكرم أمام الناس، يمدح الله تعالى أيوب عليه السلام بصبره على البلاء، وصدقه في العبودية، واستمراريته على الذكر والتسليم، فيقول تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
انصرف الناس جميعا عن أيوب عليه السلام ولم يبق معه إلا زوجته، فقد استمرت معه تخدمه وتساعده، وتعمل لدى الناس لتنفق عليه من أجرها رضي الله عنها واستمرت على ذلك، حتى انصرف الناس عنها؛ خوفا من انتقال مرض زوجها إليهم، فعمدت إلى إحدى ضفيرتيها، وباعتها لإحدى بنات الأشراف، بطعام طيب وفير
ثم باعت الضفيرة الثانية وأنفقت ثمنها على أيوب، وأطعمته.
وأين إبليس في بلاء أيوب؟ وما دوره في الإضلال؟
لم يغب إبليس.... وإنما قام بدوره مع زوجته، حيث جاءها في صورة طبيب يصف لها دواء أيوب، فلما أتت زوجها تعرض عليه إحضار طبيب يشفيه، تألم منها لنسبتها الشفاء لغير الله، وضجرها من قدر الله، وأقسم ليضربنها.
وانطلق إبليس إلى رجلين صديقين لـ "أيوب" وقال لهما: احملا لـ "أيوب" خمرا، فإن شرب منه برئ، فلما أتياه، وعرضا عليه الخمر، قال لها: جاءكما الخبيث، كلامكما وشرابكما وطعامكما علي حرام، فقاموا من عنده.
وأتى إبليس إلى أيوب، ووسوس له، وأخبره بأن زوجته بغت بمال أنفقته عليه، فتألم وأقسم ليضربنها مائة سوط، فلما جاءته سألها عن مصدر المال الذي تأتي به، فكشفت له عن رأسها، وأخبرته بأنها باعت ضفيرتيها؛ لتنفق ثمنهما، وتطعمه.
يذكر المفسرون صورا عديدة لمحاولات إبليس مع أيوب، منها أن الله كلم إبليس، وأنه مكن له في السماء السابعة.
يورد القرطبي بعضا منها ثم يعقب برأي ابن العربي، وفيه أن ذلك كلام لا يصح؛ لأن الله أهبط إبليس من الجنة بلعنته، وسخطه، مطرودا من السماء إلى الأرض، ومحال أن يرقى بعد ذلك إلى مقام الأنبياء، وأما قولهم: إن الله كلمه، فمحال أن يكلم الله إبليس أو جنوده، وأما قولهم: إن الله سلطه على أيوب، وماله، وولده، فهو أمر متروك لإبليس وذريته مع الخلق جميعا، ولا حاجة لتوجيه خاص بأيوب، وأما قولهم: إن إبليس قال لزوجة أيوب: أنا إله الأرض فلو تركت ذكر الله، وسجدت لي لعافيت زوجك، فلا يصح؛ لأن هذا كلام لا يقبله مؤمن عادي، فكيف تسمعه
زوجة نبي مؤمنة؟! 1.
1 تفسير القرطبي ج15 ص209 بتصرف.
تألم أيوب عليه السلام لحال زوجته حينما رأى رأسها، ورق لها، فسأل الله أن يكشف عنه الضر، والأذى؛ رحمة بزوجته.
ولما تم الأجل الذي قدره الله تعالى واتجه أيوب إلى ربه، وسأله كشف الضر، وقال ما حكاه الله عنه:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} 1، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 2.
والمراد بالنصب: الضر الذي أصابه في بدنه، والمراد بالعذاب: الضر الذي أصابه في ماله وولده3.
وقيل: النصب: الشر والبلاء ماديا أو معنويا كالوسوسة والشك، أما العذاب: فهو البلاء والشر المادي فقط4.
ونلمح أدبه عليه السلام مع ربه وهو يدعوه، إذ نراه ينسب الضر إلى الشيطان، ويسأله أن يرفعه عنه....
واستجاب الله لـ "أيوب" عليه السلام وانفرجت الغمة، وذهب البلاء، وقال الله لأيوب:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} 5.
أمره سبحانه وتعالى بأن يضرب الأرض برجله، فضربها عليه السلام ضربة فنبعت عين، فأمره الله أن يغتسل منها، فاغتسل فذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فنبعت منه عين أخرى، وأمره أن يشرب منها، فلما شرب ذهب جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا6 بعدما اغتسل من عين، وشرب من الأخرى.
1 سورة الأنبياء آية: 83.
2 سورة ص آية: 41.
3 تفسير ابن كثير ج4 ص39.
4 انظر تفسير القرطبي ج15 ص2007.
5 سورة ص آية: 42.
6 تفسير ابن كثير ج4 ص39.
وكافأه الله أيضا على صبره الجميل، بأن أعاد له أهله ومثلهم معه، يقول تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 1.
وللعلماء في إعادة أهله له، أقوال متعددة:
الأول: أن الله أحياهم بأعيانهم، وآتاه مثلهم في الدنيا، وينسب هذا القول إلى ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رضي الله عنهم.
الثاني: أن الله تعالى خيّره بين إحضارهم بذواتهم، أو تركهم في الجنة على أن يؤتى له بأمثالهم، فاختار بقاءهم في الجنة، وإحضار أمثالهم له في الدنيا.
الثالث: أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي أمثالهم في الدنيا2.
ومع الآراء الثلاثة، فقد أوتي بأمثالهم، وضاعف الله في نعمه
…
ومن عجيب قدر الله أن زوجته لما جاءته بعد أن اغتسل، وألبسه الله حلة من الجنة لم تعرفه، فقالت له: يا عبد الله، أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا؟ فوالله القدير ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا، فقال لها: فإني أنا هو، وأعاد الله لزوجته شبابها، وأنجبت له عددا من الأولاد.
وبالنسبة لقسمه الذي حلف فيه: ليضربنها، فقد علمه الله حيلة يبر بها قسمه، من غير إيذائها، رحمة به وبها، قال الله تعالى له:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} 3.
فأخذ بيده حزمة من الحشيش الأخضر اللين، بها مائة عود صغير، وضربها به مرة واحدة خفيفة، وبذلك بر قسمه، ولم يؤذ زوجته.
1 سورة ص آية: 43.
2 تفسير ابن كثير ج3 ص189، 190، وقد رجح الرازي في تفسيره الرأي الأول ج13 ص215.
3 سورة ص آية: 44.
وهكذا انتهت محنة أيوب، بعودة ما كان فيه من خير، وضاعف الله له العطاء، تكريما له.
يروي الحاكم أن أيوب عليه السلام كان له أندران، أحدهما للقمح، والثاني للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الفضة حتى فاض.
يروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "بينما أيوب يغتسل عريانا، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك"1.
فنزل عليه الذهب في شكل جماعات الجراد، فأخذ يجمعها، ويلتقطها في ثوبه
…
فلما سأله الله عن عطائه إياه أقر له عليه السلام بأنه أغناه، لكنه مع ذلك لا يستغني عن الزيادة رحمة من الله وبركة.
وهكذا عاش أيوب في النعم الوافرة، وخيرات الله الكثيرة، حتى لقي ربه عن عمر يزيد على تسعين عاما، صلى الله عليه وسلم.
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج6 ص420، باب {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} .
النقطة الثانية: ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام
مدخل
…
"النقطة الثانية": ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام
يمكننا أن نأخذ من قصة أيوب عددا من العبر، تعود إلى القائم بأمر الدعوة، وكأن الله تعالى فصل لنا هذا الجانب ليكون معلما لكل من يقوم بأمر الدعوة، يرى به ما سيقابله من مشاق، وما يحتاج إليه من صفات، وما يجب عليه من حسن معاملة وخلق؛ ليكون على بينة من طبيعة الناس، ومشاق الدعوة، وضرورة التبليغ.
وسأحاول إبراز أهم الركائز فيما يلي:
الركيزة الأولى: تكامل شخصيته مبلغ الدعوة
…
الركيزة الأولى: تكامل شخصية مبلغ الدعوة
مبلغ الدعوة، والقائم بشأنها، لا يحقق مراده من النجاح إلا إذا أخلص في سعيه، وكمل في ذاته.
وأول ما يحتاجه الداعية، أن يمتن صلته بالله، ويرضى بقضائه وقدره، في السراء والضراء.
وليعلم الدعاة أن: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"1.
وإن الصبر ليعد الدليل الأوضح على قوة إيمان صاحبه، وصدقه في العبودية لخالقه، فالبلايا للمؤمن امتحان واختبار، يقول تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2.
وقد رأينا في قصص الأنبياء السابقين كثيرا من ابتلاء الله لهم، وصبرهم على ما قدره الله عليهم؛ ولذلك كان الصبر نصف الإيمان.
جاء في الحديث القدسي: "إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه، أو ماله، أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا، أو أنشر له ديوانا"3.
1 سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر ج4 ص602، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 سورة الملك آية: 2.
3 مدرسة الأنبياء ص176.
وقد رأينا أيوب عليه السلام ابتلي في نفسه، وماله، وأهله، وولده، فلم يجزع أبدا، وظل على حسن التقوى، وجميل الصبر مدة طويلة، راضيا بقضاء الله فيه.
وحاجة الدعاة إلى الصبر ضرورة؛ لأنهم دائما يجابهون أعداء الله في الأرض، وكثيرا ما يتمكن الأعداء منهم، وحينئذ يكون الصبر ملاذهم ومأواهم، وهو الأسلوب الأمثل لإثبات قوة الحق، وإظهار صلابة الإيمان وعزته.
ولحكمة أرادها الله تعالى ابتلى الأنبياء جميعا بصور شتى من البلاء؛ ليكونوا الأسوة لدعاة الله من بعدهم....
ومن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية، أن يكون رفيقا بمن حوله ومعاشريه، وأولهم أهله وبنوه، فهم المجال الأقرب لدعوته، وإيمانهم دليل على صدق الدعوة.... ولذلك أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم قائلا:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} 1.
وهذا أيوب عليه السلام لما أقسم على أن يضرب زوجته مائة سوط، علمه الله أن يبر بقسمه، ولا يؤذي زوجته، ليتعلم كيف يكون رفيقا، رقيقا معها، ولم يأمر الله تعالى أيوب عليه السلام بترك الضرب بالكلية، ليعلم أن من حق الزوج أن يؤدب زوجته في حدود الرفق والمودة، والرحمة، ويرى الشافعي أن هذا المخرج جائز في الإسلام في غير الحدود، ويوافقه أبو ثور وأصحاب الرأي2.
ومما يساعد الدعاة على القيام بواجب الدعوة أن يكون بيته مثواه الآمن، وراحته، وسكنه؛ ليستعين بذلك على المشاق، والصعاب، التي يواجهها مع الناس.
لقد أرشد إبراهيم ولده إسماعيل عليه السلام بطلاق زوجته الأولى لما رأى في أسلوبها ولقائها، ضجرا وتألما وشكاية من قدر الله تعالى.
إن القائم بأمر الدعوة إذا أدى حق الله، وحق الناس، وحافظ على ذلك تتكامل شخصيته، ويحقق لدعوته الخير والفلاح.
1 سورة طه آية: 132.
2 تفسير القرطبي ج15 ص213، 214 بتصرف.
الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله
حينما تشتد الخطوب، ويكثر البلاء، ويجد الداعية نفسه وحيدا، فريدا، عليه أن يركن إلى الله تعالى، ويستجير بمعونته ونصره، فهو سبحانه القادر على كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وهو سبحانه يقلب الليل والنهار، بما يشاء وبما يريد.
إن الثقة في الله تملأ القلب قوة، وتشحن النفس بالشجاعة والإقدام، وتجعل العقل يتيقن بما عند الله أكثر من يقينه مما في يد نفس صاحبه.
إن الصدق في الإيمان هو الذي يجعل المؤمن يقدم على الموت في سبيل الله ثقة بوعد الله تعالى1.
وهو الذي يجعل المؤمن يلازم الطاعة الخالصة، والدنيا من حوله تموج بالفتن، وتدعو إلى الضلال والهوى.
إن الدعاة إلى الله أجراء عند الله، أينما كانوا وحيثما حلوا، وكيفما أرادهم سيدهم أن يعملوا عملوا، وليس عليهم بعد ذلك التطلع إلى المصير.
وكذلك لم يكن عجيبا عند العقلاء ما نراه من أنبياء الله تعالى، وهم يستمرون في الدعوة إلى الله، بلا أتباع، وبلا أنصار من الناس؛ لأنهم اتبعوا ربهم، وانتصروا به وحده سبحانه وتعالى.
وأيوب عليه السلام مَثَل أعلى في هذه الثقة، لم يذهب إلى طبيب يعالجه، ولم يلتمس طريقا يشفيه، ولما أراد الله له النجاة والشفاء أخذه إليه، فناداه قائلا:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، وحينئذ أمره بالاغتسال في الماء الذي نبع له بعد أن ضرب الأرض بقدمه، وأعاد له ما أخذ منه، من أهل ومال، ومثله معه.
1 لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صور رائعة في مجال التسابق للشهادة والجهاد والموت في سبيل الله تعالى.
الركيزة الثالثة: الأخذ بالأسباب المشروعة
ليس بعيدا على الله أبدا أن يتم شفاء أيوب بلا عمل منه، لكن الله تعالى أمره أن يضرب الأرض بقدمه؛ لينبع الماء، ويغتسل منه ويشرب، وبذلك يزول ما ببدنه وباطنه من أذى.
لقد أمره الله تعالى بذلك ليتعلم هو والآدميون من بعده، أن الله تعالى يجري أقداره على أسباب يقوم بها الناس، حتى لا يتكلوا، فكأنه استعمل الدواء، فأشفاه الله من الداء، وصارت سنة في الناس أن يأخذوا بالأسباب، متوكلين على الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"يا عباد الله تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء"1.
ومن الأخذ بالأسباب قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2. إن الله تعالى قادر على أن ينصر رسوله بـ "كن" ولكنه أجرى النصر على الأسباب، فهيأ طائفة من المؤمنين يؤيدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرونه، وحتى يعلم المسلمون على طول الزمن أن الإسلام يحتاج إلى جهد المسلمين، وصدقهم في الدفاع عنه.
وبالنظر في تاريخ الدعوة، نرى جريان القدر الإلهي على الأسباب البشرية غالبا، حتى لا يتكل الناس.
فالمجتهد يفوز، والكسول يخبو، والساعي إلى الحق يصل إليه
…
ومن الأخذ بالأسباب ومراعاة الواقع ما نراه من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلقد أنكر عليه ابنه عبد الملك عدم إسراعه في إزالة الانحراف مرة واحدة، قال له: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني
1 سنن الترمذي، باب ما جاء في الدواء ج4 ص383، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 سورة الأنفال آية: 62.
أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة1، وفي هذا درس للدعاة.
1 الموافقات ج2 ص93، ط. دار المعرفة.
الركيزة الرابعة: أهمية الدعاء
شرع الله للناس اتصالا عاجلا به، يلجئون إليه لتحقيق حاجاتهم، وهو الدعاء، والتوجه لله تعالى.
إن الدعاء الخالص هو العبادة الحقيقية؛ لأنه دليل تقدير العبد للمعبود، وثقته فيه.
والدعاة إلى الله تعالى أحوج الناس إلى هذا السبيل، وعليهم اللجوء إلى الله في السراء والضراء؛ ليديم لهم العطاء، ويتحقق لهم النصر، ويتمكنوا من نشر دين الله بصفائه بين الناس.
14-
ذو الكفل عليه السلام:
وردت قصة ذي الكفل في آيتين من آيات القرآن الكريم في سورتي "الأنبياء" و"ص"، يقول الله تعالى:{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 1، {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} 2.
يرى بعض العلماء أن ذا الكفل ليس نبيا، ولكنه عبد صالح، تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي لهم حاجاتهم، ويحكم بينهم بالعدل وبالحق، ففعل ذلك فسمي بذي الكفل، وقيل: لأنه تكفل بأمر فوفاه، وقيل: لأنه تحمل ضعف غيره في العمل، وثوابه ضعف ثواب غيره أيضا، وينسب هذا الرأي لمجاهد، وقتادة3.
ويذهب آخرون وعلى رأسهم الحسن وابن تيمية والرازي، والأكثرون إلى أنه عليه السلام نبي من الأنبياء، مستدلين بما يلي:
1-
إن الكفل اسم مفيد، ومعناه النصيب، وسماه الله بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون الكفل هو كفل الثواب؛ لأن الله جعل عمله ضعف عمل غيره، وجعل ثواب عمله ضعف ثواب عمل غيره، وكان في زمنه أنبياء، وهذا يرجح كونه نبيا؛ لأنه لا يجوز أن يكون ثواب الرجل الصالح إن قلنا بعدم ثبوت نبوته أفضل من ثواب النبي، مهما كان العمل الذي كلف به.
1 سورة الأنبياء آية: 85.
2 سورة ص آية: 48.
3 تفسير القرطبي ج11 ص328.
2-
إن الله قرن اسمه وذكره باسم وذكر إسماعيل وإدريس عليهم السلام وهؤلاء أنبياء، فهو نبي مثلهم؛ لأن الغرض من الآية ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم الناس.
3-
إن السورة ملقبة بسورة الأنبياء، فكل من ذكره الله تعالى فيها، فهو نبي1.
يذكر الترمذي أن ذا الكفل من أنبياء بني إسرائيل، وبرغم أن الآيات لم تفصل في حركته بالدعوة، إلا أن الأوصاف التي أوردتها عنه عليه السلام تدل على ملامح دعوته، وأهمها:
- ذو الكفل: حيث تكفل بما عهد إليه، ووفى بكل ما كلف به، وذلك دليل على قيامه بأمر الدعوة والبلاغ؛ لأنها موضوع رسالته التي كلف بها، والقضية التي بعث لها، وكان عليه السلام يتكفل لكل إنسان بحاجته، فقصده أصحاب الحاجات، وبهذا سهل أمامه الاتصال بهم، ودعوتهم إلى الله تعالى.
- من الصابرين: وهذه صفة أساسية في نبوته، فبها يؤدي حق الله وحق الناس، ويتحمل كافة المعارضات والعداوات، التي توجه لشخصه، أو لكونه رسولا، أو لدعوته، من الضالين المكذبين على اختلافهم، وتنوعهم.
- من الأخيار: وخيرية الرسول دائما تكون لنفسه وللناس، وهو ينصحهم ويرشدهم، ويحاول إصلاح حياتهم وأخراهم، ويبصرهم بما يجب عليهم لله تعالى.
وهذه الملامح مستفادة من الصفات المذكورة، وأما بيان الوقائع الدالة عليها فلم يتكلم عنها المفسرون والمؤرخون، وكل ما فصل فيه البعض لا دليل عليه؛ ولذلك كان الاكتفاء بالإجمال أولى.
1 تفسير الرازي ج11 ص211.
يونس عليه السلام
النقطة الأولى: التعريف بقوم يونس
…
15-
يونس عليه السلام:
من رسل الله تعالى يونس عليه السلام وهو من أبناء يعقوب عليه السلام بعثه الله تعالى إلى غير الإسرائيليين، والحديث عنه يحتاج إلى عدة نقاط.
"النقطة الأولى": التعريف بقوم "يونس"
بعث الله يونس عليه السلام إلى الآشوريين، الذين أسسوا لهم حضارة عرفت بهم، ونسبت إليهم، ويقع موطنهم حول نهر "دجلة" وروافده.
وأشهر مدنهم: آشور، وأريلا، والكلخ، ونينوى، وتقع هذه المدن في الجهة المقابلة لمدينة "الموصل" الحالية.
وقد نشأ الآشوريون في البادية، إلا أنهم تغلبوا على أهل المدينة، وأسسوا دولتهم، وحضارتهم.
وكان للآشوريين عاصمتان: آشور، وهي عاصمة فصل الشتاء، ونينوى، وهي عاصمة فصل الصيف.
وقامت حضارة الآشوريين على القسوة والحرب؛ ولذلك كانوا يأخذون الجزية من جيرانهم، ويبسطون نفوذهم على كثير من الشعوب.
وكانوا يعبدون أصناما لهم سموها بأسماء مدنهم، وجعلوا إلههم الأكبر هو آشور، وبه يسمى ملكهم، وكانوا يتوجهون بالعبادة لآشور "الملك"، ويتقربون إليه بالعطايا، ويسيرون على أوامره ونواهيه1.
1 قصة الحضارة ج2 ص264-277 بتصرف.
وكانت دعوة يونس عليه السلام للآشوريين، انطلاقا من عاصمتهم "نينوى" يدل على ذلك ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن ذهب إلى "الطائف" حين التقى بـ "عداس" غلام بني ربيعة النصراني، حيث قدم عداس للنبي صلى الله عليه وسلم قطف عنب، فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليه، وقال:"باسم الله" قبل أن يأكل، فقال عداس: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"من أي البلاد أنت؟ " فقال: أنا من نينوى
…
فقال له النبي: "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ " قال له عداس: وما يدريك ما يونس؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلك أخي كان نبيا، وأنا نبي"1.
دعا يونس عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما هم عليه من خلق سيئ، وظلم، وعدوان على الناس.
ومن البدهي أن الله أمده بالمعجزة، ونزل عليه الوحي؛ لتحديد جوانب الدعوة التي أخذ يبلغها للناس.
لكن القوم أصروا على ضلالهم وفسادهم، وتمسكوا بعبادة الملوك والأوثان
…
فلما طال الزمن وهم على ضلالهم، غضب يونس عليه السلام من عنادهم، وأنذرهم بعذاب الله الذي سينزل عليهم لإصرارهم على الكفر والضلال، فلما ظهر العذاب فوق الرءوس فر من بلدهم، واتجه إلى الشرق حيث البحر والسفن؛ ليتمكن من السفر بعيدا عنهم.
لكن القوم بعدما تركهم يونس عليه السلام خافوا من نزول ما خوفهم منه، وقذف الله في قلوبهم التوبة، والرجوع إلى الله تعالى، فلبسوا مسوح الرهبان، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها، وأخذوا يستغيثون بالله، ويتضرعون إليه ليكشف عنهم غضبه، وينزل عليهم رحمته، فاستجاب الله لهم، ورفع العذاب بعدما اقترب منهم، وأظلهم.
1 السيرة النبوية ج2 ص266 ط. دار التراث.
يصور الله تعالى موقف يونس عليه السلام من قومه، وإيمان قومه من بعده، فيقول سبحانه:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} 1، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} 2، {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 3.
والآيات تشير إلى غضب يونس عليه السلام من قومه، وفراره منهم، وأن القوم آمنوا بعد فراره فنفعهم إيمانهم، ورفع الله عنهم عذاب الخزي الذي كاد أن يحل بهم، ومتعهم في الحياة الدنيا، وسوف يمتعون في الآخرة بإذنه تعالى لإيمانهم، وتقواهم.
يقول ابن كثير: "وقد اختلف المفسرون في انتفاعهم بهذا الإيمان، في الدار الآخرة
…
على قولين
…
والأظهر من السياق انتفاعهم به؛ لإطلاق مسمى الإيمان عليهم، والإيمان ينقذ من عذاب الآخرة"4، والله أعلم.
