الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: حركة موسى بالدعوة لقارون
قارون من بني إسرائيل، يقول الرواة: إنه كان ابن عم موسى، أو ابن خالته، استماله فرعون إلى جانبه، وخصه بوزارة المال، وأصبح يمثل مع فرعون وهامان ثلاثي الكبر، والغرور، والاستعلاء على المصريين والإسرائيليين على حد سواء، ففرعون استعلى وتكبر بملكه، وسلطانه، وخضوع الناس له، وهامان استكبر، وطغى بقوته، وقربه من فرعون، وقيامه بشئون الجند، والبناء، والأمن
…
وقارون تكبر، واغتر بماله، وتحكمه في شئون المال.
جاء موسى عليه السلام إلى الثلاثة، ودعاهم إلى الله، فأبوا الطاعة، وأصروا على ضلالهم وكفرهم، وأخذوا في تلفيق التهم الكاذبة لموسى عليه السلام يقول الله تعالى:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} 1، ويقول تعالى:{إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} 2.
وانتظر الإسرائيليون من قارون عونا ومساعدة؛ لكونه واحدا منهم، إلا أنه انحاز لفرعون ليدوم له ما هو فيه، وبغى على قومه وظلمهم؛ إرضاء للطاغوت الكبير، يقول تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} 3.
1 سورة العنكبوت آية: 39.
2 سورة غافر آية: 24.
3 سورة القصص آية: 76.
وقد تمكن قارون من استقطاب جماعة من قومة اتبعوه، وكانوا معه؛ ولذلك استمروا في مدحه، وإبداء الإعجاب بما هو فيه، وتمنوا أن يكونوا أغنياء مثله، يملكون بعض ما يملكه؛ لأن الله قد أعطاه من الأموال والكنوز ما لم يعط لغيره، يصورها قول الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} .
فهي لكثرتها تعجز الجماعة من الرجال الأقوياء عن حمل مفاتيح خزانتها، وكان على قارون أن يتجه بالشكر لله تعالى على هذا العطاء، لكنه كفر، وأصابه العجب والغرور.
وقال أتباع قارون المعجبون به: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 1.
لأنه عند مروره وظهوره، كان يحاط بالخدم، والعبيد، والجنود، والزينة، فتمنى الأتباع هذا لأنفسهم، وكانوا يعجبون بكثرة الأموال التي تعجز العصبة القوية عن حمل مفاتيحها.
إلا أن فريقا من قومه، أخلصوا له النصح، وقالوا له ما حكاه الله تعالى:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2، وقد حدد هؤلاء نصحهم لقارون في عدد من النصائح:
1 سورة القصص آية: 79.
2 سورة القصص الآيات: 76، 77.
الأولى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، ومرادهم بالنهي عن الفرح، البطر والعجب المؤدي إلى الكبر، وإلى الوقوع في المعاصي، وإلى نسيان حق الله تعالى، في الوقت الذي تحتاج فيه النعمة إلى شكل المنعم؛ لتدوم وتزيد.
الثانية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} ، ومعناه ضرورة استعمال المال في طاعة الله، وإنفاقه في الأوجه المشروعة الخيرة؛ ليكون المال وسيلة لكسب متع الدنيا، وفي نفس الوقت الحصول على ثواب الآخرة؛ ليعيش الغني سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة.
الثالثة: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ومرادهم أن المال إذا صلح صاحبه، يتمتع به في الدنيا، فقد أباح الله تعالى مباهج الحياة، ودعا الإنسان إلى الاستفادة بماله في كافة زينة الدنيا المشروعة؛ لأنه لو بخل على نفسه، أو قصر فيما وجب عليه من نفقة، وصدقة
…
أو غيرها؛ يكون آثما، يحاسبه الله على تقصيره في هذا المجال.
الرابعة: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ومرادهم من هذه النصيحة، أن يجعل في ماله نصيبا للفقراء والمحتاجين، وأن يحسن إليهم، فإن المال مال الله، أحسن الله به إلى الإنسان، وواجب على الإنسان أن يستفيد من هذا الدرس وهو يتصرف في المال، فيحسن إلى غيره كما أحسن الله له.
الخامسة: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ، ومرادهم بهذه النصيحة ألا يجعل المال، الذي هو عطاء الله تعالى، سببا للظلم، والكبر، ونشر الفساد بين الناس؛ لأن الله لا يحب المفسدين، وسينزل العقوبة بهم ويهلكهم، ويهلك مالهم، وكل ما يساعدهم على الفساد.
إن هذه النصائح صادرة من عقول مخلصة، وعلماء عارفين بالحق، وقد قصدوا بدعوتهم قارون؛ لأنه قريب لهم.
إن قارون كان قد استمرأ الكبر، وسيطر عليه حب المال، وامتلأ بالغرور والظلم، فرد على قومه بجفاء متجاهلا ما يعرفه من قدرة الله تعالى التي تجلّت بإهلاك الذين سبقوه وكانوا أكثر منه مالا، وعددا، وقوة، يقول الله تعالى:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 1.
وكما نصح العلماء والعقلاء قارون اتجهوا بالنصيحة لأتباعه، وقالوا لهم:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} 2.
فدعوا عليهم بالهلاك، بعد أن أصروا على تبعيتهم، وعرفوهم بأن ثواب الله تعالى للمؤمنين أفضل من كنوز الأرض وأموال الدنيا، والمستحق لهذا الثواب هو المؤمن الصابر، ونزلت عقوبة الله بقارون، وخسف الله به، وبأمواله الأرض، ولم يجد نصيرا ينصره أو معينا يساعده، وعجزت أمام قدرة الله كل القوى، وندم أتباعه على موقفهم، وأقروا في النهاية بأن الأرزاق بيد الله تعالى، واتبعوا موسى، واعترفوا بأن الله نجاهم ولم يخسف بهم الأرض مع قارون، يقول الله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 3.
1 سورة القصص آية: 78.
2 سورة القصص آية: 80.
3 سورة القصص الآيات: 81، 82.
وبنهاية قارون يسجل القرآن الكريم نهاية أحد المفسدين، الذين حاربوا الله في الأرض، وسوف يلقى عقوبته الأشد في الآخرة، يقول الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1.
إن قصة قارون تعد نموذجا للإنسان، حينما تلعب به شهوة السلطة، أو شهوة المال. إن هذه الشهوة وأمثالها تدفع صاحبها إلى الانفصال عن أصله وتراثه، كما فعل قارون، فهو إسرائيلي، إلا أنه بغى عليهم بسبب المال والجاه الذي كان يعيشه مع فرعون، وأيضا فإنها تصيب الإنسان بالغرور، والكبرياء، والظلم، وتجعله ينسى الحقيقة، ولا يستجيب لداعيها، ولا يبحث عنها، وعلى العاقل أن يحذر من فتنة المال والقوة، وأن يؤمن بالله تعالى، ويقر له بالفضل، ويؤمن به، ويتوكل عليه؛ لينال نصيبه في الدنيا وفي الآخرة.
1 سورة القصص آية: 83.