وأخذ يونس عليه السلام دورته التي قدرها الله له، وعاد داعيا، وأرسله الله مرة أخرى، يقول تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
لكن هل هؤلاء المؤمنون هم قومه الذين فر منهم قبل ذلك، أم إنهم قوم آخرون؟؟!
يفترق العلماء في هذه المسألة إلى فريقين، وأميل إلى رأي من قال: إنهم ليسوا قومه السابقين لأسباب:
1-
أن قومه السابقين آمنوا بعدما تركهم وفر منهم، أما هؤلاء فقد آمنوا
1 سورة الصافات الآيات: 139، 140.
2 سورة الأنبياء آية: 87.
3 سورة يونس آية: 98.
4 تفسير ابن كثير ج2 ص433.
بعدما دعاهم لقوله تعالى: {فَآمَنُوا} .
2-
أن أقوامه السابقين كانوا جمعا غفيرا، أما هؤلاء فكانوا عددا قليلا في حدود مائة ألف أو يزيدون.
ولا مانع من أن يكون عليه السلام أرسل لقومه المؤمنين، وأرسل إلى هؤلاء أيضا فآمنوا، فتمتع الجميع بنعيم الله في الدنيا حتى ماتوا، وسوف يتمتعون بنعيم في الآخرة بإذنه تعالى، والله هو الرحمن الرحيم.
"
النقطة الثانية": التعريف بـ "يونس" عليه السلام
هو يونس بن متى، من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله للآشوريين، وكان ملكهم قد غزا بني إسرائيل، وسبى الكثير منهم، فبعثه الله إليهم؛ ليدعوهم إلى دين الله تعالى، ويرسل معه بني إسرائيل ليعودوا إلى ديارهم.
دعا يونس عليه السلام أهل نينوى، لكنهم أصروا على كفرهم، وعبادتهم للأوثان، والأشخاص، فتركهم عليه السلام وذهب مغاضبا.
يفسر العلماء ذهابه مغاضبا بما يليق بمقام النبوة بعدة أوجه:
الأول: أن المعنى ذهب مغاضبا من أجل ربه، والمؤمن يغضب لله إذا عصي أمره، وتركت طاعته.
الثاني: أنه غضب على قومه من أجل كفرهم، واشتد عليهم وفر منهم، ولم يصبر على أذاهم.
الثالث: أنه ترك الناس وذهب مغاضبا للملك الذي يتولى أمور الناس؛ لأنه لم يكن معه في دعوته لهم1، ووقف منه موقفا سلبيا.
1 كان الوحي ينزل على أنبياء بني إسرائيل، ويتولى الحكم والسياسة الملوك.
وأحسنها الرأي الأول.... وتدل هذه المغاضبة أيا كان المراد بها، على ضيق صدر "يونس"، وأنه لما تحمل أمر النبوة قام به بمشقة وعسر؛ ولذلك لم يصبر على قومه، وكان يتوعدهم بالعذاب يحل بهم، فلما أظلّهم العذاب تركهم، ولكنهم تابوا فرفع الله العذاب عنهم، وعاتب الله يونس لأنه تعجل بتركهم1.
وكان عليه ألا يتركهم إلا بإذن من الله تعالى، وألا يغضب أبدا....
يبين القرآن الكريم هذه الصفات في يونس عليه السلام فيقول تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 2.
حيث يأمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم ألا يكون كأخيه يونس في الغضب، والضجر، والعجلة، مع قومه، ويوم أن دعا ربه وهو في بطن الحوت كان مكظوما
…
يقول ابن عباس ومجاهد: أي: مملوءا غما
…
ويقول عطاء وأبو مالك: أي: مملوءا كربا
…
يقول الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب "العقل"، والكرب في النفس "العواطف"، ولا مانع من إرادة المعنيين معا.
خرج يونس من عند قومه، وذهب إلى البحر ليفر منهم بواسطة سفينة تقله بعيدا عنهم، فوجد سفينة مملوءة، فركبها، وسارت السفينة، وولجت بركابها في البحر، فلما جاءها الموج، ثقلت بمن فيها، وتوقفت في عرض البحر، فتشاور الركاب، واتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم، فمن أصابته القرعة، ألقوه في البحر؛ ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس، فلم ينفذوها عليه، لصلاحه وخلقه، وأعادوا القرعة مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة تأتي عليه، فألقوه في الماء، حيث لا مناص من ذلك.
ويجري القدر لتحقيق مراد الله تعالى، ويأتي حوت عظيم يلقمه، فيأمره الله تعالى بعدم أكل لحمه، أو تكسير عظمه، ويبتلعه الحوت، ويستقر "يونس" في بطنه حيا، فأخذ يسبح ربه، ويعبده، واتخذ من بطن الحوت مسجدا، واستغرق في الذكر
1 سورة القلم آية: 48.
2 تفسير القرطبي ج11 ص329.
والتسبيح، والدعاء، ونادى ربه أن ينقذه من هذه الظلمات، وتاب عما كان منه
…
بعدما رأى أنه تضايق في سعة الدنيا، فضيق الله عليه في بطن الحوت، يصور الله ذلك فيقول سبحانه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 1.
والآية تتحدث عن كونه ترك قومه غاضبا، وظن أن لن نقدر عليه، بمعنى: ألا نضيق عليه كقوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 2 أو بمعنى الحكم والقضاء أي: لا نقضي عليه بالعقوبة3، وسكن في بطن الحوت، وعاش ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وتاب عليه السلام عما خالف فيه من ترك دعوة قومه وعدم الصبر عليهم، وضجره من كفرهم، وسأل الله أن يفرج عنه ما هو فيه.
لما محصه الله تعالى، وأدبه، وعلم صلاته، وتسبيحه أمر الحوت أن يقذفه على الساحل، فقذفه ضعيفا، نحيلا، يقول الله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 4، ونجاه الله تعالى إلا أنه كان عاريا يحتاج لستر، وظل، وطعام، وشراب، وأتم الله تعالى فضله عليه، يقول تعالى:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} 5.
والآية تشير إلى أنه ألقي في العراء وهو ضعيف، نحيل، وقد رضي الله عنه وأكرمه بنعمه، يقول تعالى:{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} 6، فبنعمة الله التي أحاطته نبذ بالعراء وهو غير مذموم.... وقد
1 سورة الأنبياء آية: 87.
2 هذا رأي سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وكثير من العلماء "الطبري ج11 ص331".
3 هذا رأي قتادة، ومجاهد، والفراء "الطبري ج11 ص332".
4 سورة الأنبياء آية: 88.
5 سورة الصافات الآيات: 145، 146.
6 سورة القلم آية: 49.
أنبت الله عليه شجرة من يقطين، واليقطين كل شجر ممتد على الأرض لا ساق له، وورقه كبير، ولذلك قال بعض المفسرين: أنبت الله عليه شجرة من القرع لكثرة ظلها، وصلاحية أكل ثمرها من أول طلوعه إلى آخره، ونفعه للطعام، والدواء، وعدم اقتراب الذباب منه، وهيأ الله لـ "يونس" دابة جبلية تسقيه من لبنها.
وصار على هذا الحال حتى أصبح سليما، معافى، قويا.
وأتم الله عليه نعمته، فكلفه بالرسالة مرة أخرى، وأرسله لقوم صدقوا به وأطاعوه، يقول تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1، ولا مانع أن يكونوا قومه السابقين، وحينئذ تكون دعوتهم من قبيل التذكير.
ومن الممكن أن يكونوا قوما آخرين مع قومه وهو الأولى، والله أعلم
…
ما نزل بـ "يونس" عليه السلام تمحيص وتأديب؛ ولذلك كانت رحمة الله معه، وجرت أقدار الله لتحقيق مراده سبحانه وتعالى، في إعادته لدعوة الناس، بعدما عاش هذه المدة سجينا في بطن الحوت.
ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتصور نقصا بـ "يونس" عليه السلام فهو رسول الله عليه السلام يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنه يقول: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"2.
ويقول الحافظ ابن حجر: "خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة"3.
1 سورة الصافات الآيات: 147، 148.
2 صحيح البخاري، باب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ج6 ص450.
3 فتح الباري ج6 ص452.
النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يونس
الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل
…
"النقطة الثالثة": ركائز الدعوة في قصة يونس
تقدم قصة يونس عليه السلام عبرا كثيرة في مجال الدعوة إلى الله تعالى، أجمل منها الركائز التالية:
الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل
الإنسان مكون من جسد، وعقل، وعاطفة، ويرتبط بأي أمر يعايشه، سواء كان أمرا ماديا أو معنويا، فالإنسان يحب المكان الذي تربى فيه، ويحنّ إليه، ويتمنى رؤية أصدقاء الشباب والصبا، وإذا عشق فكرة، تفانى في خدمتها وتنميتها؛ ولذلك كان تغيير الإنسان أمرا شاقا؛ لأن التغيير يبعده عن أمور التصق بها.
فإذا ما كان التغيير إلى دين جديد، كان أشق وأصعب؛ لأنه يغير العواطف، ويربطها بكل ما أحله الدين، ويبعدها عن كل ما نهى الله عنه، ويغير العقول، وينقلها من مجال الوهم، والضلال، وخرافة القيم المادية، إلى هدى الله، وإنسانية الدين، وقيم الخلق والحق، ويغير أعمال الجسد بالتكاليف العملية، التي توجه الجسد في كل حركاته وسكونه
…
إنه تغيير يشمل الإنسان كله؛ ولذلك فهو يحتاج إلى محاولات عديدة، ومدة مديدة، وطاقة شديدة.
إن القائم بدعوة الناس إلى الله، وهو يباشر عملية التغيير، عليه أن يكون صبورا على الناس، يتحمل صدهم، ويناقش آراءهم، ويقدم لهم دعوته بكل وسيلة ممكنة، وبمختلف الأساليب لإقناع الناس، وإدخالهم في دين الله تعالى.
إن إبليس وجنوده يَحُولون بين الدعاة وبين الناس؛ ليبقى الناس في ضلالهم وكفرهم، وينصرف الدعاة عن تحقيق غاياتهم.
وعلى الدعاة أن يوجِّهوا ردا كلما وجدوا صدا؛ لأنهم لو ضجروا وتألموا لحققوا لإبليس غايته، وما يعمل له.
وقد رأينا نوحا عليه السلام يستمر في دعوته ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يفر من ملاقاة الناس إلا بعدما أمره الله تعالى.
وإبراهيم عليه السلام هاجر بأمر ربه بعد أن نجاه الله من النار، وفي قصة يونس درس في هذا المجال، فلقد ترك يونس القوم مغاضبا وفر إلى الفلك، فأدبه الله تعالى حتى أقر بالخطأ، وتاب إلى الله، فلما تاب أعاده الله سبحانه إلى ما كان عليه.
الركيزة الثانية: الإخلاص في العبودية
يحتاج القائمون بأمر الدعوة إلى قوة تعينهم على مهام الدعوة ومشاقها، وتساعدهم في الوصول إلى القلوب والعقول، وليس هناك إلا الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه العليم بالقلوب والخفايا، والقادر على تسخير الوجود كما يشاء، والهدى هداه، يوفق من يشاء للطاعة، ويحرم من يشاء من التقى والرشاد.
ولذلك كانت حاجة الدعاة ماسة في نوال عون الله وتوفيقه، ولا يتم لهم ذلك إلا بإخلاص العبودية، والالتزام بحق المعبود في كافة الأحوال، والأقوال، والأعمال
…
وبذلك يتمكن من القيام بواجب الدعوة، أما إذا أهمل الله في حياته، وعاش بعيدا عن الطاعة لله، فإنه يضر دعوته، وفاقد الشيء لا يعطيه، والظل يعوج باعوجاج أصله.
إن الداعية يعمل لتحويل وجهة العباد إلى الله تعالى، ولا بد أن يكون في مقدمة المتوجهين، وبذلك يكون داعية بقوله، وعمله، وخلقه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سبب قبول توبة يونس عليه السلام يبين الله ذلك، فيقول سبحانه وتعالى:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 1.
1 سورة الأنبياء الآيات: 87، 88.
وفي هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه، كما أجاب يونس، وينجيه كما نجاه، وهو قوله:{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 1.
يروي أبو داود في سننه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعاء ذي النون في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين" لم يدعُ به رجل مسلم في شيء قط إلا استُجيب له"2.
يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "لقد كان يونس عليه السلام مسبحا، أي: منزها لله تعالى، نادى ربه بدعوة في غاية الحق، إنها:
أولا: توحيد: "لا إله إلا أنت".
وثانيا: تنزيه: "سبحانك".
وثالثا: اعتراف بالتقصير: "إني كنت من الظالمين"3.
ولعل أقوى ما يربط العابد بربه مداومة الذكر، في تضرع وخشوع؛ لأنه بذلك يلتزم باب ربه، كسائل يلازم الباب لحاجته، فلا يلبث الباب إلا أن ينفتح، وينال مراده.... يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله!
قال صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله تعالى".
فقال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله4.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"5.
1 سورة الأنبياء آية: 88.
2 سنن أبي داود.
3 في رحاب الأنبياء والرسل ص126.
4 سنن الترمذي ج5 ص459.
5 سنن الترمذي ج5 ص460.
موسى عليه السلام
النقطة الأولى: التعريف بقوم موسى
…
16-
موسى عليه السلام:
موسى1 عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى لقومه وللمصريين، وهو من أولي العزم الذين خصهم الله بالعزم القوي، والصبر الجميل، والتحمل الشديد؛ ولذلك ففي قصته عبر وفوائد، وبخاصة أن أتباعه من بني إسرائيل ما زالوا يدعون تبعيتهم له، واليهود منهم يتصورونه خاصا بهم، والنصارى يتصورون عيسى عليه السلام جاء على دين موسى عليه السلام إلا أن الله رفع شأنه فاتخذه ابنا له، وصيره إلها معه.
إن العالم المعاصر يموج بالتيارات العديدة، والمتعارضة من اليهود ومن غيرهم؛ ولذلك كان من الأفضل الإحاطة بقصة موسى عليه السلام ودينه وأتباعه المعاصرين، وما هم عليه من عنصرية وأباطيل، ومما يحتاج لبيان توضيح الصلة بين أتباع موسى، واليهود الحاليين ليكون الحديث صادقا عن هؤلاء، وهؤلاء.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه الدراسة عن موسى عليه السلام والتي أراها تحتاج إلى بحث النقاط التالية:
"النقطة الأولى": التعريف بقوم موسى
جاء يوسف عليه السلام ببني إسرائيل جميعا مع أبيهم إلى مصر، من البادية،
1 موسى اسم معرب من العبرية، أصله في العبرية: موشا، ومو معناها ماء، وشا معناها الشجر، والاسم يشير إلى الماء والشجر اللذين كانا حول قصر فرعون في مدينة "عين شمس"، والذي التقط منه تابوت موسى "بصائر ذوي التمييز ج6 ص61".
وأسكنهم في حاضرة مصر، وغيرها من المدن المصرية، وعاشوا معه منعمين متمتعين بسلطان يوسف وعزته، وكان الرعاة "الهكسوس" هم ملوك مصر يوم مجيء آل يعقوب، فتعاون الإسرائيليون مع الرعاة، ولم يختلطوا بالمصريين، وعاشوا في عزلة بعيدا عن المصريين.
وقد تمكن المصريون من طرد الهكسوس مع بداية حكم الأسرة الثامنة عشرة، فتغير حال الإسرائيليين، وانقلب وضعهم في المجتمع، وأخذ الفراعنة يتعاملون معهم كدخلاء، متعاونين مع الأعداء.
وكان من نتيجة ذلك أن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة أخذوا في تكليفهم بالأعمال الشاقة، وصنفوهم في الشغل، فصنف يبني، وصنف يحرث، وصنف يزرع
…
ومن لم يكن له عمل فعليه الجزية، وهكذا ساموا الإسرائيليين {سُوءُ الْعَذَابِ} .
وقد أصدر فرعون ذلك الزمان قرارا بقتل أي ذكر يولد للإسرائيليين، وترك الإناث يعيشون.
وسبب هذا القرار أن الكهنة والمنجمين أخبروا فرعون بأن مولودا من بني إسرائيل قد أظلنا زمانه الذي يولد فيه، يسلبك الملك، ويبدل الدين، ويخرجك من مصر1.
وقيل: إن السبب هو أن الإسرائيليين كانوا يتدارسون فيما بينهم ما نقلوه عن إبراهيم عليه السلام من أن الله سيخرج من ذريته غلاما، يكون هلاك ملك مصر على يديه، وذلك بعد أن أذاه ملك مصر في زوجته سارة2.
وقيل: إن السبب رؤيا رآها الملك من أن نارا أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر جميعا وسكانها، ولم تضر بني إسرائيل، فأوَّلَها المعبرون بغلام إسرائيلي يولد، يدمر ملك فرعون مصر3.
1 تاريخ الطبري ج1 ص387.
2 البداية والنهاية ج1 ص237.
3 الكامل ج1 ص170.
أخذ فرعون الحيطة بقراره، وأمر بتنفيذه بكل دقة
…
وحدث أن قيل لفرعون: أفنيت النسل، وإنهم خولك وعمالك، فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان1.
يصور القرآن الكريم فرعون هذا الزمان وعمله، فيقول تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2.
وهكذا انقسم المجتمع المصري إلى قسمين رئيسيين هما:
القسم الإسرائيلي: وهم أبناء يعقوب بعد أن كثر عددهم، وقد رأينا ما حل بهم بعد انتهاء حكم الرعاة، وبعدما أخذ فرعون يتعامل معهم على أساس أنهم أعداء الدولة والنظام، واتخذ من القرارات ما يكفل عدم تمكنهم من ملك مصر.
القسم الثاني: الأقباط، وهم سكان مصر الأصليون، وعليهم يقوم نظام الملك، وقد خضعوا لجبروت فرعون الذي ادعى الألوهية، واتخذه المصريون ربهم الأعلى.
إن فرعون تكبر وعلا، وقسم الشعب إلى طوائف، وفرق بين الناس ليعلو عليهم جميعا، إنه كان من المفسدين.
وكان الإسرائيليون على دين يوسف عليه السلام إلا أنهم غيّروا فيه، وبدّلوا، وأدخلوا فيه بعضا من ضلالات المصريين؛ ولذلك تشوه التوحيد لديهم، وأصبح خليطا من الشرك والتجسيد، ولم يبق معهم من دين آبائهم إلا مسماه فقط.
1 تاريخ الطبري ج1 ص388.
2 سورة القصص آية: 4.
أما المصريون فكانوا يعبدون الأصنام، والأوثان، والحيوان، ويتخذون فرعون إلها أكبر؛ ولذلك كانوا جميعا محتاجين إلى رسول يدعوهم إلى دين الله الحق، وقد جاءهم موسى عليه السلام بهذا الدين ومعه أخوه هارون عليه السلام.
النقطة الثانية: التعريف بموسى عليه السلام
مدخل
…
"النقطة الثانية": التعريف بموسى عليه السلام
حياة موسى عليه السلام متشعبة الجوانب، غريبة الأطوار، وقد أحاطه الله برحمته وقدرته؛ ليكون رسوله إلى المصريين وبني إسرائيل، وقال له سبحانه وتعالى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 1، والتعريف به عليه السلام يحتاج إلى مدارسة حياته في عدد من الجوانب؛ لنرى في كل جانب عجيبة من عجائب قدرة الله تعالى في عنايته بموسى عليه السلام وذلك فيما يلي:
1 سورة طه آية: 41.
أولا: ولادة موسى
حينما أصدر فرعون قراره بقتل ما يولد للإسرائيليين من الذكور، ووضع كل المحاذير حتى لا يفلت منهم أحد، وُلد موسى عليه السلام والله غالب على أمره، فقدر سبحانه وتعالى أن يولد هذا المولود، ويربى في دار فرعون نفسه، وينشأ على فراشه، ويغذى بطعامه وشرابه، ثم يكون هلاكه في الدنيا والآخرة على يديه.... فالله فَعَّال لما يريد، وهو القوي العظيم.
وحتى يتحقق قدر الله تعالى نرى الحوادث تسير بعَجَب مدهش، وبطريقة ناطقة بقدرة الله تعالى وحكمته، ذلك أن أم موسى حملت به، فأنكرت حملها على الناس، ولم يكتشفها أحد من زبانية الطاغوت، فلما وضعته ألهمها الله تعالى أن تتخذ تابوتا وتضعه فيه، فكانت ترضعه، وتضعه في التابوت مخافة أن يكتشفه أحد، وألهمها الله تعالى أن تضع التابوت في البحر أمام بيتها1، وتربط التابوت بحبل تمسك
1 كان بيت أم موسى على شاطئ البحر.
بطرفه؛ لتتمكن من إرضاعه، وفي نفس الوقت تحميه من عسس فرعون وعيونه، وشاء الله أن ينقطع الحبل، وتتقاذف الأمواج التابوت، وتتحرك به بعيدا، وتأخذه إلى جوار قصر فرعون.
ويعجب العقل أن تكون النجاة فيما هو مظنة الهلاك، ولكنه الله الذي قال لأمه:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} فألقته في اليم، وتحرك به الماء بعيدا عن عيونها وبيتها، فكاد قلبها أن ينخلع منها فرقا عليه، وتعلقا به.
يذكر المفسرون أن الجواري التقطْنَ التابوت من البحر، وأخذنه مغلقا لسيدتهن "آسية بنت مزاحم"، فلما فتحته آسية رأت وليدا يتلألأ وجهه بالنور، والحسن، فأحبته، ورضيته لنفسها ولدا، فلما جاء فرعون هَمَّ بذبحه، فطلبت آسية منه أن يتركه، ويهبه لها، فرضي برجائها ليكون لها فقط، فليس له به حاجة.
ووصل الولد إلى بيت فرعون، وأصبح مكفولا برعاية الملك، وزوجته.... يصور الله هذا الجانب من القصة، فيقول سبحانه:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 1.
1 سورة القصص الآيات: 7-9.
والوحي إلى أم موسى إلهام في القلب، يضعه الله فيه، فيقتنع به صاحبه ويطبقه1.
وقد ألهم الله أم موسى بأمرين:
1-
أن ترضعه عقب ولادته وتشبعه، ولا تفعل كما تفعل الإسرائيليات إذا ولدن ذكرا؛ لأنهن كن يقتلن أولادهن بأيديهن، أو يسلمنه إلى جنود فرعون ليذبحوه.
2-
إذا خافت عليه من جنود فرعون، فعليها أن تلقيه في البحر بعد أن تضعه في تابوت، وألهمها الله -سبحاته وتعالى- بأنه لن يصاب بأذى، وأن الله سيعيده إليها، وسيجعل الله له شأنا ومقاما، وسيكون رسول الله إلى الناس، وعليها ألا تخاف عليه من أي أذى، كالضياع والموت، ولا تحزن لبعده عنها، أو مخافة القتل.
وتشير الآيات إلى التقاط آل فرعون لموسى من البحر، وتربيته في بيتهم، آملين أن يكون قرة عين لهم، وهم لا يشعرون أنه سيكون لهم عدوا وحزنا، وكأن القدر يقول لهم: "يا أيها الملك الجبار، المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه، واتساع سلطانه، قد حكم العظيم سبحانه وتعالى، الذي لا يغالب، ولا يمانع، ولا تخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يغذى إلا بطعامك، وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه، وتربيه، وتتفداه، ولا تتطلع على سر معناه
…
ثم يكون هلاكك على يديه؛ لمخالفتك ما جاء به من الحق المبين، وتكذيبك ما أوحي إليه، لتعلم أنت وسائر الحق، أن رب السموات والأرض
1 يرى الجمهور أن الوحي لأم موسى كان إلهاما على نمط: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ، وذهب جماعة إلى أنه كان مناما، وذهب آخرون إلى أن مَلَكًا تمثل لها وكلمها به، وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك، فهو وحي إعلام لا إلهام، والكل يراها غير نبية "تفسير القرطبي ج13 ص250".
هو الفعال لما يريد، وأنه هو القوي الشديد، ذو البأس العظيم، ومالك الحول والقوة، وصاحب المشيئة التي لا مرد لها"1.
وقد كاد الله لفرعون وهامان وجنودهما بهذا التدبير؛ لما كانوا عليه من الخطأ، والظلم، والعدوان.
ولكن، هل يتحمل الجنود الآثام التي قاموا بها، بأمر من رؤسائهم؟
الآية تشركهم في الخطأ، وتجعلهم معاقبين به؛ لأنهم أداته المنفذة، ولولاهم ما تحقق له شيء.
1 البداية والنهاية ج1 ص238.
ثانيا: رضاعة موسى
وافق فرعون على المحافظة على الرضيع، ووهبه لزوجته "آسية بنت مزاحم"، فبدأت في البحث عن ظئر ترضعه بنفقة، لكنه لم يقبل ثديا، ولم يأخذ طعاما، فحاروا في أمره، واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل، فأرسلوه إلى السوق لعرضه على النساء عساه أن يرضع من إحداهن.
وكانت أم موسى كلفت أخته "كلثوم" بتتبع أثره، ومعرفة أخباره من بعد، حتى لا يكشف أمره أحد، فلما رأته في السوق، وشاهدت إعراضه عن النساء قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يهتمون به ويكفلونه، وهم له ناصحون.... فلما وصفتهم {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} سألوها: وما يدريك بذلك؟ لعلك تعرفين أهله؟ فقالت: لا، ولكني أردت، وهم للملك ناصحون، ودلتهم على أم موسى، فكلفوها بإحضارها، فأحضرتها لهم، والصبي يبكي في يد فرعون من الجوع، فدفعه إليها فقبل الصبي ثديها، ورضع منها
…
فسألوا الأم: لِمَ ارتضع منك، ولم يرتضع من غيرك؟ قالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أُوتى بصبي إلا ارتضع مني، طلب فرعون من أم موسى البقاء في القصر لإرضاعه، فرفضت لحاجة زوجها وأولادها، فأعطوها الصبي بأجر تأخذه، وهكذا عاد موسى إلى أمه، واستقر أمرها
واطمأنت أم موسى على وليدها بعد أن أصابها الهلع يوم أن ألقته في البحر، حيث فرغ قلبها من كل شيء إلا من تذكر وليدها هذا، وقدر الله للصبي أن يعود لأمه، ترضعه في بيتها، وتأخذ أجرتها من مال فرعون، وتتمتع بحماية جنده، وسلطانه.
وخاب حذر فرعون، وقام بتربية الغلام الذي يخاف مجيئه، ويعمل على قتله يوم مولده.
نعم.... إنه الله رب العالمين.
1 سورة القصص الآيات: 10-13.
ثالثا: تربية موسى
أتم موسى مدة الرضاع عند أمه، وبعدها انتقل إلى بيت فرعون؛ لتشرف آسية على تربيته، وترعى شئونه، وصار معروفا بين المصريين أنه ابن فرعون، وكانوا يسمونه موسى بن فرعون، ويعرفون أن الإسرائيليين أخواله من الرضاع.
وحدث وهو صغير أن كانت آسية تداعبه وتلاعبه، فناولته فرعون، فلما حمله أخذ الغلام بلحيته فنتفها، فهمّ بقتله لتصوره أنه هو هو، قالت آسية: إنما هو صبي لا يعقل، ووضعت أمامه ياقوتة حمراء، وجمرة نار، وقدمتهما لموسى الصغير، فمد يده وأخذ الجمرة، فحدثت عقدة لسانه، فدرأت عن موسى القتل بذلك1.
1 الكامل في التاريخ ج1 ص173.
وكبر موسى عليه السلام وصار له شأن في مصر، وكان يأكل مما يأكل فرعون ويلبس من ملبسه، ويركب مركبه، إلا أنه كان يحب العدل، وينفر من الظلم؛ ولذلك عز به بنو إسرائيل وأحبوه، وامتنع القبط عن إذلالهم، وتسخيرهم.
وفي يوم ذهب موسى إلى أطراف مدينة "منف" ووصلها بعد نصف النهار، وقد أغلقت الأسواق أبوابها، ورجع الناس إلى بيوتهم، فوجد رجلين يقتتلان؛ أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، والمراد من شيعته أتباعه وأصحاب مذهبه؛ لأن الإسرائيليين كانوا على شيء من دين يوسف عليه السلام وأما عدوه فهو العابد للأصنام؛ لأن الجميع كانوا يتصورون موسى ابنا لفرعون، ويفسرون تعاطفه مع الإسرائيليين بسبب رضاعته منهم.
اقتتل هذان الرجلان فاستغاث الإسرائيلي بموسى، ورأى موسى أن القبطي معتدٍ، سبَّاب، شتم الإسرائيليين جميعا، فجاء إليه وضربه بقبضة يده، فقضى عليه ومات.
يقول قتادة: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا فأبى، فشتمه، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام ومن المعلوم أن إغاثة المظلوم دين في الملل كلها1. ولم يكن موسى يريد قتله، ولذلك ندم على فعله، وتاب لربه، وطلب من الله المغفرة، ووضح أن هذا من عمل الشيطان، وإغوائه
…
1 تفسير القرطبي ج13 ص260.
2 سورة القصص الآيات: 15، 16.
وبهذا يعرف أن موسى عليه السلام ضرب القبطي بقبضة يده، ووكزه بها، فمات بسببها، فلما قضى عليه، استغفر موسى ربه، وتاب إليه، فقبل الله توبته، إنه هو الغفور الرحيم.
يتحدث المفسرون، والمؤرخون عن عمر موسى في هذا الوقت، ويوردون آراء كثيرة، تبعا لاختلافهم في المراد بالحكم، والعلم، الذي آتاه الله لموسى عليه السلام وذكره في قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 1، فمن يراه النبوة والفقه، يذهب على أن موسى قد بلغ مبلغ النبوة، وهو أربعون سنة، ومن يراه الفهم والإدراك، يذهب إلى أنه كان صغيرا لا يتجاوز ثلاثين عاما، ومنهم كعب الذي يذكر أن عمر موسى في هذا الوقت كان اثنتي عشرة سنة2.
وأرى -والله أعلم- أنه كان صغيرا؛ لأنه عاش عند مدين عشر سنوات على الأقل، وتزوج وعاد إلى مصر مرة أخرى، فأتاه الوحي حين عودته بسيناء في الوادي المقدس، وكلف بالرسالة عندها، وهذا يرجح أنه لم يتجاوز ثلاثين عاما وقت مقتل القبطي.
وعند صباح اليوم التالي أصبح موسى خائفا، يسير بين الناس، ويترقب الأخبار والحوادث، وبينما هو كذلك إذا بالرجل الذي استنصره بالأمس يستغيث به مرة ثانية؛ لينصره على قبطي آخر يقاتله، فرد عليه موسى غاضبا: إنك سيئ التفكير، لا تقدر الأمور كما ينبغي، تشاد من لا تطيقه، وتجلب شر من لا تقدر عليه، وهذا ظاهر في مخاصماتك، ومشاجراتك
…
سمع الإسرائيلي هذا اللوم العنيف من موسى، فاهتم في قتل القبطي، وخاف القبطي من وجود موسى فحذره من
1 سورة القصص آية: 14.
2 تفسير القرطبي ج13 ص261.
مساعدة الإسرائيلي؛ حتى لا يقتله كما قتل نفسا أخرى بالأمس.
والآيات توضح أن الإسرائيلي استغاث بموسى، وأن موسى عنّفه، ويجب أن نعلم أن الذي أراد البطش بالقبطي هو الإسرائيلي وليس موسى، وإنما وجه القبطي كلامه لموسى مخافة أن يساعد الذي هو من شيعته؛ لأن حادثة الأمس صارت حديث المدينة، وأن الملأ علموا أن موسى هو القاتل، وأنهم يجدّون في البحث عنه في كل أرجاء المدينة للقبض عليه وقتله.
أما القول بأن موسى أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، أو بالذي هو من غير شيعته فبعيد، يقول الشيخ العدوي:"ومن البعيد جدا أن موسى يخطئ مرة في تشيعه للذي من شيعته، ويكون من وراء ذلك قتل رجل بدون ذنب، ثم يعاود الخطأ مرة ثانية، بعد يوم واحد من توبته"2!!
وكذلك من البعيد أن موسى يقابل الرجل الذي يستنصره في المرة الثانية ويعنفه بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ثم يساعده مرة أخرى.
والحق أن مرجع الضمير في {أَرَادَ} للإسرائيلي، والضمير في {قَالَ} للقبطي.
وأنقذ الله موسى من فرعون وملئه، بعدما جدّوا في البحث عنه لقتله
1 سورة القصص الآيات: 18، 19.
2 دعوة الرسل ص269.
وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وهو ابن عم فرعون، لما علم بما قرره الملأ بحث عن موسى، جاءه من مكان بعيد مسرعا، وأخبره بأن الملأ يبحثون عنه لقتله جزاء على قتله القبطي، ونصحه بترك المدينة، والخروج من مصر بالكلية، حتى لا يقع في أيدي الناس.
واستمع موسى لنصح الرجل، وخرج من المدينة إلى جهة المشرق، قاصدا بلاد مدين؛ لما يسمعه عن أهلها من الخير والفضل.
1 سورة القصص الآيات: 20، 21.
رابعا: موسى عند مدين
خرج موسى عليه السلام من المدينة خائفا يترقب، ولم يكن يعرف الوجهة التي يقصدها، ولذلك دعا ربه لينجيه من فرعون وملئه، ويهديه إلى الصراط المستقيم، ويوفقه لما فيه الخير والفلاح
…
يقول الله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1، ومدين: اسم مدينة على بحر القلزم "الأحمر" تقع تجاه تبوك بين وادي القرى والشام، وسميت القبيلة باسم المدينة2، وقيل: بل هو اسم قبيلة سكنت هذا المكان، ومنه قوله تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} وليس هو شعيبا الذي وجد في زمن موسى عليه السلام.
1 سورة القصص آية: 22.
2 معجم البلدان ج5 ص77.
وأرى رجحان هذا الرأي؛ لأن شعيبا الرسول عليه السلام جاء بعد لوط عليه السلام لقوله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ، ولوط عليه السلام كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام أما موسى عليه السلام فقد جاء بعد أبناء أبناء يوسف، فبينه وبين إبراهيم خمسة آباء على الأقل هم:"يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" عليهم السلام، وعلى ذلك فشعيب صاحب موسى ليس هو شعيبا الرسول1، والله أعلم
…
توجه موسى ناحية مدين، وجدّ في السير حتى وصل إلى منطقة فيها بئر ماء، فتوقف عندها ليستريح من هذا السفر الشاق، الطويل، وجلس تحت شجرة، ينظر للناس ويشاهد أحوالهم، فإذا هم عدد من رعاة الغنم والماشية، جاءوا بقطعانهم لتشرب الماء الذي تريد، ورأى فتاتين تقفان بعيدا عن البئر، وتمنعان غنمهما من الاقتراب نحو الماء، أو نحو أغنام الآخرين
…
ولاحظ موسى أن الرجال يسقون غنمهم الماء صافيا، وما بقي من ماء البئر فهو لغنم الفتاتين
…
ولاحظ أيضا أن البنات تتأخر في العودة؛ لأنهما تذودان غنمهما عن الماء؛ انتظارا لانتهاء الشباب من السقي.
لاحظ موسى ذلك فسأل البنتين: ما خطبكما؟ وما هي الأسباب التي تدفعكما إلى التأخير؟؟
قالتا: لا نستقي أولا حتى لا نزاحم الرجال لضعفنا، وأبونا شيخ كبير، لا يمكنه أن يحضر معنا، وليس لنا أخ يأتي معنا، فأشفق موسى عليهما، وزاحم الرعاة، وغلبهم على الماء، وسقى للمرأتين غنمهما، فعادا مبكرتين إلى أبيهما، وأخذتا تحدثانه عن شهامة موسى ورجولته وقوته، وأنه شخص غريب عن مدين وربما يحتاج لعمل وإقامة.
1 تفسير أبي السعود ج5 ص9.
تحدث شعيب مع ابنتيه، وموسى جالس تحت ظل شجرة عند البئر، يدعو الله تعالى أن يرزقه من الخير ليعيش عابدا، يتمكن من أداء ما وجب عليه، عن ذلك يقول الله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} 1.
واستجاب الله لموسى دعاءه، وفكر شعيب في إحضار موسى ليعلم شأنه، ويكافئه على مساعدته لبناته، ويشكره على مروءته، ويتفق معه ليعمل عنده وفق شروط يرتضونها، فأرسل إحداهما لإحضاره، يقول الله تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 2.
أرسل شعيب إحدى بناته إلى موسى، فجاءته ساترة وجهها بكُمّ درعها، وأبلغته دعوة أبيها ليذهب معها؛ ليعطيه أجر ما سقى لهما، فذهب معها، وقال لها: كوني ورائي، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا، فإني لا أنظر أدبار النساء، فتيقنت من أمانته، كما رأت من قبل شهامته وقوته. وصل موسى إلى شعيب، وجلس معه، وحدثه في كل شئونه، وروى له كافة الأحداث التي تركها في مصر من قتل الأبرياء، وتسخير الضعفاء، واضطهاد المساكين، فقال له شعيب: أنت الآن
1 سورة القصص الآيات: 23، 24، والأمة: هي الجماعة، من دونهما أي: بعيدا عنهما، {تَذُودَانِ} بمعنى: تمنعان، {يُصْدِرَ} بمعنى: ينتهي.
2 سورة القصص الآيات: 25، 26.
في ديار خارجة عن مملكة فرعون فاطمئن ولا تخف، وقدم له الطعام والمأوى ضيفا كريما، بعد أن رفض أخذ أجرة على مساعدته للنسوة.
بعد أن اطمأن موسى عند شعيب، وطعم واستراح، قالت البنت التي دعته لأبيها: يا أبت استأجره، فهو قوي أمين، فعرض شعيب رؤيته عليه، واقترح عليه أن يتزوج واحدة من بناته، بعد أن يعمل لديه أجيرا مدة ثماني سنوات، وإن زادها إلى عشر فالزيادة تبرع محض، له أن يقبلها، أو يرفضها منعا للحرج والمشقة.
وافق موسى على اقتراح شعيب، على أن يترك تحديد أي الأجلين الذي سيقضيه موسى لوقته، وله أن يختار أي الأجلين بلا لوم، أو عتاب.
أتم موسى عليه السلام المدة، ودخل بأهله، يروي ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام:"أي الأجلين قضى موسى؟ " فأخبره أنه قضى عشر سنين2.
1 سورة القصص الآيات: 27، 28.
2 تفسير القرطبي ج13 ص280.
خامسا: تكليف موسى بالرسالة
بعد أن أتم موسى عليه السلام عمله عند شعيب، ودخل بزوجته، استأذن شعيبا أن يأخذ زوجته ويرجع إلى مصر لزيارة والدته وأقاربه، فأذن له، فخرج بأهله وغنمه، وصحبه في رحلة العودة إلى مصر زوجته وولدان له.
تاه موسى وصحبه في الطريق، فنزلوا بوادي طوى، في طور سيناء....
وجاء الليل بظلامه الدامس، وبرده القارس، وجاء المخاض لزوجته، وأصبحوا في حاجة ماسة للنار، لأسباب عديدة:
- إنهم يحتاجون للنار يعدون بها الطعام، وبخاصة للأم التي ولدت.
- ويحتاجون للنار تضيء لهم المكان؛ ليعرفوا أين هم، ويكتشفوا الحياة من حولهم.
- ويحتاجون للنار يستدفئون بها من برد الشتاء الشديد.
- ويحتاجون للنار ليعلم المارة أن ناسا هنا، فيأتون إليهم، ويستعينون بهم على معرفة الطريق إلى مصر.
أخرج موسى زنده وقدحه، لكنه بدل أن يخرج نارا أظهر ضوءا فقط، وهنا أبصر موسى بجانب الطور من بعيد نارا، فقال لأهله: استمروا في مكانكم، وسأذهب إلى مكان النار، لأعرف خبر ما عندها، وعسى أن أتمكن من إحضار جمرة نار ملتهبة تستدفئون بها من البرد، وتستعينون بها في إعداد الطعام، والمؤانسة.
عن هذه المرحلة، وحتى إقامة موسى وصحبه في طور سيناء يقول الله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْ لِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} 1.
والأجل الذي قضاه موسى هو المدة التي اتفق عليها مع شعيب، وجذوة النار قطعة منها، وهي القبس، أو الشهاب، ووعد موسى أهله بإحضار جزء من النار لحاجتهم إليه، ورجا أن يجد عند النار أناسا، يستهدي بهم عن الطريق إلى مصر.
وذهب موسى عليه السلام ناحية النار، واقترب منها، فإذا النار في شجرة، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة هذه الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة، ولا قوة الخضرة تغيران حسن ضوء النار، وحاول موسى عليه السلام أن يختبر طبيعة هذه النار، فأهوى إليها بضغث
1 سورة القصص آية: 29.
في يده فلم يحترق، وكان كلما اقترب منها ابتعدت عنه، وإن ابتعد اقتربت، ثم لم تزل تطمعه، ويطمعها، إلى أن وضح أمرها، وناداه الله وكلمه، وكلفه بالرسالة، يقول الله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
وحدد الله لموسى أصول الدعوة التي سيبلغ الناس بها، وذلك في قوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 2.
كلم الله تعالى موسى عليه السلام من جهة الشجرة، وعرف من كلام الله تعالى عددا من القضايا:
الأولى: عرفه الله بالمكان الموجود فيه وهو "الوادي المقدس"، وقد تجلى الله فيه وطهره، وأخرج منه الكفر والضلال، ويجب على موسى أن يحافظ على طهارة المكان وقداسته، ولله أن يفضل مكانا على مكان.
الثانية: أمره الله بخلع نعليه وهو بالمكان المقدس احتراما له وتواضعا؛ لينال بركة المكان، يقول القرطبي:"والعرف عند الملوك أن تخلع النعال تواضعا، فكأن موسى أُمر بذلك على هذا الوجه"3، ومن الجائز أن الأمر بخلع النعل كناية عن ضرورة تفريغ القلب من أمر الأهل والولد، والمعاش، وغيرها؛ ليتفرغ كليا للرسالة والدعوة.
1 سورة القصص آية: 30.
2 سورة طه الآيات: 11-16.
3 تفسير القرطبي ج11 ص172.
الثالثة: اختاره الله للرسالة، وكلفه باستماع الوحي، فوقف موسى عليه السلام وأخذ يستمع. روي عن وهب بن منبه، أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يجب لله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فلا يشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم، فيعمل بما يفهم1.
قالوا: إن موسى عليه السلام لما أمر بالاستماع، وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع2.
الرابعة: أخبره الله أن أول الدعوة توحيد الله تعالى في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فهو سبحانه واحد لا شريك له، وهو الواحد القهار.
الخامسة: عرفه بحتمية قيام الساعة، وفيها يحاسب الله الناس جميعا؛ لتجزى كل نفس بما تسعى.
السادسة: حذره الله من أعداء الله في الأرض؛ لأنهم يبذلون أقصى الجهد لصد الناس عن الإيمان، وهم في سعيهم ومحاولاتهم يبدءون بصرف الناس عن الطاعة شيئا فشيئا، ويستمرون معهم حتى يصرفوهم عن الدين بالكلية، وبذلك يكون الهلاك والموت، وعلى موسى أن يحذرهم حتى لا يردى.
تعجب موسى مما رأى، ومما سمع عند من كان يظنه نارا....
لقد جاء يقصد لهبا، ونارا، فأخذ نورا، ورحمة
…
وكان يتمنى أن يجد من يهديه لطريق مصر، فهداه الله إلى طريق إنقاذ الناس أجمعين.
سُر موسى بما رأى وبما سمع، وشعر أن الأمر ثقيل، والمهمة شاقة، تحتاج إلى قوة وثقة وإيمان ويقين، فأمده الله تعالى ببعض الآيات التي تمكنه من القيام
1 تفسير القرطبي ج11 ص176.
2 نفس المرجع ج11 ص176.
والآيات تشير إلى بداية وحي الله لموسى عليه السلام ومع بداية الوحى يحتاج الرسول إلى معجزات، يتأكد بها من اختيار الله له، وكان ما رآه موسى عليه السلام عند الشجرة كافيا، إلا أن الله تعالى أظهر له معجزتين أخريين تأكيدا لاختياره، وبرهانا على قومه، وقد علم الله عتوهم واستكبارهم، وتدريبا له على تلقي الوحي وتحمل التكاليف، وهاتان المعجزتان هما:
المعجزة الأولى: معجزة العصا
…
بدأ الله سؤال موسى عما بيمينه، والجواب هو العصا، لكن موسى أخذ يتحدث عن وظيفة العصا؛ حبا في إطالة الحديث مع ملك الوحي، أو مع الله، حيث قال: هي عصاي أملكها، وأتحامل عليها حين أمشي، وأضرب بها أغصان الشجر لتسقط فتأكلها غنمي، ولها منافع أخرى كثيرة
…
وكأني بموسى عليه السلام قد استشرف عظمة المقام، فأراد أن يسأله الله عن هذه المنافع الأخرى، ليطول الكلام، ويمتد اللقاء.... إلا أن الله أمره بإلقائها على الأرض، فألقاها، فإذا حية تسعى، خاف موسى من الحية، فأمره الله أن يأخذها بيده ولا يخاف منها، وسيعيدها الله عصا مرة أخرى كما كانت.
المعجزة الثانية: أمر الله موسى عليه السلام أن يضع يده تحت إبطه، وسوف يرى أنها ابيضّت بلا مرض ولا أذى، فإذا أراد أن يعيدها إلى حالتها الطبيعية فعليه أن يضعها مرة أخرى تحت إبطه، ويخرجها.
اطمأن موسى عليه السلام إلى اختيار الله له، وبدأ يتحرك للدعوة ويعمل لها.
سادسا: قيامه بالدعوة
طلب موسى من ربه أن يجعل معه أخاه هارون وزيرا يعينه، ويشد أزره، فاستجاب الله له، وأمده بما طلب، وقام موسى بواجب التبليغ لفرعون وقومه، يدعوهم إلى التوحيد، وطاعة الله، ويطلب من فرعون أن يترك الإسرائيليين لشأنهم، وأن يرسلهم أحرارا إلى موسى عليه السلام ليعيدهم إلى التوحيد الخالص الذي تعلموه من أنبيائهم، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة، كما قام موسى عليه السلام بالدعوة في قومه أيضا....
ولقي مشقة وعنتا، من هؤلاء، وهؤلاء، فقابلها ومعه هارون بصبر النبوة، وخلق الرسل، والثقة في عون الله وقدرته، وأيده الله بالمعجزات العديدة، في مواجهته للمصريين، وللإسرائيليين سواء بسواء.
ويبدو أن غلبة الجانب المادي، والجدل الكلامي سمة مصريي هذا الزمان؛ ولذلك كانت معجزات موسى لهم حسية، وكثر الحوار والجدل مع موسى بلا نتيج.
وكان الإسرائيليون يعيشون عبيدا للفراعنة، ولذلك لم يجادلوا موسى، وهم في مصر، وأظهروا له الطاعة والامتثال، ودائما كانوا يشكون له ما لقوه من فرعون، يصور الله تعالى شكاياتهم، فيقول سبحانه:{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 1، فلما نجوا من ذل فرعون، وانتقلوا إلى برية سيناء، ظهروا على حقيقتهم، وبان من مواقفهم مع موسى وهارون عليهما السلام ما في طباعهم من خصائص.
فلقد جُبلوا على المادية، وألفوها، وتعلقوا بها؛ ولذلك طلبوا من موسى عليه السلام أن يصنع لهم صنما يعبدونه، ويلازمونه، ويرونه وهم يعبدون، وطلبوا أن يروا
1 سورة الأعراف آية: 129.
الله جهرة
…
وعبدوا العجل الذي صنعه السامريّ.
وفي طبعهم مخالفة من يعيشون معه، ولو إلى الأسوأ، فلقد طلبوا من موسى عليه السلام أن يطعمهم البصل، والثوم، وغيرهما بدل المن والسلوى.
وفيهم الجبن والخوف، فلقد استضعفوا هارون حين غاب عنهم موسى عليه السلام فكفروا، وعبدوا العجل، فلما جاءهم موسى خافوا، ورجعوا إلى الدين مرة أخرى.
ولما أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوا بيت المقدس، رفضوا لأن فيها قوما جبارين.
ولما طلب منهم موسى عليه السلام أخذ الألواح بعزيمة وقوة، ترددوا، فلما هددهم بظلة الجبل، وخوفهم من سقوطها عليهم امتثلوا.
ومن طبعهم نقض العهد والميثاق، فلقد أخذ الله عليهم الميثاق فنقضوه، ولم يلتزموا.
ومن طباعهم أنهم أمام الضعفاء جبابرة، وأمام الأقوياء خاضعون، انظر إليهم كيف استهانوا بهارون عليه السلام لطيب خلقه، ولينه، وعفوه، وكادوا أن يقتلوه
…
فلما جاءهم موسى عليه السلام اعتذروا بأن تصرفهم كان خارج طاقتهم، وأنهم خدعوا.
تعامل موسى عليه السلام مع كل هذا، واستمر في الدعوة لدين الله تعالى بالحسنى، وبالخلق.
وقد حاول مع قومه أن يدخل بيت المقدس، لكنهم جبنوا، فقضى الله عليهم أن يتيهوا في سيناء أربعين عاما.
إنها لرحلة طويلة، وشاقة عاشها موسى عليه السلام في مصر، وعند شعيب، وفي سيناء، رحلة لا يتحملها إلا رسول ذو عزم وقوة، وقد أثنى الله تعالى على موسى عليه السلام في القرآن الكريم، ومن ثناء الله تعالى قوله سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} 1، وقوله تعالى:{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقوله تعالى:{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3، وقوله تعالى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 4.
1 سورة مريم الآيات: 51، 52.
2 سورة الأعراف آية: 144.
3 سورة طه آية: 39.
4 سورة طه آية: 41.
سابعا: وفاة موسى
يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أرسل الله ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه في وجهه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتَني إلى عبد لا يريد الموت، فقال له: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله أن يعطى بما غطى يده، بكل شعرة سنة، فأتاه، وأخبره فقال موسى: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال موسى: فالآن، قال: فسأل موسى الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر"1.
وحقق الله لموسى طلبه، وقربه من بيت المقدس التي سعى مع قومه لدخولها، ولكنهم جبنوا، وعاشوا في التيه.
ولما حانت المنية، وجاء الأجل، مر موسى بملأ من الملائكة يحفرون قبرا، فلم ير أحسن منه، ولا أنضر، ولا أبهج، فقال موسى: يا ملائكة الله، لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر، وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس، ففعل ذلك، فمات صلوات الله
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، باب وفاة موسى ج6 ص440.
عليه وسلامه، وصلت عليه الملائكة، ودفنته1.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر"2.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام وهو قائم، يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر" 3، رضي الله عنه وأرضاه، صلى الله عليه وسلم.
1 البداية والنهاية ج1 ص318، 319.
2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، باب وفاة موسى ج6 ص441.
3 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب الموضع الذي رأى فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام يصلي في قبره ج1 ص95.
النقطة الثالثة: حركة موسى عليه السلام بالدعوة
أولا: حركة موسى بالدعوة لفرعون
…
"النقطة الثالثة": حركة موسى عليه السلام بالدعوة
أخذ الوحي ينزل على موسى عليه السلام وهو في طريقه إلى مصر، وتأكد أنه رسول الله إلى الإسرائيليين، وإلى فرعون وملئه، فاطمأن لذلك، وبدأ في مسار جديد، يتحرك فيه بدعوة الله تعالى.
ويلاحظ أن دعوة موسى عليه السلام لفرعون وملئه تختلف في المنهج والوسيلة والأسلوب، عن دعوته للإسرائيليين؛ لاعتبارات كثيرة، أهمها: أن الإسرائيليين كانوا على ذكر بدين الله تعالى، حيث عاش بينهم إسحاق، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام بينما كان المصريون على كفر وضلال، ومن المعلوم أن أثر دعوة يوسف عليه السلام للمصريين لم تستمر طويلا؛ لأن الإسرائيليين تعاونوا مع الهكسوس الذين أسسوا دولة الرعاة في مصر، فلما تمكن المصريون من طرد الهكسوس عملوا على طرد الإسرائيليين، وانعكس ذلك على دين يوسف عليه السلام في مصر، وسوف نتحدث عن دعوة موسى عليه السلام للفريقين، ولقارون في مباحث منفصلة فيما يلي:
أولا: حركة موسى بالدعوة لفرعون
كلم الله موسى عليه السلام وأيده بالمعجزات الباهرة، وطمأنه على اختياره رسولا يدعو لدينه، وكلفه أن يبدأ بدعوة فرعون وملئه، وقد اشتملت حركة موسى بالدعوة لفرعون على عدد من المسائل:
المسألة الأولى: التعريف بفرعون
عرف الله موسى عليه السلام بطبيعة فرعون وملئه، فرغم أن موسى عليه السلام عاش في بيت فرعون، وتربى في قصره، وعاشره طويلا، وعرف كثيرا عنه، رغم ذلك نرى أن الله سبحانه وتعالى يفصل لموسى طباع فرعون وأتباعه؛ ليكون على بينة وافية بهم، وهو يدعوهم إلى الله تعالى.
لقد كان فرعون فاسدا في كل جوانب حياته، ادعى الألوهية، ونادى في الناس أنا ربكم الأعلى، وأنكر على أتباعه أن يتخذوا إلها سواه، وكان متكبرا في خلقه، مغرورا بالنعم التي يرفل فيها، فلقد تصور أن تملكه لأمر مصر، وسيطرته على أنهارها وزروعها، يجعله فوق البلاد والعباد.
واشتهر بالقسوة، والظلم في معاملة الرعية، وأسرف في الإفساد، وإلحاق الأذى بالناس، وتجبر، وطغى، وتمادى في غيه، ولم يسمع لناصح، ولم يلتفت إلى الحق أبدا. يصور الله تعالى حال فرعون وملئه، ويبين ضلالهم، وظلمهم، وفسادهم، فيقول تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1، وقال تعالى:{فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 2، وقال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 3، وقال تعالى:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} 4، وقال تعالى:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 5، وقال تعالى:{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} 6.
هذا هو فرعون على حقيقته، كما صورته آيات القرآن الكريم.
1 سورة القصص آية: 38.
2 سورة النازعات الآيات: 23، 24.
3 سورة القصص آية: 4.
4 سورة الدخان آية: 30.
5 سورة الزخرف آية: 51.
6 سورة الفجر الآيات: 10-12.
إنه شخص مغرور، اعتلى العرش، واستعبد الناس، وفرقهم شيعا، واستخدمهم لنفسه، ونشر الفساد فيهم.
ادعى الألوهية فصدقوه، وأطاعوا أمره، واتجهوا إليه عابدين، مستسلمين.
وقد وضع فرعون خطة خبيثة، تمكنه من استمرار التحكم، والاستعلاء، والطغيان، تقوم هذه الخطة على اتخاذ مجموعة من الأفراد متميزين بعلم ومعرفة، ونشرهم في الأقاليم المختلفة؛ ليكونوا دعاة له، مشرفين على استمرارية ملكه، وسلطانه، مبلِّغين ما يريد أن يوصله للناس، وقد أغدق على هذه المجموعة الأموال، والوظائف، وشيئا من سلطانه، ووجاهته.
فهم الملأ المنتشرون وسط الناس
…
وهم العلماء السحرة الذين يديرون شئون المدائن
…
وهم الوزراء المحيطون به
…
ولذلك كان يكتفي بتوجيه أوامره لهذه المجموعة؛ ليوصله هؤلاء بعد ذلك إلى سائر الناس، فهم له مطيعون، مؤيدون.
انظر إليه، وهو يؤكد ألوهيته الوحيدة، ينادي بذلك للملأ، ويجمعهم في مؤتمر حاشد ليقول لهم: أنا ربكم الأعلى، ومع اتخاذه لحاشيته تلك، اتخذ جنودا أشداء، كوّنوا قوة طاغية، كثيرة العدد والعدة، لتكون في مواجهة من يتصدى لألوهيته، وجبروته.... يقول العوفي في روايته عن ابن عباس:"أوتاد فرعون هم الجنود الأقوياء الذين يشدون له الأمر، ويعينونه على تحقيق ما يريد"، وكان لجنود فرعون قوة ظاهرة في عددهم، وعدتهم كما يفهم من الاستفهام الوارد في قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} 1؟ فقد سمى الله حديث فرعون حديث الجنود؛ لما تمتعوا به من قوة وبطش.
1 سورة البروج الآيات: 17، 18.
وقد تمكن فرعون بهذا التخطيط من الاستخفاف بعقول الناس، وعدم الاكتراث بهم، وذلك الحال واضح من التوجيه الذي وجَّهه لوزيره هامان في قوله الذي حكاه الله عنه في قوله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} 1، وفي قوله تعالى:{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2.
إنه في هاتين الآيتين يأمر "هامان" وزيره الأول أن يتخذ من الطين آجرا؛ لبناء برج عالٍ ليصعد عليه، ويُوهم الرعية أنه بحث عن إله موسى في الأماكن العالية فلم يجده؛ لأنه لا إله للناس إلا فرعون.
ويقوم هامان ببناء البرج مع تيقنه بعدم جدواه، ويطيعه الجنود، ويعيش فرعون وسط الملأ والجنود إلها معظما معبودا. يذكر بعض المفسرين أن هامان بنى الصرح من الطين، حتى بلغ نهاية ما قدر عليه من البناء، ثم صعد فرعون وإلى جانبه هامان، ثم صوب فرعون سهما إلى السماء، ورمى به، فعاد النصل مخضبا بالدم، فلما رأى فرعون النصل وعليه دم قال: يا هامان لقد قتلت إله موسى، فضحك هامان وقال: ومع هامان تقول ذلك يا فرعون3!!
وبدون الملأ والجنود لا يستطيع فرعون أن يظلم الناس، ولا أن ينشر الفساد بينهم؛ ولذلك يعاقب الله مع فرعون ملأه وجنوده، يقول الله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 4، ويقول سبحانه:
1 سورة غافر الآيات: 36، 37.
2 سورة القصص آية: 38.
3 تفسير الخازن ج5 ص174، ولعل الذي لطخ النصل بالدم طير كان في السماء، أو فتنة من الله لهم.
4 سورة القصص آية: 8.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} 1.
وهكذا.... أخذ الجنود والملأ نفس عقوبة فرعون؛ لأنهم أعوانه على الظلم، ولولاهم ما تمكن من ظلم أحد.... وأيضا فلقد أصبحوا ظَلَمَة مفسدين، على دين وأخلاق فرعون، يقول تعالى:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 2، ويقول تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} 3.
وأهلكهم الله سبحانه وتعالى كما أهلك فرعون؛ لأنهم صاروا مثله في الظلم، والإفساد والتعدي على حقوق الله، وحقوق الناس، يقول تعالى:{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 4.
المسألة الثانية: الاستعداد للبلاغ
استشعر موسى عليه السلام ثقل المهمة، وأدرك حاجته إلى عدة تعينه على المشاق التي ستقابله، ولذلك اتجه إلى الله تعالى مبينا له العذر، راجيا منه العطاء،
1 سورة القصص آية: 39.
2 سورة القصص آية: 32.
3 سورة الشعراء الآيات: 10، 11.
4 سورة القصص الآيات: 39-42.
وقد حكى الله ذلك بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} 1.
لقد طلب موسى عليه السلام من ربه سبحانه وتعالى أن يمده بعدد من الخصائص، شعر أنه في حاجة إليها، وهي:
- طلب موسى عليه السلام -أولا- أن يشرح الله صدره؛ ليذهب ما به من ضيق، وانفعال، وتسرع في الحكم، والتنفيذ كما فعل يوم أن استغاث به الرجل من شيعته، وحتى يتمكن بشرح صدره من تقبّل المعارضة، وحسن التعامل مع الأعداء برفق ولين. ومن المعروف أن انشراح الصدر يحول مشاق التكاليف إلى متعة، ويجعل مصاعب الطاعة لذة وحلاوة، كما يجعل السعي للغاية مليئا بالحيوية، والنشاط، والأمل
…
وهذا يفسر حالات السعادة والرضى، التى كان يلقاها الصحابة وهم يعبدون، وكذلك وهم يموتون في سبيل الله.
- وطلب موسى عليه السلام -ثانيا- أن ييسر الله أمره، ويوفقه لكل عمل يرضى عنه، ويبعده عن كل ما يضر، ويؤذي.... وهو مطلب يضمن له النجاح في الدعوة وفي غيرها؛ لأن الإنسان بدون تيسير الله عاجز، فهو محدود القوة، والتصور، والعلم
…
والطريق طويل، وشاق؛ لذلك كان التيسير الإلهي ضرورة للنجاح.
- وطلب موسى عليه السلام -ثالثا- من الله أن يحل عقدة من لسانه؛ ليفهموا قوله، وقد أتته هذه العقدة يوم أن ابتلع الجمرة من يد "آسية" وقد طلب موسى عليه السلام حل عقدة واحدة فقط، ولو سألها جميعا لكانت.
- وطلب موسى عليه السلام -رابعا- من الله تعالى أن يرسل معه أخاه هارون لما يتميز
1 سورة طه الآيات: 25-35.
به من الفصاحة، والهدوء، وعدم الغضب، وبهذا عد موسى عليه السلام أنفع أخ لأخيه في الدنيا، حين سأل الله له النبوة والرسالة، وقصد موسى عليه السلام من إرسال هارون معه أن يشد أزره، ويقوي جانبه، ويشاركه الرأي والنصيحة، وينيبه في بعض مهام البلاغ والدعوة.
والغاية العظمى التي قصدها موسى عليه السلام أن يتمكن من الاستمرار في الذكر، والتسبيح، والعبادة، مع الطاعة المطلقة لله، والقيام بمسئولية الدعوة إلى الله تعالى.
فاستجاب الله له على الفور، وأعطاه كل ما سأله دفعة واحدة، يقول سيد قطب:"هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة، {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} ، فيها إنجاز، لا تسويف ولا تأجيل، كل ما سألته أُعطيته فعلا.... ومع العطاء إيناس، وتكريم، وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد!! "1.
وبهذا زال خوف موسى عليه السلام وبدأ حركة الدعوة مع فرعون وملئه.
المسألة الثالثة: مواجهة فرعون
استجاب الله لموسى، وحقق له ما طلب، وأصبح هارون رسولا معه
…
وبدآ سويا في دعوة فرعون وملئه إلى الله تعالى، بعد أن تخلصا من الخوف من فرعون ورهبته، تحوطهما عناية الله، ورعايته.
وطلب موسى عليه السلام من فرعون أن يؤمن بالله إلها واحدا، وربا لا شريك له، ويخصه وحده سبحانه بالطاعة، والخضوع، والانقياد.
وطلب منه أيضا أن يترك بني إسرائيل لموسى عليه السلام ليعود بهم إلى عقيدة التوحيد الخالص، ويسكنهم الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوا فيها.
1 في ظلال القرآن ج5 ص471.
حدد الله رسالة موسى عليه السلام لفرعون بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 1، وبقوله تعالى:. {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2.
وهكذا انحصرت مهمة موسى عليه السلام مع فرعون في أمرين:
أولهما: دعوة فرعون إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى، والتوجه بالعبادة له وحده، والقيام بالدعوة لهذا الأمر جاء من قبل موسى وهارون اللذين أرسلهما الله رب العالمين؛ لتصحيح أخطاء الناس، حين يتخذون آلهة أخرى مع الله تعالى.
ومع الدعوة إلى التوحيد، نرى بالضرورة الدعوة إلى الإيمان بالرسالة، والوحي المنزل، وباليوم الآخر بما فيه من حساب وعذاب.
ثانيهما: إنقاذ الإسرائيليين، وفك أسرهم، وتركهم يعودون مع موسى عليه السلام إلى بيت المقدس للسكن فيه، وبعودتهم يرجعون إلى عقيدة التوحيد الخالص بعد التخلص من الملوثات المادية والحيوانية، التي شابت تدينهم.
وأخبر موسى وهارون عليهما السلام فرعون بأن معهما آيتين من معجزات الله؛ لإثبات صدقهما فيما دَعَوَا إليه.
1 سورة طه الآيات: 47، 48.
2 سورة الأعراف الآيات: 104-106.
وقد قام موسى وهارون بإيصال الدعوة لفرعون في لين، ورفق، وترغيب، واستمالة، فهما يدعوانه إلى الهدى، والأمن، والسلام، والنجاة في اتباع الهدى، وعرفاه بأن معهما آيتين من معجزات الله تشهدان بصدقهما.
رد فرعون عليهما، وطلب منهما أن يظهرا هاتين الآيتين اللتين تحدثا عنهما؛ ليرى مدى صدقهما.
فأظهر له موسى عليه السلام معجزة العصا، ومعجزة اليد، التي تدرب عليهما في طور سيناء يوم أن كلمه الله تعالى، فاتهمهما فرعون بالكذب، وبأن ما أظهراه هو السحر، وأخذ في مناقشة موسى، ومحاولة صرفه عن الدعوة، قال له: يا موسى، أنسيتَ فضلنا عليك؟ أنسيتَ أننا ربيناك في بيوتنا، وأنفقنا عليك في صغرك من أموالنا، ومتعناك بجاه الملك يوم أن انتسبت إلينا وليدا، واستمرت حياتك معنا مدة طويلة؟ وهل نسيت يا موسى يوم أن قتلت مصريا من قومنا وأنت من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي لك، وأنكرت ألوهيتي، ولم تؤمن بي كما آمن الآخرون، وأخيرا هربت من ديارنا؟ والآن تأتينا مرة أخرى بنفس جحودك وإنكارك.
وهذا الكلام من فرعون يدل على فهمه، ومعرفته، وبعده عن السفاهة، والسذاجة، غير أن إبليس أضله، وأبعده عن الحق والصواب.
رد عليه موسى، عليه السلام: لن أنكر نعمة أسديت إلي، وما كنت أقصد قتل الرجل، ولم أتصور أن إنسانا يموت من وكزة، وكان فراري خوفا من ظلمكم وجوركم؛ لأنكم لن تتصوروا خطئي، وستحكمون علي بتعمد القتل
…
وقد أكرمني الله تعالى بالنبوة، وأرسلني وأخي إليك، وإلى قومك لأدعوك بدعوة الله تعالى.
ولكن لِمَ لم تترك يا فرعون قضية استعبادك للإسرائيليين جميعا، وإلحاق الأذى بهم؟ ولِمَ لا تتهم نفسك بدل أن تمن علي بما أنعمت؟ وهل كنت أحتاج يا فرعون إلى ما أسديته إلي، لو سرت في الإسرائيليين بالعدل، والصواب؟!
وكأني بموسى عليه السلام يذكر لفرعون أن سوء سياسته هو سبب ما ذكر من أفعال، فبسبب الخوف منه كان إلقاء موسى وليدا في البحر، وكان فرار موسى من مصر، ومن المقرر أن إذلال أمة يعد إذلالا لكل فرد فيها.
يصور القرآن الكريم هذا الجزء من الحوار في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 1.
وبعد ذلك انتقل فرعون إلى سؤال موسى عن ربه، قال له:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ 2 إنه يسأل عن حقيقة الله؛ لأنه يتصوره محسوسا، مشخصا، على اعتبار أنه أحد الآلهة المنتشرة في عقائد الناس.
فيرد عليه موسى وهارون: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3، {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} 4.
1 سورة الشعراء الآيات: 16-22. يرى المفسرون أن المراد بالكفر في الآيات جحود النعمة أو إنكار ألوهية فرعون، والمراد بالضلال: الخطأ غير المقصود، أو عدم التوفيق للصواب.
2 سورة الشعراء آية: 23.
3 سورة طه آية: 50.
4 سورة الشعراء آية: 24.
عرف موسى فرعون بالله عن طريق إبراز أفعاله وصفاته، فهو الخالق لكل موجود، في السموات والأرض وما بينهما، والمخلوقات جميعها تدين له وتئول إليه.
وهو سبحانه الذي يمكن كل مخلوق من أداء وظيفته، ويهديه للقيام بها، وبذلك كانت الدقة، وكان الجمال، وكان التوازن بصورة دائمة لا تتخلف أبدا في سائر المخلوقات، وكلها تدل على قدرة الخالق، العظيم، الواحد، سبحانه وتعالى.
يحاول فرعون بذكائه، أن يحول النقاش بعيدا عن موضوع الألوهية، فيقول لموسى:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} 1.
والسؤال عن القرون الأولى غير محدد الموضوع، فهل هو عن عددهم؟ أو عن دينهم؟ أو عن حكم ضلالهم؟ أو عن مسئوليتهم في إبداع الضلال؟ أو عن عذاب الله لهم؟ أو عن سبب تركهم في الفساد؟ إنه غير محدد الموضوع؛ ولذلك يحتاج إلى أجوبة طويلة، متنوعة.
لكن موسى عليه السلام -بفطنة النبوة- يعيد فرعون إلى قضية الألوهية، مع الإجابة عن سؤاله عن القرون الأولى:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2، وفي رد موسى نراه يجيب فرعون، ويأخذه إلى تعريفه بالله تعالى، فيذكر له أن علم القرون الأولى، من كافة نواحيها، عند ربي الذي أدعوك إلى الإيمان به، وهو سبحانه المتصرف فيهم، ولا حاجة لنا إلى التفاصيل، ويكفينا أن نعرف أنها عند ربي، فهو سبحانه متصف بالحق المطلق الذي لا ينسى ولا يخطئ، ويكفينا ثقة في علم الله تعالى، ما خلق من نعم، فقد جعل الأرض مهدا، وذللها
1 سورة طه آية: 50.
2 سورة الشعراء آية: 24.
للعمل، وللزراعة، وسلك فيها طرقا للحركة والتنقل، وأنزل من السماء مطرا للسقي والزرع، وأخرج من الأرض نباتات متنوعة للحب، والفاكهة، والزينة، والرعي؛ ليتمتع الإنسان، والطير، والحيوان، وكل دواب الأرض بها، وجعل سبحانه من ذلك آيات، وبراهين تدل عليه، وهي أدلة يدركها صاحب العقل السليم.
وهذه الأرض التي أكرمنا الله بها، وأفاض علينا بنعمه من خلالها، هي المادة التي خرج منها الإنسان، وإليها يعود حين الموت، ومنها يخرج يوم البعث.
إن هذه الآيات تدور حول الإنسان في وجوده وعدمه، وحول الكون القريب من الإنسان، من زرع، وماء، وأرض، وحياة، كما أنها تذكر الإنسان بحركته في هذا الكون، فقد خلقه الله لتعميره، وسوف يسأله عن مسئوليته يوم يبعثه، ويخرجه من الطين مرة أخرى.
ومن فطنة موسى عليه السلام أنه أتى بالآيات والبراهين، التي يعتز بها فرعون، فهو فخور بملكية أرض مصر بأنهارها، وزرعها، وثمرها، ويجعل ذلك سبيله لادعاء الألوهية.... يأتي موسى عليه السلام إلى هذه الآيات، ويوضح الخالق الحقيقي لها، ويبين أنه الله رب العالمين، وليس لفرعون منها إلا الملكية الصورية، والتحكم الظالم، أما المُوجِد لها فهو الله تعالى، فهو الذي خلق وأوجد، وحقه أن يعبد وحده، وهو الله الواحد لا شريك له أبدا.
لم يتمكن فرعون من مواجهة حجج موسى عليه السلام بالحوار والمناقشة، وإنما اتجه إلى إثارة الناس ضد موسى، قال لهم:{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} 1، {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}
1 سورة الشعراء آية: 25.
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 1.
وفي حديث فرعون نرى لجوءه إلى الإثارة، والتحريض، وتوجيه الرأي العام ضد دعوة موسى، وأخذ يبثّ في الناس ضلاله وأكاذيبه، بصورة مثيرة، على شكل أسئلة تحريضية ضد موسى ودعوته، ومن أسئلته:
ألا تستمعون لأكاذيب موسى وهو ينكر ألوهيتي، ويثبتها لربه؟!
وأليس لي ملك مصر أتحكم في أرضها، ومائها، وسكانها؟!
وأينا أفضل: أنا بما أملك، أم موسى الفقير الذي لا يملك شيئا؟!
وهل صورة موسى تصلح للرسالة، وفي لسانه حبسة؟
وهل يتصور أن إله موسى يملك كل شيء، ويتركه فقيرا؟! لِمَ لم يمده بالذهب، أو يرسل معه الملائكة تساعده؟!
إن هذه الأسئلة مفهومة من الآيات، قصد فرعون بها صرف الناس عن سماع دعوة موسى وهارون عليهما السلام.
ويلاحظ أن فرعون ألقى أسئلته في جمع من قومه إثارة لهم؛ لأن العقل الجمعي سريع الانفعال، يستجيب بطريقة تلقائية وسريعة للمثيرات العاطفية
…
ولذلك تعد مخاطبة الجماهير لأول مرة بصورة جماعية، في القضايا الكبرى، لونا من ألوان العبث والاستخفاف بالعقول، ولذلك قال الله عن فرعون في القرآن الكريم:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
وسار الجمهور خلف فرعون بعدما استثارهم، وأخذ في الاستماع إلى حديثه وكلامه عن موسى
عليه السلام
1 سورة الزخرف الآيات: 51-54.
قال تعالى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} 1، وقال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 2.
ونجح فرعون في استثارة الرأي العام ضد دعوة موسى، وأخذ في تهديد موسى عليه السلام فأعاده موسى عليه السلام إلى الحوار مرة أخرى، وفكر فرعون في الاستعانة بأتباعه من السحرة والعلماء.
المسألة الرابعة: التحدي الكبير، وإيمان السَّحَرَة
أقام موسى وهارون على فرعون الحجة، وتبين أتباع فرعون قوة موسى بحجته وضعف فرعون بألوهيته، حينئذ لجأ فرعون إلى التهديد، قال تعالى على لسان فرعون:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 3، فأعاده موسى إلى الحوار:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} 4، إن موسى عليه السلام لم يواجه التهديد بالغضب، وإنما واجهه بهدوء وروية، ومع الهدوء عرض مثير لبيان الحقيقة، والناس يسمعونه متسائلا: أتسجنني وإن أتيتك ببرهان بيّن لا يشك فيه عقل؟! ولم يحدده له، ولم يشر إليه؛ ليتشوق فرعون ومن معه لمعرفته، وقد كان، فعاد فرعون إلى الحوار، قال تعالى:{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 5، فقدم موسى عليه السلام برهاني العصا واليد، شاهدة على صدقه. فلما رأى فرعون ذلك، قال لأتباعه:{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 6.
1 سورة الشعراء آية: 27.
2 سورة غافر آية: 26.
3 سورة الشعراء آية: 29.
4 سورة الشعراء آية: 30.
5 سورة الشعراء آية: 31.
6 سورة الشعراء الآيات: 34، 35.
ولنتأمل في منطق سياسة فرعون، وطريقته في مخاطبة الناس، يعلن أن موسى ساحر ومجادل، وأنه يعمل على طرد المصريين من بلدهم، وبعد ذلك يطلب رأيهم، ويعتبره أمرا منهم يقوم بتنفيذه، ويخطب فيهم
…
فماذا تأمرون؟!!
ويتصور الناس أن موسى ساحر حقا؛ ولذلك اقترحوا مقاومته بنفس السلاح الذي يستعمله، واقترحوا لفرعون أن يجمع من مختلف المدن المصرية أئمة السحر، وأساتذة العلماء، على أن يعد للقاء عدته؛ لينهزم موسى على رءوس الناس.
واستحسن فرعون الفكرة، وقال لموسى:{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} 1.
حدد فرعون وموسى موعد اللقاء، في يوم عيد للمصريين، هو يوم الزينة، وجعلوه ضحى ذلك اليوم، حيث يتجمع الناس، ويرون في وضوح الشمس ما يقع، بلا خداع، أو دعاية، أو تدليس، وسُر موسى بذلك، فهو واثق من نصر الله، واللقاء فرصة لعرض دعوته، وإظهار صدقها على الجمع الغفير دفعة واحدة، وأرسل فرعون إلى مختلف المدن لإحضار كبار العلماء، وقادة السحر، وعرفهم بما جرى له مع موسى وهارون- عليهما السلام فطمأنوا فرعون وأقسموا بعزته أنهم سيغلبون موسى، واستفسروا عن المكافأة التي سيأخذونها، فعرفهم أنه سيكافئهم ماديا، ويقربهم إليه سياسيا، واجتماعيا.
وجاء يوم الزينة، والتقى العلماء والسحرة بموسى وهارون، والجمع حاشد، والكل ينتظر هزيمة كبيرة بموسى، يقول ابن كثير:"وحضر فرعون، وأمراؤه، وأهل دولته، وأهل بلده عن بكرة أبيهم، آملين أن يغلب السحرة، وتثبت ألوهية فرعون"2.
1 سورة طه الآيات: 57، 58.
2 البداية والنهاية ج1 ص254.
تقدم موسى إلى السحرة، وبيَّن لهم قضيته، ونهاهم عن تعاطي السحر الباطل، وخوفهم من عذاب الله إن لم يلتزموا بالحق والصواب، وقد أدى نصح موسى لهم إلى تغيير نظر بعضهم إليه، بعدما علم أن هذا الكلام لا يصدر إلا من نبي؛ ولذلك اختلفوا فيما بينهم، يقول الله تعالى:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} 1، قيل: إنهم تنازعوا حول رسالة موسى وصدقه، وقيل: في كون فرعون إلها، وقيل: في صلة سحرهم بالحق، والله أعلم في تنازعهم، لكنهم اتفقوا على بقاء موضوع تنازعهم سرا، وترك الفصل للوقائع والأحداث التي جاءوا لها، على أن يبذلوا أقصى طاقاتهم، ويتحدوا في عمل واحد ليغلبوا، فإذا ما غلب موسى لا لوم عليهم لأنهم لم يقصروا، يصور الله الحالة النفسية للسحرة قبل مباشرة التحدى، فيقول سبحانه:{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} 2.
اصطفّ السحرة، ووقف موسى وهارون أمامهم، وقال كبيرهم لموسى: إما أن تلقي، وإما أن نبدأ نحن بالإلقاء؟ وهو سؤال ينبئ عن رغبتهم في البدء؛ لعلمهم أن رهبة الاستهلال تبقى في النفس لا تزول إلا بإضعاف قوتها التأثيرية
…
قال لهم: ابدءوا أنتم، فعمدوا إلى حبال وعصي أعدوها لذلك، قيل: إنها كانت عصيا مجوفة قد مُلئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت مصنوعة من جلد مجوف محشو بالزئبق، وقد حفروا قبل ذلك في الأرض حفرا، ووضعوا فيها المواسير المملوءة بوقود النار، فلما طرحت
1 سورة طه الآيات: 61، 62.
2 سورة طه الآيات: 62-64.
العصي والحبال، تحركت بفعل سخونة الزئبق، وقيل: إن من حيلهم إطلاق أبخرة كثيفة تؤثر في العين، أو أنها كانت تتحرك بمحركات خفية كالمغناطيس وغيرها1.
وقد جعلهم موسى عليه السلام يبدءون؛ لأنه يثق في ربه ودعوته، وحتى يتمكن من إبطال سحرهم أمام الناس، متأكدا أن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين
…
نعم
…
ألقوا حبالهم وعصيهم، فتحركت في كل اتجاه، وعظم سحرهم في أعين المشاهدين، فخاف موسى عليه السلام من فتنة الناس بالسحر، فطمأن الله موسى عليه السلام وأمره بأن يلقي عصاه، فألقاها فإذا هي حية عظيمة، ذات قوائم وعنق وبطن وشكل هائل مزعج، جعلت الناس يفرون بعيدا خوفا منها، وأقبلت هذه الحية فابتلعت ما ألقوه من عصي وحبال، بسرعة مذهلة على كثرتها وتنوعها، ونظر السحرة إلى الحية فوجدوا حجمها ثابتا لا يتغير، فهالهم ذلك، وتحيروا
…
وأخيرا وجدوا أنفسهم ساجدين، معلنين إيمانهم برب هارون وموسى.
يقول سعيد بن جبير، وعكرمة، والقاسم، والأوزاعي، وغيرهم من علماء التفسير: إنما سجد السحرة بعدما رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة، وقد تهيأت لهم، وازيّنت لقدومهم؛ ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده لما هاله الأمر، وعميت بصيرته وبصره، وأخذ يتحدث بكلام كاذب لا يصدقه فيه أحد.
1 دعوة الرسل ص184، 185.
2 سورة طه الآيات: 65-70.
- قال فرعون للسحرة: آمنتم له، مع أنهم حددوا إيمانهم، وجعلوه لله، إذ قالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} فما موسى وهارون إلا مبلِّغا الدعوة، وعاملان على الإيمان بالله رب العالمين.
وقال لهم: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ؛ لأنه بطغيانه وجبروته، يتصور نفسه سيدا على الأبدان وعلى العقول، وما درى هذا الضال أن القلوب تميل للحق، وتقتنع بالصواب، وأنها لو تيقنت أسلمت ولو صدقت أطاعت، لا سلطان عليها إلا لله تعالى؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الله.
لقد كان فرعون ينتظر من السحرة أن يستأذنوه في أعمال القلوب، مع أن السحرة لما شاهدوا الحق، وانزاحت عنهم غشاوة الضلال، انبهروا بالقدرة الإلهية، فخروا ساجدين، وبعدها أعلنوا إيمانهم.
وقال لهم: إن موسى لكبيركم، ومن أين لفرعون هذه المقارنة؟ وهل هو يسلم لموسى بأي منزلة، حتى يجعله كبير علمائه وسحرته، أم إن الفاجعة جعلت فرعون يهرف بما لا يعرف؟
- وقال لهم: علمكم السحر، ولم يسأل نفسه: متى التقى بهم موسى؟ وأين علمهم؟ وإن كانوا تلامذته فلم أقدموا على التحدي مع أستاذهم؟
- وأخذ فرعون في تهديدهم بالعذاب الشديد، الذي به يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم في جذوع النخل العالية، ويتركهم للطير، والسباع تأكل أجسادهم وأبدانهم، وبعدها سوف يعلمون، من الأشد عذابا، ومن الباقي.
وخاب فرعون في مقالته وتهديده؛ لأنه يجهل حقيقة الإيمان، ولا يدري أن الإيمان يشمل التصديق بالآخرة، وما فيها من نعيم وثواب، ويعلم عن يقين أنها خير من الدنيا؛ ولذلك رد السحرة على فرعون قائلين له: افعل ما شئت، فكل ما
يمكنك فعله هو جزء من الحياة الدنيا، والإيمان بالله يهون علينا المصائب، ويجعلنا نتحمل الظلم والطغيان صابرين محتسبين. إن الله في الحقيقة هو الخير المطلق، وهو الأبقى، ليس كمثله شيء.
ويبدو -والله أعلم- أن فرعون -لعنه الله- عذبهم، وصلبهم رضي الله عنهم ونفذ وعيده فيهم، فما ضعفوا وما انتكسوا، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه:"كانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة"1، وكان آخر دعائهم:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} .
لقد ماتوا حين جاء أجلهم، ولقوا ربهم مؤمنين صالحين، ولو اتبعوا فرعون لماتوا لأجلهم أيضا، ولكانوا لجهنم حطبا، لكنهم رضي الله عنهم آثروا الآخرة على الأولى، وسلموا أمرهم لله تعالى، فصاروا في الدنيا مثلا عاليا للمؤمنين، وفي الآخرة لهم الدرجات العلا؛ لأنهم أتوا ربهم مؤمنين صالحين.
المسألة الخامسة: أنوار وسط الظلمات
في وسط الظلمات يبزغ الفجر، ومن وسط الآلام يتولد الأمل، وما العمل الصالح إلا تكليف بالمشاق تصحبه راحة، ورضى
…
وها هو موسى عليه السلام يلقى العنت، والمشاق في دعوة فرعون وملئه، إلا أن الله خفف عنه ما لاقاه ببعض المؤمنين الذين آمنوا بدعوته، وسط الركام الهائل من الكفر والضلال، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمثلون نقطة ضوء وسط ظلام البغي والفساد، في مصر القديمة زمن موسى وهارن عليهما السلام.
وسأورد شيئا من قصص إيمانهم؛ لأهمية التعريف بهم، فقد تحملوا بلاء قاسيا، وصبروا على الأذى الذي نزل بهم، رغم شدته وجبروته، ولأنهم من أقباط مصر، ومن المقربين لفرعون، ومن الذين عاشوا في قمة سلطان فرعون ليكونوا مثلا، وقدوة
1 البداية والنهاية ج1 ص258.
وسأذكر منهم ما يلي:
1-
سَحَرَة فرعون:
رأينا أن فرعون جمع خِيرَة علمائه وسحرته، من المدن والقرى، وحَشَرَهم في يوم الزينة، على أمل أن يُغلَب موسى وهارون عليهما السلام.
واجتمع السحرة، وأقسموا بعزة فرعون، ربهم وإلههم على النصر، والغلب، ظانين أن موسى وهارون بعض السحرة الكاذبين.
ولما ألقى موسى عصاه رأوها غريبة، عجيبة، في صورة حية حقيقية لها أقدام، ورأس، وبطن، وشاهدوها تبتلع عصيهم وحبالهم التي أعدوها، ودعموها بمختلف حيلهم، وطرقهم
…
لما رأوا ذلك علموا صدق موسى في رسالته، فسجدوا لله، واتبعوا موسى مؤمنين بربه، ولما يتأثروا بتهديد فرعون، قال تعالى:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1، وصلبهم فرعون، وقطع أطرافهم، وانتقلوا من دار الفناء إلى دار الخلد والبقاء، في الفردوس الأعلى عند مليك مقتدر.
وقد اختلف المؤرخون في عددهم، يذكر المكثرون أنهم كانوا أكثر من عشرة آلاف وأوصلوهم إلى ثمانين آلفا، والمقلون يذكرون أنهم كانوا أربعين رجلا2.
والعقل يميل إلى القلة العددية؛ لأنهم لو كانوا ثمانين ألفا لكونوا جيشا وقوة تقاوم عدوان فرعون، ولفتكوا به، ولو تمكن منهم فرعون لاستغرق في تعذيبهم وقتا طويلا، مع أن المؤرخين والمفسرين يذكرون أن فرعون قتلهم وصلبهم في يوم واحد.
وعلى ذلك فعدهم بالعشرات أو بالمئات، أولى من القول بكثرتهم.
1 سورة طه آية: 72.
2 البداية والنهاية ج1 ص245.
يقول ابن كثير: "إن هؤلاء المؤمنين لما أخذهم فرعون لقتلهم، قالوا له يعظونه، ويخوفونه بأس رب العالمين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} 1، ويقولون له: إياك أن تكون منهم، فكان منهم، {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 2، فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع، وحكم العلي العظيم بعذابه العذاب الأليم"3.
2-
مؤمن آل فرعون:
آمن السحرة برب موسى وهارون عليهما السلام واضطرب معسكر فرعون، وظهرت صيحة التخلص من موسى بقتله لخطورته على المجتمع والدين، يقول الله تعالى:{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 4، و {الْمَلَأُ} هم سادة القوم وكبراؤهم، يطلبون من فرعون عدم ترك موسى ومن معه أحرارا؛ لأنهم يفسدون الناس، ويدعون إلى ترك عبادة فرعون ونبذ عبادة سائر الآلهة، فيجيبهم فرعون بخطة وضعها إزاء هذه القضية، وهي تقتيل ما يولد للإسرائيليين، من ذكور، وترك البنات، حتى ينقطع نسلهم، ثم يطمئن الملأ على قوته، وعلوه، وسلطانه، كما هو شأنه دائما.
1 سورة طه آية: 74.
2 سورة طه الآيات: 75، 76.
3 البداية والنهاية ج1 ص258.
4 سورة الأعراف آية: 127.
إنه لم يتحدث معهم في قتل موسى كما طلبوا؛ لأنه في قرارة نفسه -والله أعلم- كان متيقنا من صدق موسى، وأنه كان يخاف إن أصابه بسوء بعدما رأى من آياته ومعجزاته، يدل على ذلك قوله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 1.
فقوله: {ذَرُونِي} من باب التمويه، والإبهام بأنهم هم الذين يمنعونه من قتله
…
لأن من يقصد القتل لا يعلن عزمه، وإنما يلجأ للتنفيذ مباشرة
…
ويتم فرعون مقالته لهم بالخوف على الناس من موسى؛ لأن موسى عليه السلام إما أن يبدل دينهم، أو أن يظهر في الأرض الفساد، وعليهم أن يحذروه، ولا يسمعوا قوله.
علم موسى بما يدور في معسكر فرعون بشأنه، فلجأ إلى الله:{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} 2، اعتصم بالله، وتوكل عليه لينقذه من طغيان فرعون ومن كل طاغية يتكبر في الأرض، ولا يؤمن بالله، ولا بيوم الحساب، فليس هنالك إذًا ما يمنعه من الظلم، والفساد، والقتل، والتدمير.
ولما قويت مؤامرات فرعون، وتعاون الملأ على موسى، غضب رجل من آل فرعون قيل: هو ابن عم فرعون، وليس إسرائيليا، لقوله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ، وفهم الآية على السياق الوارد أولى من القول بالتقديم والتأخير؛ ليصير المعنى: رجل يكتم إيمانه عن آل فرعون، كما قال البعض، على اعتبار أن الرجل كان إسرائيليا. ومما يرجح أن الرجل كان قبطيا من آل فرعون، أن فرعون سمح له بهذا الحديث الطويل، وانفعل بكلامه، واستمع له، ولو كان إسرائيليا لعاجله بالعقوبة3، والأخذ بالظاهر هنا أولى.
1 سورة غافر آية: 26.
2 سورة غافر آية: 27.
3 تفسير الزمخشري ج4 ص161، وابن كثير ج4 ص77، والقرطبي ج15 ص306.
آمن الرجل بموسى سرا، ولم يجد بدا من إظهار إيمانه، وإعلان غضبه على فرعون وملئه لظلمهم، وعدوانهم، وتفكيرهم في قتل موسى، وأخذ في مناقشتهم بعقل، وحكمة.
لقد نصح المؤمن قومه بحق، وسلك في نصحه لهم منهجا رشيدا وخطة حسنة، فهو واحد منهم، يهمه شأنهم، ويعرف طبائعهم واتجاهاتهم؛ ولذلك تعامل معهم بما يليق بهم، وكان دائما يخاطبهم بقوله:{يَا قَوْمِ} .
ومن منهجه في مخاطبة فرعون وقومه، تقدير فكرهم، ومحاولة إيقاظ عقولهم بالاستفهام المتكرر، المتصل بواقع الحياة التي يعيشونها، وكان ينتقل معهم من مسألة إلى مسألة، ترفقا بهم، وكان يبين لهم في كل مرحلة حرصه عليهم، وتمنيات النجاة لهم، وأمل استمرار الملك فيهم:
أ- قال الرجل لقومه ما حكاه الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 1، وهو بذلك يعرض عليهم الموضوع، ويناقش عقولهم، بعيدا عن العصبية والانفعال ورد الفعل، وبلا تحيز ظاهر لموسى أو لدعوته، ويبين لهم أن موسى إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، وخير لهم أن يتجنبوا إيذاءه في الحالتين؛ لأنه إن كان كاذبا فسيتحمل عقوبة كذبه بعيدا عنكم، وإن كان صادقا، فستحل بكم عقوبة الكفر به، فلا تضيفوا إليها جريمة قتله، فيتضاعف عذابكم2؛ لأن احتمال صدقه أقوى، فقد جاءكم بالبينات المؤيدة له،
1 سورة غافر آية: 28.
2 يقول المفسرون: ومن معانيها "كل الذي يعدكم"، فبعض بمعنى كل، وذهب آخرون إلى أن المراد أن البعض مهلك، فما بالكم بالكل.
واعلموا أن الكذاب، المكثر في الإفك، لن يوفقه الله للخير أبدا، مهما كان
…
ب- ثم انتقل إلى مسألة ثانية، وهي قضية الملك، قال تعالى:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} 1.
وفي هذه المسألة يوضح لهم أن الملك بيدهم الآن، وهم به ظاهرون في الأرض وعلى الناس، وهذا أمر يجب أن يحافظوا عليه، وعليهم أن يفكروا في بأس الله الذي خوفهم منه، من ناحية كيفية مواجهته، والانتصار عليه، في حال صدق موسى، ولن يقدر عليه أحد لأنه من الله تعالى
…
في هذه المسألة يضع نفسه معهم، في حال مجيء بأس الله، وهو إظهار لحرصه عليهم، وعلى الملك الذي جعله لهم خاصة من دونه. إنه يُوقِظ عقولهم أمام حقائق الحياة، حتى لا يستمروا في أمانيهم وأحلامهم، التي لا تتصل بحقيقة الوجود، وحركة الحياة.
وقد رأى فرعون خطورة حديث الرجل؛ لأنه يلامس العقل المجرد، ويعرض المسألة كما هي واضحة أمام الناس، فأراد أن يصرف الناس عنه، فقال لهم ما تشير إليه الآية في أن الرأي الصائب هو رأيه، وأنه يعمل لمصلحتهم، ورشدهم، وسعادتهم، وعليهم أن يطمئنوا لذلك.
جـ- وبعدها انتقل الرجل إلى مسألة أخرى، وهي خوفه على الناس من عذاب الله أن يحل بهم في الدنيا، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} 2، إنه يذكرهم بأحداث الأمم التي سبقتهم، فقد
1 سورة غافر آية: 29.
2 سورة غافر الآيات: 30، 31.
كذبوا رسلهم، ولم يؤمنوا بدعوتهم، فأهلكهم الله تعالى، جزاء كفرهم وضلالهم، وأعلن الرجل لهم أنه يخاف عليهم من نزول الهلاك بهم؛ لأن الله بعدله يمهل ولا يهمل.
د- ثم يبين لهم أنه يخاف عليهم من عذاب الآخرة، يقول تعالى:{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1
…
ومع هذه المسألة يوضح الرجل لقومه، أنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة، حيث لا قوة إلا لله، وحيث لا يرى الظالمون نصيرا أو معينا، ينادي بعضهم بعضا ولا مجيب، ويفرون من العذاب، لكن إلى عذاب آخر أشد وأنكى؛ لأن يوم الآخرة يوم شديد، لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
هـ- وينتقل الرجل إلى إظهار أخطاء القوم في تقدير رسالة موسى وهارون، اعتمادا على تجربة لهم سابقة، يقول تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 2، وهذه التجربة دليل واضح على سوء التقدير لديهم، فلقد جاءهم يوسف عليه السلام من قبل بدين الله تعالى، ودعاهم إلى التوحيد، وأظهر المعجزات الدالة على صدقه، وهو نفس ما فعله موسى عليه السلام.
1 سورة غافر الآيات: 32، 33.
3 سورة غافر الآيات: 34، 35.
لكنهم كفروا برسالة يوسف عليه السلام ولم يؤمنوا به، وقالوا بعد موته:{لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} ، وظهر كذبهم بمجيء موسى وهارون عليهما السلام رسولين إليهم، وهذا ضلال في التفكير، والتقدير، سببه التمادي في الشك، والبعد عن الله تعالى.
إن موقفهم أساسه الكبر، والطغيان، والجدل في الحق بلا دليل من العقل أو الشرع، وبذلك حلت عليهم لعنة الله، ونزل بهم غضبه؛ لأن الله يطبع على قلب كل متكبر جبار، ومن تعود المعصية استمرأها، ومن استمرأها صارت له مذهبا، وطريقا.
و ثم أخذ يبين لهم قيمة الحياة الدنيا، وزخارفها بالنسبة للآخرة، فمتاع الدنيا قليل وزائل، أما متاع الآخرة فمستقر ودائم وكثير، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1.
وقد تفضل الله على الناس فجعل جزاء السيئة بمثلها، وأما من عمل صالحا فجزاؤه غير محدد، ويكفي أنه يدخل الجنة يتمتع فيها بغير حساب.
ز- وينهي الرجل المؤمن حديثه مع الناس، ويوضح لهم أنه يدعوهم إلى النجاة والخير، وهم يدعونه إلى النار والإثم، وأنه سيدعهم ويترك الأمر لله العليم بكل شيء، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ
1 سورة غافر الآيات: 38-40.
الْغَفَّارِ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 1.
وقد سكت فرعون عن الرجل أولا لقرابته، فلما تبين خطورته حاول قتله، إلا أن الله نجاه منه، قال تعالى:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} 2.
3-
آسية زوجة فرعون:
هي آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون، جعلها الله سببا في نجاة موسى من الذبح؛ لأنها لما رأته في التابوت سُرت به، وقالت لزوجها:{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 3 فوافقها، ولما همّ فرعون بقتله يوم أن نتف شعر لحيته اعتذرت له لصغره، فعفا عنه.
ولما بعث موسى عليه السلام آمنت به، وأسلمت لله رب العالمين، ورفضت أن تعود الكفر، رغم إلحاح فرعون عليها.
ويقال: إن سبب إيمان آسية، أنها سمعت كلام أرواح أبناء ماشطة فرعون وهم يبشرونها بالثواب الجزيل، والعطاء الوافر، ثم أطلعها الله تعالى على مقام الماشطة بعد وفاتها؛ فازدادت إيمانا، ورسوخا.
وقد عذبها فرعون بربط يديها ورجليها في أوتاد، ووضعها في حر الشمس وقال لجنوده: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على إيمانها بموسى
1 سورة غافر الآيات: 41-44.
2 سورة غافر آية: 45.
3 سورة القصص آية: 9.
فألقوها عليها، وإن كفرت فهي امرأتي، فلما أتوها وسألوها رفعت رأسها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وتمسكت بإيمانها، فنزع الله روحها، فلما ألقيت الصخرة، ألقيت على جسد بلا روح.
عن سلمان: كانت الملائكة تظللها من الشمس بأجنحتها....
وعن أبي العالية: إن فرعون جاء لمشاهدتها وهي تعذب، فأراها الله بيتها في الجنة فضحكت، فقال فرعون: أتعجبون لهذه المجنونة، نحن نعذبها، وهي تضحك؟!!
وعن امرأة فرعون يقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، وجعل الله إيمان آسية مثلا يضربه للمؤمنين الذين تنكشف أمام بصائرهم الحقائق، فيتمسكون بها، ولا تغرنهم الدنيا، ولا يلعب بعقولهم إبليس وجنوده.
إن امرأة فرعون ضربها الله مثلا عاليا من عدة وجوه:
أ- اختارت أن تكون عند الله، وتحيا في جنته، بعيدا عن ملك فرعون، وقصوره، وخدمه، وحشمه، لأن دنيا هؤلاء الناس.... على نقيض حكم الله، ليس لها قيمة وإن تزخرفت، وتزينت.
ب- طلبت أن يكون لها بيت واحد في الجنة عند الله، وبذلك اختارت الجار قبل الدار، ولبيت كريم بصحبة كرام خير من ألف بيت يسكنه لئام، ظالمون.
ج- تبرأت من ظلم فرعون، وعمله، برغم أنها تعيش معه، لكنها لم تتأثر بضلاله، فجعلها الله مثلا للمؤمنين؛ ليعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه، وأنه لا يضر المؤمن أن يعاشر الكافرين والظلمة، إذا كان محتاجا إليهم، ما دام
1 سورة التحريم آية: 11.
لا يشاركهم الظلم، ولا يعينهم عليه، فوالله ما ضر كفر فرعون آسية في شيء أبدا.
د- يلجأ المؤمن إلى الله في وقت اضطراره وشدته، وليس عليه إن حدد سبب الطلب، والغاية التي يتمناها، فهو سبحانه يجيب المضطر إذا دعاه.
جاء في الظلال: "وموقف امرأة فرعون مثل في الاستعلاء على عرض الحياة الدنيا، في أزهى صوره، فقد كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ، تسكن في قصر فرعون، أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي
…
لكنها استعلت على هذا بالإيمان ولم تعرض عنه فحسب، بل اعتبرته شرا، ودنسا، وبلاء، تستعيذ بالله منه.
وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة، قوية، تقف وحدها وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية
…
في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء، ونادت الله.
إنها نموذج عالٍ في التجرد لله
…
ومن ثم استحقت الذكر في كتاب الله الخالد، الذي تتردد كلماته في جنبات الكون، وهي تتنزل من الملأ الأعلى إلى العالم كله
…
وفي الزمن كله"1.
4-
ماشطة بنت فرعون 2:
آمنت برسالة موسى عليه السلام وكانت تمشط لبنت فرعون شعرها، وذات يوم جلست تمشطها، فسقط المشط من يدها، فقالت: باسم الله، تعس من كفر بالله، فقالت لها ابنة فرعون: ألك رب غير أبي؟
قالت: ربي، ورب أبيك، ورب كل شيء هو الله.
فلطمتها بنت فرعون، وأخبرت أباها، فأخذ يعذبها، ويقيدها بالأوتاد، ويسلط عليها الحيات، ويسألها: ما أنت منتهية؟
1 في ظلال القرآن ج28 ص174، دار العربية للطباعة والنشر.
2 انظر قصتها في تفسير ابن كثير ج4 ص394.
فتقول له: ربي وربك ورب العالمين هو الله، فأخذ يذبح أولادها أمامها، واحدا واحدا، ولكنها تزداد إيمانا؛ لأن أرواح أبنائها كانت تأتيها، وتبشرها بالثواب وتدعوها إلى الصبر، وكشف الله لها الغطاء، فرأت منزلتها في الجنة، وتحملت ما نزل بها حتى لقيت ربها، رضي الله عنها.
وهكذا كانت النجوم تبعث الضوء والأمل، في ظلمات الليل البهيم ليبقى الأمل، ويستمر الخير بين الناس، وإن كان قليلا.
المسألة السادسة: استمرار فرعون في ضلاله
استمر موسى عليه السلام في دعوة فرعون، وأمده الله تعالى بالآيات البيِّنات تشهد بصدقه، وتؤيده في دعوته، وأهم هذه الآيات هي:
1-
العصا، قال تعالى:{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} 1.
2-
اليد، قال تعالى:{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} 2.
3-
الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} 3.
ومع ذلك استمر فرعون في كفره، واستخفافه بالناس، حيث كان لا يرى لهم إلا رأيه، ولا يقر لغيره -إن خالفه- برأي أو سداد.
ومن أقوال الناس: قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَه
1 سورة الشعراء آية: 32.
2 سورة الشعراء آية: 33.
3 سورة الأعراف آية: 133.
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} 1، وقال تعالى:{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} 2، وقال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3.
وهكذا استخف فرعون بعقول أهل مصر، واستعبدهم، ودعاهم إلى عبادته فاتخذوه إلها، رغم وضوح الطريق، وظهور الحجة
…
لكنه الضلال والظلم يعادي الحق، ولا يرضى له بالوجود.
المسألة السابعة: نهاية فرعون
أصر فرعون وقومه على الكفر، ولم يأبهوا بالآيات بعدما عاينوها ولمسوها في حياتهم، وكانوا كلما أحاطتهم الضفادع، والقمل، والجراد، والطوفان، والدم، استغاثوا بموسى، فإذا رُفعت عنهم عادوا لكفرهم، يقول الله تعالى:{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} 4.
واتهم فرعون موسى بالسحر وبالجنون، واشتد في إيذائه للإسرائيليين، فاتجه موسى عليه السلام لله، مستجيرا به، سائلا إياه أن ينزل نقمته بفرعون وقومه، وأن يطمس على أموالهم، ويشد على قلوبهم؛ ليستمروا في العذاب، فاستجاب الله له
1 سورة الزخرف الآيات: 51-53.
2 سورة الشعراء آية: 27.
3 سورة القصص آية: 38.
4 سورة الأعراف الآيات: 134، 135.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1، فأنزل الله بهم القحط، والجدب، والجوع، وكانت تأتيهم فترات خصب وسعة، فيقولون: هذه لنا بعملنا واستحقاقنا، وإذا جاء الجدب والقحط تشاءموا بموسى "وما علموا أن كل ما ينزل بهم هو قدر الله تعالى".
وأصروا على كفرهم، وأعلنوا ذلك لموسى، فجاء من قبل الله عذاب في صور شتى، ومتتابعة
…
يذكر المفسرون أن موسى عليه السلام عاش مع قوم فرعون بعد إيمان السحرة أربعين عاما، يظهر لهم الآيات، وهم بين الكفر والإيمان مترددون، منافقون.
قالوا لموسى: ادع ربك يمطرنا فجاءهم الطوفان فكفروا، فأهلك الله زرعهم ودوابهم
…
فسألوا موسى رفع الطوفان، فرفعه الله، ونبت الزرع فكفروا، جاءهم الجراد وأكل الزرع
…
فسألوا موسى رفع الجراد فرفعه الله فكفروا.... فأرسل الله عليهم القمل وهو حشرة صغيرة مدببة أكلت الدواب، والزروع، ولصقت بالجلود، ومنعتهم من النوم
…
فسألوا موسى رفعه، فلما رفعه الله كفروا، فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت بيوتهم، وفرشهم، وأمتعتهم، وطعامهم، وشرابهم، فسألوا موسى
1 سورة الأعراف الآيات: 130، 131.
2 سورة الأعراف الآيات: 132، 133.
رفعه، فلما رفعت كفروا
…
فأرسل الله عليهم الدم، وصار نهر النيل دما يشربه الإسرائيلي ماء، ويشربه القبطي دما.... وهكذا1.
ومع كل هذه الآيات المفصلة البينة، وما بينها من تباعد زمني، أصروا على كفرهم، فأمر الله موسى وهارون أن يأخذا قومهما، ويرحلا إلى برية سيناء، فخرجوا جميعا تجاه بحر القلزم "الأحمر" واتبعهم فرعون بجنوده يريد القبض عليهم والفتك بهم، وعند البحر، حيث الأمواج العالية، ألقى موسى عصاه، فانفلق البحر وانشق، وظهر فيه طريق جاف، يربط الشاطئين، فعبره موسى وقومه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما كانوا في الوسط انطبق البحر، وتلاقى الماء، وغرق فرعون وعدد من جنوده يقول الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 2.
ولم يقبل الله توبة فرعون في وقت الغرق؛ لأن التوبة لا تقبل إذا حدثت بعد مجيء الموت.
وقد طافت جثة فرعون على الماء، فأخرجها المصريون وحنطوها، لتبقى عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن كان له عقل، وحتى لا يكون هناك عذر للغافلين.
1 تفسير القرطبي ج7 ص267-271 بتصرف.
2 سورة يونس الآيات: 88-92.
وقد أهلك الله فرعون في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لما قدم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال النبي صلى الله عليه سلم:"ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال:"فأنا أحق بموسى منكم" فصامه، وأمر بصيامه1.
وقد رحل موسى وهارون عليهما السلام من مصر ومعهما الإسرائيليون، وقد حملوا معهم جثمان يوسف عليه السلام تنفيذا لوصيته.
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء.
ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين
دعا موسى الإسرائيليين كما دعا فرعون وقومه، ولم يستجب له من الإسرائيليين إلا عدد قليل؛ لخوفهم من فرعون وقومه، وحثهم موسى على عدم الخوف، والتوكل على الله؛ لأن الخوف يتعارض مع الإيمان، فأعلنوا توكلهم على الله، وسألوه ألا يجعلهم فتنة للظالمين، يقول الله تعالى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1، وقد استجاب الله لهم، ومَنَّ عليهم، بإهلاك فرعون وملئه، ونجاة الإسرائيليين، وأورثهم الأرض الطيبة
1 سورة يونس الآيات: 83-86.
ولما عبر الإسرائيليون البحر، ووصلوا إلى الشاطئ الشرقي، لم يجدوا ماء يشربون منه، أو يسقون دوابهم، فشكوا لموسى، وطلبوا منه الماء، فأمره الله أن يضرب الحجر بعصاه، فلما ضربه تفجّرت منه اثنتا عشرة عينا، فجعل لكل قبيلة عينا.
ولما ساروا في الصحراء، تألموا من حرارة الشمس، فشكوا لموسى، فأظلّهم الغمام، يقيهم من الحر.
ولما قل طعامهم، وشعروا بالجوع، شكوا لموسى، فأنزل الله عليهم المن والسلوى2، يقول الله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3، وهكذا، أحاطتهم النعمة من كل جانب، وغمرهم فضل الله تعالى، وصار لزاما عليهم أن يطيعوا موسى عليه السلام ويتبعوا دينه الموحى به من الله تعالى.
1 سورة الأعراف آية: 137.
2 المن: رطوبة تلتصق بورق الشجر تشبه في طعمها العسل، والسلوى: طائر الحبارى أو السمان.
3 سورة الأعراف آية: 160.
وقد تفضل الله على الإسرائيليين كثيرا، فدخلوا مصر آمنين، وعاشوا مع نبي الله يوسف عليه السلام ولما سقط حكم الرعاة، وجاءت الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة، وطردت الرعاة، أخذت في اضطهاد الإسرائيليين، واستعبادهم، وقتل الذكور، وترك الإناث، فبعث الله موسى وهارون عليهما السلام لإنقاذ الإسرائيليين، فطلبا من فرعون أن يرسلهم معهما ليرحلوا بعيدا عن مصر، فأبى.
وقد هيأ الله لهم الحياة في مصر، فبوّأهم بيوتا فيها، وجعل بيوتهم قبلة، وبشر الله المؤمنين منهم بالخير، يقول تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1، يذهب مجاهد أن المراد بمصر هي مدينة "الإسكندرية"، ويرى الضحاك أنها تعم كل مصر من البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر2، وقد هيأ الله السكن للإسرائيليين في كل أرض مصر
…
ولما هدم فرعون بيعهم، أحل الله لهم الصلاة في بيوتهم، قال تعالى:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 3.
وأورث الله لهؤلاء الإسرائيليين أرض مصر والشام، وبارك لهم في زروعها وثمراتها، وأتم الله عليهم نعمته كلها، وكان المأمول أن يستمر الإسرائيليون على طاعة الله، ويداوموا على منهجه؛ ليعيشوا متمتعين في آلاء الله ونعمه، لكن هذا الأمل لم يتحقق، وسرعان ما ظلموا، وغيروا، وبدلوا.
1 سورة يونس آية: 87.
2 تفسير القرطبي ج8 ص371.
3 سورة الأعراف آية: 128.
ولحكمة أرادها الله تعالى أخذ يبين مخالفاتهم لموسى عليه السلام ويعدد المعاصي التي ارتكبوها واحدة واحدة، وسوف أتحدث عنها، وبخاصة أنها توضح المخالفة، وتبين طبائع النفس، وتشير إلى العناصر الأساسية التي تتكون منها الشخصية الإسرائيلية، وسأعقد لكل مخالفة مسألة، وذلك فيما يلي:
المسألة الأولى: حنين الإسرائيليين إلى الأصنام
شاهد الإسرائيليون معجزات موسى عليه السلام وعاشوا في النعم والآلاء التي تفضل الله عليهم بها، وآمنوا بدين موسى عليه السلام ومع هذا كانت تعاودهم الوثنية التي ألفوها خلال حياتهم في مصر، وغلبتهم ماديتهم التجسيدية، ولم تمنعهم عظمة النعمة من الانتكاسة السريعة، والخضوع للشهوة؛ لأن التكوين الطبيعي أقوى تاثيرا من المكتسب؛ ولذلك جاءوا لموسى بعد أن نجاهم الله من الغرق، وطلبوا منه أن يجعل لهم صنما يعبدونه، كما يفعل أقوام التقوا بهم في سيناء، وهم العماليق، يقول الله تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. طلب غريب عجيب!! يريدون صنما يعبدونه من دون الله، ويطلبون من موسى أن يوجد هذا الصنم لهم!!
إنه طلب يؤكد صفاتهم، وأخلاقهم القائمة على الجحود، والجهل، والتوجه المادي، والرغبة في التبعية، والإحساس بالضعف. أما الجحود فإن نجاتهم من الغرق، وفلق البحر أمامهم، معجزة لم يجف مدادها بعد، ومع ذلك يكفرون بالله فور رؤيتهم لقوم يعكفون على أصنام لهم، ويطلبون من موسى أصناما يعبدونها مثلهم، ويهملون كل شيء.
1 سورة الأعراف الآيات: 138-140.
وأما الجهل فإنهم لم يقدروا الأمور قدرها، واتخذوا من هؤلاء الناس قدوة لهم، مع أن الله سيهلكهم، ويبطل عملهم، ويعذبهم على كفرهم
…
وكيف يأملون من موسى أن يوجد لهم صنما يعبدونه، وقد أفنى عمره في الدعوة إلى التوحيد
…
وكيف يبحثون عن صنم مع أن الله أكرمهم، وفضلهم على الأمم من حولهم!!
وأما ماديتهم فإنهم طلبوا إلها من الحجر، وانصرفوا عن الله الذي عرفهم به موسى، وأظهر لهم قدرته، وبين لهم اتصافه بكل كمال يليق به سبحانه وتعالى.
وأما ميلهم إلى التبعية فإنهم يريدون مثل ما رأوا عند الناس؛ لإحساسهم أنهم أفضل منهم، وتبعيتهم لهم تضمن لهم الحياة والاستقرار.
وأما إحساسهم بالضعف: فإنهم لجئوا لموسى ليصنع لهم إلها، وكان يمكنهم أن يوجدوه بأنفسهم، ولأنفسهم، لكنهم لشعورهم بالضعف طلبوا من الغير أن يصنع لهم.
المسألة الثانية: طلبهم الطعام الأدنى
تابع الإسرائيليون سيرهم مع موسى في صحراء سيناء، واحتاجوا إلى الماء، ففجر الله لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا، خصص موسى عينا لكل قبيلة، ولما اشتد حر الشمس عليهم أظلهم الغمام، ولما جاعوا أمدهم الله بالمن والسلوى.
والمن مادة رطبة تنزل من الجو كما ينزل الطل، وتتجمع على الحجر وورق الشجر، وطعمها حلو يشبه العسل
…
والسلوى طائر السمان، وكان يأتيهم على هيئة أسراب متلاحقة، يغطي الأرض بكثرته.
والمن والسلوى، من أطيب الطعام؛ للذة مذاقه، وكثرة فوائده، وجمال منظره، يقول تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1.
نعمة عظيمة، أتتهم من الله تعالى، بلا جهد أو تفكير، وكان عليهم أن يسعدوا بإنزالها عليهم، ويشكروا المنعم على ما تفضل به، لكنهم كفروا بالنعمة، وتبرموا بها، وطلبوا من موسى غيرها، يقول تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 2. إنهم لجهلهم وجحودهم، آثروا تنوع الأطعمة وإن قلت قيمتها، وساء مذاقها. إنهم يطلبون الفول والقثاء، والعدس، والبصل، والثوم، وهي أنواع منتشرة في كل أرض الله، وهي طعام العامة، وجهل الإسرائيليين جعلهم يفضلونها على المن والسلوى.
وأيضا، فإن هذا الطلب يدل على جحودهم؛ لأنهم لو قدروا الله حق قدره، لعلموا أن عطاءه كريم، عظيم، وعطاء العظيم الكريم لا بد أن يكون أفضل، وأعظم.
يقول القرطبي: "وفضل المن والسلوى على ما طلبوه، من وجوه:
1-
المن والسلوى طعام نزل من الله عليهم، وأمر بأكله، وفي استدامة أمر الله، وشكر نعمته أجر، وذخر في الآخرة، أكثر مما في غيره.
2 -
ما مَنّ الله عليهم به ألذ، وأطيب من الذي سألوه.
3-
ما من الله به عليهم يأتيهم بلا كلفة، ولا عمل، ولا تعب.
4-
ما من الله عليهم حلال، خالص من أي شائبة معصية.
1 سورة الأعراف آية: 160.
2 سورة البقرة آية: 61.
وكان رد موسى عليه السلام عليهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} 1.
وهو أمر يصعب تنفيذه، من باب قوله تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} 2؛ لأنهم كانوا في التيه بعيدين عن أي مصر3.
ولذلك رفض موسى عليه السلام طلبهم، وعرفهم أن الذي يطلبون هو الدني، ولا يصح أن يقدموه على ما هو خير منه.
إن طلبهم يدل على ما عندهم من عناد، وما في طباعهم من خسة، وما في فكرهم من طمع، وتمرد على القدر، وعلى الخير.
وقيل: إن الله استجاب لطلبهم، وأسكنهم مصر فرعون، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب منه سبحانه وتعالى.
والأولى القول بأن موسى عليه السلام رفض طلبهم، وعنّفهم، وبين لهم أن هذه المزروعات توجد في الأمصار التي يسكنها عامة الناس، وأنهم بعيدون عنها، ويؤيد هذا أن الله أمرهم بعد ذلك بدخول القرية المقدسة، وأنهم سكنوا الشام بعد التيه.
المسألة الثالثة: طلبهم رؤية الله جهرة
أخبر موسى عليه السلام قومه الإسرائيليين وهم بمصر، أن الله سيهلك عدوهم، وأنه سينزل عليهم كتابا، ينظم حياتهم، ويضع المنهج الذي يعيشون به، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، وهو في سيناء، فأمر الله تعالى أن يقصد سفح جبل الطور الأيمن، ويمكث فيه صائما ثلاثين يوما، وزادها الله عشرة، صامها موسى عليه السلام وتم ميقات ربه أربعين يوما، وبذلك تهيأ لملاقاة الله.
1 سورة البقرة آية: 61.
2 سورة الإسراء آية: 50.
3 تفسير القرطبي ج1 ص428، 429.
اختار موسى من قومه سبعين رجلا يحضرون معه الميقات، وحضروا، واستمعوا كلام الله تعالى، وشاهدوا كل ما حل بموسى، يقول الله تعالى مصورا هذا اللقاء:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
والآيات توضح أن موسى عليه السلام استخلف أخاه هارون عليه السلام في قومه، وهو غائب عنهم، وأمره بملازمة الإصلاح، والبعد عن مناهج المفسدين الضالين.
كما يتضح من آيات القرآن الكريم أن موسى عليه السلام طلب من الله أن يريه ذاته، فقال الله: لن تتمكن من رؤيتي، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه، إذا تجليت له فسوف تراني، فلما تجلى الله للجبل اندك، فخر موسى صعقا، وعلم أن رؤية الله عيانا أمر مستحيل؛ لأن الله ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
شاهد السبعون كل هذا، وسمعوا الحوار، ورأوا الأحداث والوقائع، ومع ذلك طلبوا من موسى طلبا غريبا وهو أن يروا الله جهرة، وهذا أمر غير ممكن، يقول الله تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 2، فطلبوا رؤية الله عيانا، مشخصا، ولم يعتبروا
1 سورة الأعراف الآيات: 142، 143.
2 سورة البقرة آية: 55.
بكلام الله لموسى، ولا بما حدث لموسى، وإنما طلبوا أن يظهر الله لهم جهرة، فنزلت بهم الصاعقة، وأهلكتهم، وهم ينظرون حولهم، ثم دعا موسى عليه السلام ربه ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فأعادهم الله رجاء أن يشكروا النعمة، ويؤدوا حق المنعم....
المسألة الرابعة: عبادة العجل
لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، استخلف أخاه هارون عليه السلام الذي عرف باللين، والهدوء، فانتهز السامر فرصة غياب موسى عليه السلام وشكك في صدقه، وبخاصة بعدما أخلف موسى موعد معهم، وقال لبني إسرائيل: إنما أخلف موسى موعده معكم، لما معكم من الحلي التي سرقتموها من المصريات، فهي حرام عليكم، وطالبهم بالتخلص منها، وإلقائها في النار، فاستجابوا له، وجمعوا الذهب، وألقوه في النار، فصنع منه السامر هيكلا تجسد أمامهم في صورة عجل، يصدر صوتا، له خوار1، وقال لهم: هذا إلهكم، وإله موسى فأطاعوه،
1 تفسير الرازي ج22 ص103، هذا وقد قال العلماء: إن سبب الصوت خديعة صنعها السامر، وذلك بفتح ثقب في جسد العجل، يصدر الصوت مع هبوب الريح. وقيل: بل هو من فتنة الشيطان للإسرائيليين، وقيل: إن السامر رأى جبريل عليه السلام يوم انفلاق البحر يخوض الماء بفرسه "حيزوم" وكانت إذا مست شيئا أحياه الله، فأخذ السامري ترابا حيا من تحت أقدام الفرسة، واحتفظ به ووضعه في فم العجل فأخرج الصوت. وقيل: بل هي فرسة جبريل يوم أن جاء ليصعد بموسى، عليه السلام. وقيل: بل رآها السامري مرة ما، ودليل القائلين بأنه تراب الفرسة قوله تعالى:{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} ، فالقبضة تراب من أثر جبريل. ويستبعد الشيخ عبد الوهاب النجار ما يقال عن أن الصوت سببه تراب الحياة، ويرى أنها من الريح في فتحة بالعجل المصنوع، ويرى أن معنى الآية: أن السامر بصر بعجل مصري لم يره الإسرائيليون، وأخذ جزءا من تعاليم موسى الخاصة بالتوحيد، وأبعدها عن الإسرائيليين، وهي المرادة بالقبضة التي نبذها من آثار موسى الرسول، وبعد ذلك رأى الفرصة مواتية للعب بعقول الإسرائيليين "قصص الأنبياء ج1 ص220".
وعبدوه، واتخذوه إلها، وادعوا أن موسى نسيهم عندما خرج للقاء ربه. يصور الله عبادة الإسرائيليين للعجل، فيقول تعالى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 1.
والسامري هذا، رجل مصري كان يعبد البقر، دخل في دين موسى ظاهرا، وقيل: هو إسرائيلي، من قبيلة تعرف بالسامرة في بلاد الشام2، والأوزار التي حملوها معهم من مصر، هي ذهب المصريات استعارته الإسرائيليات منهن، وهربن به.
وعبد الإسرائيليون العجل، وأخذوا يرقصون حوله، ويلعبون، وتحققت أمنية لهم، رجوها طويلا من قبل، ولم يفكروا في هذا الإله البقرة، مع أنه لا يتكلم معهم ولا يرد عليهم، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.
إنهم بعبادتهم للعجل أكدوا طباعهم الوثنية، وبرهنوا على تعودهم نقض المواثيق، فلقد عاهدهم موسى عليه السلام على ضرورة الاستقامة على دين الله وطاعته، وأن يتجنبوا أية مخالفة وهو غائب عنهم.... ولكنهم لم يخالفوا في جزئية، بل تركوا الدين بالكلية، يقول الرازي في تفسيره:"إن القوم كانوا من الجهالة، بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض، وكانوا في نهاية البلادة والجلافة؛ لتصديقهم أن صوت البقرة "الخوار" يناسب مقام الألوهية"3.
1 سورة طه الآيات: 87، 88.
2 تفسير القرطبي ج11 ص233، 234.
3 تفسير الرازي ج22 ص104.
وقال رحمه الله: "إن تصور رجوع عدد يقرب من ستمائة ألف عن الدين الحق، دفعة واحدة، إلى عبادة العجل، ثم رجوعهم إلى الدين الحق بعد رجوع موسى إليهم؛ تصور عجيب يؤكد بلاهتهم، وتعودهم على الاستعباد والتبعية للأقوى، واستهانتهم بالأضعف، ويشير إلى عنصريتهم التي جمعت هذا العدد الضخم في الكفر وفي الإيمان"1.
وفي اتخاذ الإسرائيليين للعجل إلها، برهان على عنصريتهم الضالة، فلقد عاشوا مع المصريين، ولم يكونوا مثلهم في الدين، ولم يعبدوا العجل معهم
…
أما أن يأتيهم الضلال من رجل منهم، فهو أمر سهل، وطاعته في الضلال أمر محبب إليهم.
وقد أخبر الله موسى عليه السلام أن قومه وقعوا في فتنة الكفر، وأضلهم السامري في الدين، فرجع إلى قومه مسرعا، وهو حزين غاضب، يتملكه الندم والحسرة على هؤلاء الناس، الذين تركوا عبادة الله إلى عبادة البقر، ووجد نفسه أمام ثلاثة أطراف، أخذ يسائلهم عن هذا العبث، وهم:
- الإسرائيليون.
- أخوه هارون عليه السلام.
- السامري.
وكان له مع كل منهم حوار، نلخصه في الآتي:
أ- موسى والإسرائيليون:
رجع موسى إلى قومه ومعه الألواح، فلما رأى الإسرائيليين يسجدون للعجل، ويعبدونه ألقى الألواح فانكسرت، وقال للإسرائيليين:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا}
1 تفسير الرازي ج22 ص105 بتصرف.
يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، وقال لهم ما حكاه الله تعالى:{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} 2.
والآيات توضح أن موسى عليه السلام سأل الناس عن الدافع الذي دفعهم إلى الكفر
…
فهل هو عدم ثقتهم في وعد الله الذي يؤكد لهم الثواب الجزيل إذا أقاموا على طاعته، وأن يسمعهم كلامه سبحانه في التوراة على لسان موسى عليه السلام وأن يحقق الله لهم النصر والظفر، إن تمسكوا بدينه؟!! إن كان ذلك هو السبب فذلك دليل نفاقهم، وعدم صدقهم في إيمانهم بموسى أولا؛ لأن الله أكرمهم، ونجاهم، وأمدهم بالنعم في كل جوانب حياتهم، وبعد ذلك لا يثقون فيه!!!
أم إن السبب هو طول المدة بين وقت إيمانهم ووقت كفرهم؛ لأن الزمن قد ينسى لطوله؟!!! إن كان السبب هو هذا، فهو دليل ضعف الإيمان؛ لأن الإيمان عقيدة تؤكدها العبادات، ويحييها الالتزام الخلقي، ومن يعش الإيمان حقيقة يره في كل عمل، وفي كل وقت؛ وحينئذ لا ينسيه طول الوقت أبدا، بل يؤكده، ويقويه.
أم إن السبب هو الرغبة في نزول غضب الرب؛ لأن الكفر بالله وعبادة إله آخر يوجب غضب الرب، ولا يفعل ذلك إلا المعتوه، الضال.
فردوا عليه بأن المخالفة التي وقعوا فيها، ليست بإرادتهم، وإنما أضلهم السامر، ودعاهم إلى التخلص من الذهب المسروق، وصنع العجل، ودعاهم إلى عبادته فأطاعوه، يقول تعالى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 1.
1 سورة طه الآيات: 87، 88.
وكان عليهم أن يتدبروا في مزاعم السامر، فلا يتخلصوا من وزر بكفر، ولا يندهشوا بصوت بقرة، ولا يتركوا التأثر بخلق السموات والأرض، وكيف يسجدون لبقرة، وقد ذاقوا طعم الإيمان بالله، وعرفوا مدى استحقاقه سبحانه للعبادة، وشاهدوا الآيات والبراهين الدالة على صدق الرسول، وصدق دعوته؟! إن هذا لشيء عجاب! وسوف يعاقب الله الناس على ضلالهم، وينجي من تاب منهم، ورجع عن ذنوبه، يقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
ب- موسى وهارون:
واتجه موسى عليه السلام مغاضبا إلى أخيه هارون، {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 2، وفي الآية عتاب شديد من موسى لهارون وهو يسأله: لِمَ لَمْ تتبعني حين رأيتهم كفروا وعبدوا العجل؟ يريد موسى أن يتبعه هارون منهجيا، بمعنى أن ينكر عليهم، أو يقاتلهم، كما كنت أفعل لو كنت فيهم، أو تتبعني فتهجرهم، وتترك الإقامة بينهم، لتلحق بي، ففي مفارقتهم زجر، وتقريع.... ويتابع موسى عليه السلام عتابه متسائلا: وهل يا هارون عصيت أمري، ووصيتي التي قلتها لك؟ وعنها يقول الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 3.
1 سورة الأعراف الآيات: 152، 153.
2 سورة طه الآيات: 92، 93.
3 سورة الأعراف آية: 142.
أجاب هارون عليه السلام بهدوء على أخيه موسى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} 1
…
وكان موسى عليه السلام قد أخذ شعر رأسه بيده اليمنى، وشعر لحيته بيده اليسرى؛ لأن الغيرة لله ملكته، والانفعال بكفر قومه أحزنه؛ ولذا قال هارون: لا تأخذ برأسي أو لحيتي، حتى لا يتخيل أحد أنك تعاقبني، أو تستخف بي2، فتركه موسى، وأخذ هارون يشرح له ما حدث.
يبدأ هارون حديثه بمودة ظاهرة، وينادي أخاه موسى ويقول:{يَا ابْنَ أُمَّ} وكان موسى أخاه لأمه وأبيه، ولكن هارون ركز على أخوته لأمه؛ لما فيها من لين، وعطف، ومرحمة.
وبعدها بين له أنه حذرهم من هذا الضلال، ودعاهم إلى الله تعالى، وقال لهم:{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 3.
توضح الآية أن هارون نصح الناس قبل مجيء موسى عليه السلام وبيّن لهم فتنة السامر، وبطلان مزاعمه، وأن عليهم أن يعلموا أن ربهم هو الرحمن، الرحيم، وليس هو العجل المزعوم، وحثهم على اتباعه، وطاعته.
وبين لموسى أسباب بقائه وسطهم بعد كفرهم، وهي خشيته من تفرق الناس؛
1 سورة طه آية: 94.
2 يذهب القرطبي إلى أن موسى عليه السلام أخذ برأس هارون عليه السلام وضمه إليه ليعلمه بنزول الألواح عليه، وليسمع واقع الحال بصورة لا يسمعها أحد، وكان أخذ الرجل من شعر رأسه ولحيته تكريما واحتراما، إلا أن هارون نهى موسى عن ذلك حتى لا يتخيل الإسرائيليون أن موسى يعاقبه "تفسير القرطبي ج7 ص289".
3 سورة طه الآيات: 90، 91.
لأنه إن خرج سيتبعه فريق، ويبقى فريق، وربما تقاتلوا، وحينئذ أكون سببا في فرقتهم مع أنك أمرتني أن أبقى بينهم، وأدعوهم إلى الله تعالى.
ويبين هارون أن القوم استهانوا به، وتصوروه ضعيفا، وكادوا أن يقتلوه حين نهاهم عن عبادة العجل.
وينهي هارون حديثه مع أخيه برجاء عدم فعل أي شيء يتصوره الكفار عقوبة، أيا كانت صورها، يقول تعالى:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1.
وبعد اتضاح موقف هارون أمام موسى عليهما السلام توجه موسى إلى الله داعيا لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2، وفي تحقيق هذا الدعاء غاية المنى؛ لأن المغفرة تحقق الستر والصفح عما وقع، والرحمة تحقق العون، والتوفيق والنصر، والهداية الدائمة.
ج- موسى والسامري:
اتجه موسى عليه السلام إلى السامر، وسأله عن الذي حمله على فعل ما فعل، فأجابه بأن نفسه زينت له ذلك، فقال له موسى: اخرج من بيننا، وابتعد عن الناس حتى لا يلقاك أحد، وانظر إلى العجل الذي ألهته، ولازمت عبادته؛ لأننا سنحرقه، ونلقيه في البحر ترابا يذوب في الماء، واعلم أيها الضال أن الإله الحق هو الله الذي وسع علمه كل خلقه، يتصرف كيف يشاء، وله الأمر كله، وإليه مرجع الخلائق أجمعين
…
1 سورة الأعراف آية: 150.
2 سورة الأعراف آية: 151.
عن موقف موسى من السامر، يقول الله تعالى:{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} 1.... وقد ذهب العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} 2 مذاهب شتى3، والراجح أن معناها: أخذت جزءا من تعاليم موسى الخاصة بالتوحيد، وأبعدتُها عن الإسرائيليين حتى لا يتمسكوا بها، فيسهل إضلالهم، وخداعهم4.
يقول الشيخ عبد الوهاب النجار: إن السامر خدع بني إسرائيل، وأخذ منهم الحلي، وبصر بعجل من العجول التي تعبد في مصر، ولم يبصره غيره، فجاء به إلى الإسرائيليين، وقال لهم: هذا إلهكم جئتُ به بدل حليكم لتعبدوه، فانخدعوا، وصدقوا، وعبدوا، وعلى هذا يكون العجل حيوانا عاديا
…
ويكون معنى قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 5.
إن بني إسرائيل اتخذوا بدل حليهم عجلا مجسدا له صوت، وعبدوه6، فمعنى {مِنْ حُلِيِّهِمْ} "بدل حليهم"، والمراد بالمبصر العجل الذي رآه السامري.
1 سورة طه الآيات: 95-98.
2 سورة طه آية: 96.
3 انظر هامش ص328.
4 تأويل أبي مسلم الأصفهاني ص217.
5 سورة الأعراف آية: 148.
6 قصص الأنبياء ص220.
والذين يذهبون إلى أن العجل صنع من الذهب يرون أن معنى {مِنْ} للتبعيض، ويكون المبصر فن الصياغة، وصناعة الذهب، وكان السامر فعل ذلك لخبرته في صناعة الذهب1.
وفي النهاية يبين الله المصير الذي ينتظر عبدة العجل، فيقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} 2.
المسألة الخامسة: التيه ودخول بيت المقدس
سار موسى عليه السلام بقومه في برية سيناء، فلما اقترب من بيت المقدس، وجد فيها قوما جبارين من العرب الكنعانيين، والفزاريين، وغيرهم، يصدون عن سبيل الله، ويمنعون غيرهم من المجيء لبيت المقدس، والسكن فيها، فأمر موسى عليه السلام قومه بدخول بيت المقدس، ومقاتلة الجبابرة، وإخراجهما منه، وقال لهم:{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} 3، فقد كتب الله لهم أن يقيموا فيها، وعليهم أن يقاتلوا لينالوا حقهم، ويدخلوا مدينتهم، ولا يرجعوا عنها فيخسروا بعد الربح
…
لكنهم رفضوا طلب موسى عليه السلام خوفا من هؤلاء الجبابرة، قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} 4، وقالوا لموسى: لن ندخل هذه الأرض حتى يخرج منها الجبابرة، فإن خرجوا دخلنا، وأعلنوا خوفهم منهم، فظهر رجلان
1 مدرسة الأنبياء ص229.
2 سورة الأعراف آية: 152.
3 سورة المائدة آية: 21.
4 سورة المائدة آية: 22.
من بينهم، ونصحوهم، وطلبوا منهم الدخول؛ لأنهم بمجرد وصولهم إلى الباب سيغلبون، ما داموا متوكلين على الله، مؤمنين به، يقول تعالى:{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
ومع هذه النصيحة أعلنوا رفضهم القاطع، وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك للقتال، ولن نكون معك، ونسوا كل ما تفضل الله به عليهم، قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 2.
هناك اتجه موسى عليه السلام لربه شاكيا قومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} 3، وطلب منه أن يفصل لهم عنه، وعن أخيه معه.
فقضى الله عليهم بالتيه في برية سيناء أربعين عاما، وحرم عليهم دخول بيت المقدس، خلال هذه المدة، يقول الله تعالى:{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 4.
يقول ابن عباس: فتاهوا في الأرض أربعين سنة، يصبحون كل يوم، ويسيرون ليس لهم قرار، وتوفي هارون عليه السلام وبعده توفي موسى عليه السلام بسنتين، أو بثلاث سنوات، وأقام فيهم يوشع بن نون خليفة عن موسى، ومات أكثر بني إسرائيل في التيه، وانقضت المدة، فخرج يوشع بمن بقي منهم وبأبنائهم، وحاصر
1 سورة المائدة آية: 23.
2 سورة المائدة آية: 24.
3 سورة المائدة آية: 25.
4 سورة المائدة آية: 26.
بيت المقدس، وفتحها، وسكنها الإسرائيليون، وأمرهم يوشع بالاستقامة على الحق، واتباع دين الله تعالى1.
المسألة السادسة: تعمد المخالفة
لما أنعم الله على الإسرائيليين بفتح بيت المقدس، أمرهم نبي الله يوشع بن نون أن يدخلوا الباب مطأطئي الرءوس، سجدا لله، خاشعين، خاضعين، وأن يقولوا ألسنتهم حطة، أي: حط عنا خطايانا التي سلفت منا، ليبدءوا حياة طيبة في البلدة المقدسة، التي جعلها الله لهم، وجعلهم فيها سادة، وملوكا.
رغم هذا الأمر الصريح تعمدوا المخالفة، فدخلوا بظهورهم زحفا على أستاههم، وأخذوا يقولون حنطة، أي: حبة شعير، وبذلك بدلوا ما أُمروا به، واستهزءوا بما كُلِّفوا بعمله، فحق عليهم العذاب الأليم الذي نزل بهم، يقول الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 2.
يروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فبدّلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة"3.
1 البداية والنهاية ج1 ص322.
2 سورة البقرة الآيات: 58، 59.
3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب التفسير، باب:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} ج8 ص304.
المسألة السابعة: خضوعهم للقوة
جاء موسى عليه السلام بالألواح لبني إسرائيل، وأمرهم أن يعملوا بما فيها، ويخلصوا لها بقوة وعزم، لكنهم قالوا لموسى: نريد أن نراها أولا، فإن كانت سهلة قبلناها، وإلا تركناها، فلم يوافقهم عليه السلام، فراجعوه كثيرا، فأصرّ على رأيه، وهم يصرون على ترددهم، رغم أن الله أخذ عليهم العهد والميثاق، يقول الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 1.
وبالنظر في الآيتين ندرك القضايا التي يتضمنها الميثاق، وهي:
1-
عبادة الله وحده، ونبذ عبادة ما سواه.
2-
برّ الوالدين.
3-
بر ذوي القربى.
4-
الإحسان إلى اليتامى، والمساكين.
5-
الالتزام بحسن الكلام وطيبه.
6-
إقامة الصلاة.
7-
إيتاء الزكاة.
8-
صيانة الدم، وعدم العدوان.
9-
التعاون، وعدم إجبار البعض على ترك بلده.
1 سورة البقرة الآيات: 83، 84.
واستمروا في المعصية، فمسخهم الله قردة وخنازير، يقول تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} 1، ويقول سبحانه:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2.
المسألة التاسعة: معونة الله لموسى
طوال رسالة الله لموسى عليه السلام كان الله معه، يمده بالمعجزات، ويعرفه بموضوع الدعوة، ويطلعه على طبائع الناس، ولم يتركه سبحانه وتعالى وحده طوال عمره كله، من مولده إلى وفاته عليه السلام وقد رأينا كيف تربى؟ وكيف نشأ؟
وفي إطار المعونة الإلهية لموسى بعد الرسالة، تبرز ثلاث حوادث حدثت مع موسى عليه السلام وجاء القرآن الكريم بها مفصلة، وهي:
الحادثة الأولى: رَدّ مقالة الإسرائيليين عن جلد موسى:
عرف موسى عليه السلام بالحياء الشديد، فكان يستر جسده؛ حتى لا يرى منه أحد شيئا، فأشاع الإسرائيليون أن بجسده برصا أو أدرة، جعله يستتر أثناء الغسل؛ لأنهم كانوا يغتسلون عرايا ولا يستترون، فرد الله كلامهم، وبرأ موسى من مقالتهم. يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى جسده، فقالوا: والله ما بموسى بأس، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربا"2.
1 سورة الأعراف آية: 163.
2 سورة الأعراف آية: 166.
3 صحيح البخاري بفتح الباري، باب من اغتسل عريانا، ج1 ص385.
وآدر -بمد الألف وفتح الدال وتخفيف الراء- معناها: انتفاخ في الخصية، وفي بعض طرق الحديث أنهم قالوا: إنه أبرص أو آدر، وقد برأ الله موسى من هذا العيب بطريقة حسية، وجعل القائلين به يرجعون عنه؛ ولذلك يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} 1.
الحادثة الثانية: ذبح البقرة
قتل أحد الإسرائيليين عمه ثم ألقاه على مجمع الطريق؛ ليرث أمواله، حيث لا ولد له، وأخذ يبكي ويصيح؛ بحثا عن القاتل ليخفي جريمته، وحتى لا يحرم من الميراث.
ودار على الناس يسألهم، وجاء لرسول الله موسى عليه السلام وقال له: إن عمي قُتل، وأتى إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي قاتله غيرك يا نبي الله
…
فنادى موسى في الناس: من كان عنده علم عن هذا فليبينه، فلم يكن أحد منهم عنده علم.
ومجيء القاتل لموسى استخفاف بموسى، وتكذيب لدعوته؛ لأنه لو كان مؤمنا مقدرا ما قتل قريبه، ولما جاء لموسى
…
وانتظر الناس، وانضموا إلى جانب الرجل الباحث عن قاتل عمه.
فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم ليذبحوا بقرة، فتعجبوا وقالوا: جئناك لنعرف القاتل، تأمرنا بذبح بقرة، إنك تهزأ بنا، وتلعب بعقولنا
…
فقال: أعوذ بالله أن أكون جاهلا وأهزأ بكم
…
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وكان يمكنهم أن يذبحوا أي بقرة، لكنهم طلبوا من موسى أن يحددها لهم من ناحية عمرها، ولونها، وعملها
…
فبين لهم أنها متوسطة العمر، لا هرمة ولا صغيرة، وسط بينهما، وأنها صفراء فاقع لونها، وأنها لا تعمل في السقي أو الحرث، فعرفوها، ووجدوا أنها مملوكة
1 سورة الأحزاب آية: 69.
لامرأة عجوز، غالت في ثمنها، وباعتها لهم فذبحوها، وأخذوا عظما منها، ضربوا به القتيل، فنطق وسمى لهم قاتله، ثم مات مكانه، فاقتص موسى عليه السلام من قاتله، وهو ابن أخيه الذي كان يريد إرثه.
وهكذا كان عون الله لموسى عليه السلام في مواجهة لؤم القوم ومكرهم، حيث كانوا يتصورونه عاجزا، وما دروا أن الله معه يؤيده وينصره، يقول الله تعالى عن هذه الحادثة:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1.
الحادثة الثالثة: مصاحبة الخضر
يروي البخاري بسنده عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قام خطيبا في
1 سورة البقرة الآيات: 67-73.
بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك
…
قال: أي رب، ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في مكتل، وحيثما فقدت الحوت فهو ثم1
…
إلخ.
والحديث بتمامه يفصل لقاء موسى بالخضر، وقد فصلها القرآن الكريم كذلك، وكلاهما يبين أن حكمة الله تعالى قضت بوقوع القصة؛ ليتعلم موسى عليه السلام رد العلم لله، فهو العليم بكل شيء، وعلمه، وإرادته، وقدرته، مع كل موجود؛ ولذلك كان على موسى أن يقول لمن سأله: الله أعلم.
وقد وقع العتاب بمنهجية مؤثرة، ومعجزة، حيث حدد الله لموسى مكان لقاء الرجل الأعلم منه، وهو مجمع البحرين، وأتصور هذا المكان عند التقاء خليج العقبة بخليج السويس، عند رأس محمد؛ لأن موسى عليه السلام كان في سيناء، ولا يوجد بحران يلتقيان إلا هناك، وقد حدد الله لموسى علامة يعرف بها المكان، هذه العلامة هي ضياع الحوت، ففي هذا المكان يوجد الرجل الصالح.
اصطحب موسى عليه السلام غلاما، ومعهما الحوت في مكتل، فلما جاوزا المكان، قال موسى لفتاه: أحضر لنا الطعام لنأكل، فقد تعبنا، وأصابنا الجوع، فقال له الغلام: لقد نسيت الحوت عند الصخرة التي استرحنا عندها، وقد اتخذ الحوت طريقه إلى البحر بصورة عجيبة، فقال موسى: هذا المكان هو الذي أقصده، فهيا بنا نرجع إليه، فرجعا حتى وصلا إلى الصخرة، فرأى موسى رجلا مسجى بثوب فسلّم عليه، فقال الخضر: أنى بأرضك السلام
…
قال: أنا موسى رسول الله. فقال الرجل: أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه. فقال له موسى: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا.
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر ج6 ص231، 232.
فقال الرجل: إنك لن تصبر لعدم إحاطتك بما أعلم.
قال له: ستجدني إن شاء الله صابرا، ومطيعا
…
فقال الخضر: إن أردت أن تتعلم فاتبعني، ولا تسأل عن شيء أبدا، حتى أعرفك بخبره، واتفقا على ذلك
…
ويلاحظ أن الله عرّف موسى أن هناك من هو أعلم منه، وأن الرجل الأعلم يقر بأن علمه من الله، وأنه إن عرف شيئا فهو يجهل أشياء، وأن الإنسان متصف بالعجز والقصور، والعلم كله لله.
وتبين الآيات أن هذا الرجل متصف بالعبودية الخالصة لله، وأن الله أكرمه وأمده بالنعم، وأعطاه علما لدنيا من عنده سبحانه.
ويستفيد موسى من تعليم الله، ويقر للرجل بالتبعية ليتعلم منه، ويشترط عليه الرجل، ويحدد له كيفية التلقي، وعدم الاعتراض، وعدم السؤال عن أي جانب لا يفهمه بعقله؛ لأن العقل له منهجه، وطاقته في الفهم، ويوافق موسى على شروط الرجل، ويعلق قبوله بالمشيئة الإلهية؛ لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
1 سورة الكهف الآيات: 62-70.
ويبدأ التعليم العملي، الرجل يمشي وموسى وراءه، فلقيا في البحر سفينة، استأذن الخضر في ركوبها، فأذن لهم ربانها بلا أجر يأخذه، ركب الخضر وخرق السفينة، فاعترض موسى؛ لأن الخرق يغرق السفينة، فسأله الرجل عن صبره الذي اتفق معه عليه، فاعتذر موسى بنسيانه، وبعدها ساروا على الساحل، فوجدوا مجموعة من الغلمان يلعبون، فجاء الخضر إلى واحد منهم، واقتلع رأسه وقتله، فاعترض موسى عليه السلام مرة ثانية؛ لأنه قتل غلاما بغير جرم يرتكبه، فوضح له أنه ارتكب مخالفة ثانية، ولم يصبر، فاعتذر موسى عليه السلام وقال: إن اعترضت بعد ذلك فلا تصاحبني، ولك عذرك في تركي، وساروا حتى دخلوا قرية، وطلبوا من أهلها طعاما فرفضوا، فوجد الخضر جدارا يميل للوقوع، فأقامه وأصلحه بلا أجرة، فاعترض موسى عليه السلام على إصلاح الجدار بلا أجرة، مع أن أهل القرية رفضوا إطعامهم
…
فقال الخضر: هذه هي الثالثة
…
وعلينا أن نفترق بعد أن أوضح لك خبر الأحداث الثلاثة.
أما السفينة فهي مملوكة لمساكين، ضعفاء يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك ظالم، يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، بلا ثمن، فقمت بخرقها حتى لا يأخذها.
وأما الغلام، فقد طبع يوم طبع كافرا، وأبواه مؤمنان، فخشينا أن يكلفهما بسبب عاطفة الحب والشفقة، فيقعا في الضلال، ويتدينا بدينه.
وأما الجدار فهو مملوك لغلامين صغيرين يتيمين، وتحته كنز لهما1، وكان أبوهما صالحا، فأقمت الجدار، حتى يبلغا الرشد، ويستخرجا كنزهما.
1 اختلف العلماء في الكنز، فقال عكرمة وقتادة: كان مالا معدودا وهو الظاهر، وقال ابن عباس، وعمر مولى غُفْرة، وعثمان بن عفان: كان لوحا من ذهب كتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن!! عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب!! عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح!! عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل!! عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها!! لا إله إلا الله محمد رسول الله، "تفسير القرطبي ج11 ص38".
ثم قال الرجل الصالح: وما فعلته باجتهاد مني، ولكنه أمر من الله تعالى لي، يقول الله تعالى مصورا هذا: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} 1.
وقد استفاد موسى عليه السلام من هذه القصة، وعرف خطأه، عندما قال: ليس هناك من هو أعلم مني على وجه الأرض، ولم ينسب العلم لله، كما استفاد ضرورة الرجوع إلى الله تعالى في كل أمر غير مقطوع به، كما تيقن من أن علم الله لا يحيط به بشر أبدا، كما تعلم التواضع لمن يعلمه، ولو كان أقل منه قدرا.
ونود أن نوضح بعض الأمور:
الأمر الأول: الخضر بين النبوة والولاية
يرى بعض العلماء أن الخضر كان نبيا، مستدلين بما يلي:
الدليل الأول: وصف الله سبحانه الخضر بالعبودية له في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 2، وقد وصف الله بالعبودية أنبياءه عليهم السلام ويقول تعالى:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} 3.
ويقول سبحانه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 4، ويقول سبحانه:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 5.
الدليل الثاني: آتاه الرحمة من عنده، قال تعالى:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 6، والرحمة تأتي
1 سورة الكهف الآيات: 65-82.
2 سورة الكهف آية: 65.
3 سورة ص آية: 45.
4 سورة الإسراء آية: 3.
5 سورة ص آية: 30.
6 سورة الكهف آية: 65.
بمعنى النبوة، يقول تعالى على لسان صالح عليه السلام:{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 1، ويقول سبحانه:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} 2.
الدليل الثالث: أخبر الله تعالى بأنه أعطاه علما من عنده، فقال سبحانه:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 3، ومن المعلوم أن علم الأنبياء من الله تعالى، يعلمهم ويمدهم بالوحي، يقول تعالى:{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 4.
الدليل الرابع: أن الخضر بعد أن فسّر لموسى حقيقة الأحداث التي اعترض عليها، قال:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 5، ففي هذا بيان أنه تلقى الأمر من الله ونفّذه، شأن الأنبياء جميعا حيث يتبعون الوحي في كل تصرفاتهم.
الدليل الخامس: أن الأفعال التي أقدم عليها الخضر، لا يقدم عليها إلا متمكن من حقيقتها ونتائجها، وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى6.
1 سورة هود آية: 63.
2 سورة مريم آية: 53.
3 سورة الكهف آية: 65.
4 سورة يوسف آية: 68.
5 سورة الكهف آية: 82.
6 تفسير القرطبي ج11 ص16، ورجح القرطبي نبوته، ونسب القول به إلى الجمهور.
ويذهب القشيري1، وغيره إلى أن الخضر ليس نبيا، وحجة هؤلاء أن الخضر نفسه لم يخبر موسى عليه السلام بأنه رسول من الله، ولم تثبت نبوته بدليل قطعي
…
وأقصى ما يقال فيه أنه ولي من أولياء الله الصالحين، والأولياء عباد صالحون لله تعالى، والمراد من الرحمة الولاية، وللولي كرامات خارقة للعادة تكريما له، وتأكيدا على صلاحه، والعبودية اسم لكل الآدميين.
وقد اتبع موسى عليه السلام وهو رسول، الخضر وهو ولي؛ ليتعلم منه العلم، والتواضع، وتقدير العلماء، وليس بمانع أنه يهب الله للولي علما لم يهبه لرسوله.
وأرى أنه لم يكن نبيا، حيث لا مانع من تفضّل الله على من يشاء من عباده، بما يشاء، وفق حكمته وعلمه، والرحمة تفيد معنى النبوة، والولاية، والنعمة، وليس معنا دليل يخصص واحدة دون الأخرى.... وكونه وليا أقوى في معاتبة موسى، وأحسن في توجيهه؛ ليتعلم منه مع كونه أقل منه، ويستفيد ضرورة التواضع، وبذلك الجهد في تحقيق الأماني الطيبة، والغايات المشروعة، ولا يصح أن ننسب النبوة لشخص إلا بدليل قطعي، ولا دليل هنا.
وسمي الرجل بالخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء، يروي الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما سمي الخضر بهذا الاسم؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء"2.
الأمر الثاني: حياة الخضر وموته
ذهب بعض الناس إلى القول بأن الخضر حي إلى الآن، وأنه التقى مع بعض المتصوفة، وأنه موجود في كل زمان، ودائما هو ينتقل من مكان إلى مكان3.
1 انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج15 ص136.
2 سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب من سورة الكهف ج5 ص313.
3 شرح النووي على صحيح مسلم ج15 ص136.
وهذا كلام لا أصل له، ولا دليل عليه، بل الأدلة تردّه، وهي:
الدليل الأول: يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1، والآية صريحة في الدلالة على أن البشر جميعا يموتون ولا يخلدون، والخضر من البشر، فموته مقرر ثابت.
الدليل الثاني: يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2، والآية تؤكد أن الله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي، أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء، وينصره
…
وهذا يستلزم أخذ الميثاق عليهم لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم النبيين، فحق على كل من يدركه أن يؤمن به وينصره، فلو كان الخضر حيا في زمانه، لما وسعه إلا اتباعه، والاجتماع به، والقيام بنصره، ولم يثبت بدليل أنه التقى برسول الله، أو اجتمع به3، والولي هنا كالنبي.
الدليل الثالث: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر: "تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة، تأتي عليها مائة عام وهي يومئذ حية" 4، وهذا الحديث يقطع بوفاة الخضر إن لم يكن قبل الإسلام، فقبل مائة العام المذكورة.
الأمر الثالث: المراد بالعلوم اللدنية
إدراك حقائق الأشياء تصور، أو تصديق؛ لأن الإدراك إن تضمن حكما، فهو
1 سورة الأنبياء آية: 34.
2 سورة آل عمران آية: 81.
3 البداية والنهاية ج1 ص299.
4 صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب فضائل الصحابة ج16 ص91.
التصديق، كقولنا:"العلم واجب"، وإن لم يتضمن حكما فهو التصور، كإدراك العلم في ذاته.
والتصور والتصديق، إما أن يحصل بلا كسب وطلب، وبشكل تلقائي، كالشعور باللذة، والحكم بأن الوالد أكبر من ابنه، وهذا أمر عادي يقع لكل الناس ما عدا المجانين
…
وإما أن يحصل الإدراك بكسب وطلب، فإن كان طريقه مدارسة العلوم النظرية الموصلة إلى المجهول واكتساب المعارف، كأحكام الفقه، وقواعد النحو، واكتساب ملكة الحكم، والتمييز بين المسائل، فهو علم عادي
…
وإن كان طريقه المجاهدات الروحية، والورع، والتقوى، والإقبال على الله تعالى، وصاحب هذا الطريق يجاهد نفسه وشهوته، ويستمر في الاستقامة والعبادة، حتى يتفضل عليه مولاه بالعطاء، كطارق بالباب يستمر في الملازمة والطرق حتى ينفتح له الباب
…
وهذا يستمر في تدبر أسرار الخلق
…
حتى ينجلي أمامه الحق، وتأتيه الأنوار الإلهية، وتمده بالفتوحات العقلية التي هي عطاء إلهي محض، وهي المرادة من قوله تعالى:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} 1، وعنها يقول الله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 2.
وعلى ذلك فنيل العلم من الله طريقه هو الورع، والزهد، والتقوى، ومداومة الطاعة، والانقياد
…
أما ما يقال عن الجذب، والمكاشفة لطائفة خاصة، فهو قول غير مسلم، يقول الله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.
1 سورة الكهف آية: 65.
2 سورة البقرة آية: 282.
3 سورة البقرة آية: 257.
وقصة الخضر في مجملها تشير إلى بعض الفوائد، وأهمها:
أ- ضرورة الاتباع:
والمراد بالاتباع الالتزام بمنهج الله أمرا ونهيا، وترك الاجتهاد العقلي فيما ورد فيه نص ديني؛ لأن الاجتهاد مع النص لا يجوز.... وسبب ذلك أن منهج الله قائم على علم دقيق، شامل، فهو سبحانه يعلم حقائق الأشياء وسائر المخلوقات، ويعلم الغايات الحسنة للإنسان، ويعلم الطريق الموصل إلى الغاية الصحيحة، فإذا أمر بأمر، أو نهى عن شيء وجب الالتزام بما أمر ونهى؛ رعاية للمصلحة، وتحقيقا للخير الذي يتمناه الإنسان
…
أما علم الإنسان فهو محدود بالمكان، وبالزمان، وبجزئية معينة؛ ولذلك فهو عاجز عن رسم الطريق، وعاجز عن تحديد الهدف الكلي، الخير.
ومن هنا وجب الاتباع، ولزم اجتناب الابتداع.
وإذا لم يوجد نص في مسألة ما، وجب الاعتماد على المبادئ العامة، وروح الدين، والتقيد بما أحل الله تعالى، وسؤال الله التوفيق والسداد.
ب- أهمية العلم والتعلم:
لما عاتب الله موسى عليه السلام توجه موسى عليه السلام إلى الرجل الذي أعطاه الله علما من لدنه؛ ليتعلم منه، رغم أنه رسول يوحى إليه، وأبدى للرجل احترامه والتواضع له، بقوله:{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ، فهو يستأذنه، ويعرفه بما يريد، ويحدد له الرغبة في أن يتبعه حتى يتعلم، ويتبعه أينما سار، وكيفما عمل، وفي أي موضوع تحدث فيه.... ويتبعه ليتعلم منه الأمور التي علمها الله له، ويجهلها موسى، وبذلك تخلق بخلق طالب العلم أمام أستاذه القدير.
ج- عدم التسرع في الحكم:
برغم أن الرجل حذر موسى من الحكم المتعجل، وحثه على الصبر، وعدم الاعتراض حتى يشرح له أسباب أفعاله، رغم ذلك اعترض موسى عليه السلام ولم يصبر
ولذا فارقه الرجل، ووضح الله الأسباب الحقيقية لأفعاله، فلما عرفها موسى تعلم من خطئه، ووقف على ضرورة الصبر، وعدم استعجال الخبر، وضرورة الوفاء بالوعد والاتفاق.
د- سعادة الإنسان في معية الله:
وضّح الخضر أسرار ما فعل، وبيّن أنه خرق السفينة ليحفظها للمساكين من الملك الظالم، وأنه قتل الغلام لكفره حتى لا يرهق أبويه ويجرهما إلى المعصية والكفر، وأن تحت الجدار كنزا، رأى حمايته لأصحابه حتى يكبر اليتامى
…
وبهذا ظهرت أهمية ما فعل الخضر، واتضح أن الله تعالى أمر الخضر بهذه الأعمال ليحافظ على حقوق اليتامى والمساكين والصالحين، وقد قام الخضر بهذه الأفعال من غير إحاطة أصحابها بها.
إن معية الله، وإعانته لخلقه، تحقق للإنسان الخير والسعادة، وواجب على الإنسان أن يجتهد ويعمل لاستنزال رحمات الله تعالى والتمتع في معية الله الدائمة، وبذلك يعيش سعيدا موفقا.
هـ- أثر صلاح الآباء على الأبناء:
صلاح الآباء ينفع أبناءهم وذرياتهم، وقد رأينا الخضر يبرر لموسى عليه السلام سبب إقامته للجدار، ويوضح أنه لحماية الكنز لليتيمين حتى يكبرا؛ لأن أباهما كان صالحا، يقول الله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} 1.
1 سورة النساء آية: 9.
ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين
…
ويبدو أن الإسرائيليين شعروا بعجزهم في الالتزام بهذا الميثاق، فحاولوا التخلص منه بعد إقراره، لتعارضه مع طبيعتهم، ونفسياتهم، لكن موسى عليه السلام لم يقبل منهم التردد؛ لعلمه أنهم لا يطيقون الحق، ولا بد من حملهم عليه حملا، فأمر الله الملائكة فرفعت الجبل فوق رءوسهم، حتى صار غمامة فوقهم، وقال لهم موسى: إما أن تقبلوا ما في الألواح، وإلا سقط عليكم الجبل، فخافوا، وقبلوا الألواح، وسجدوا لله تعالى.
يقول الله تعالى عن هذه الحادثة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، ودلالة الآية ظاهرة في أنهم أطاعوا الله بالخوف، ولولا ذلك لاستمروا على المعصية والتمرد.
المسألة الثامنة: عدوانهم يوم السبت
حرم الله على اليهود صيد السمك يوم السبت؛ ليختبر صدقهم في تدينهم، ومدى إخلاصهم في الطاعة والانقياد، وقدر الله أن يكون النهر في يوم السبت مليئا بالحيتان، تأتيهم مشرعة، بيضاء، سمانا، لا يُرَى الماء من كثرتها، وتغيب عنهم في الأيام الأخرى، فاستمروا على الطاعة مدة، إلا أنهم لم يصبروا طويلا، وتحايلوا في المعصية، فمنهم من كان يصطاد يوم السبت، ويترك صيده في الماء مربوطا بالحبال، ليأخذه يوم الأحد، أو في يوم آخر، ومنهم من حفر جدولا صغيرا، يحبس فيه السمك يوم السبت، ويأخذه في الأيام الأخرى، فنصحهم فريق منهم، فلم يسمعوا لنصحهم
1 سورة البقرة الآيات: 63، 64.