الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه
مدخل
…
المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه
أعلن الله ميلاد الإنسان، وسط عالم من الملائكة، وحمله مسئولية الخلافة في الأرض من اللحظة الأولى، وفضله بمجموعة من الطاقات، والملكات ليعمر الكون، ويقوم بدوره عبدًا لله تعالى.
ولم يرتض إبليس هذا الوضع المميز لآدم وبنيه فطلب من الله تعالى أن ينظره إلى يوم القيامة؛ ليعيش بين الآدميين، يزين لهم، ويفتنهم، ويحاول إضلالهم.
وبدأت معركة في الأرض بين الإنسان وإبليس، ستبقى مستمرة إلى يوم القيام.
وأراد الله بهذه المعركة أن يتميز الآدميون، يظهر الطيب منهم، والخبيث ليكون الحساب بعد، على عملهم وعطائهم.
إن إبليس وذريته يعملون في جد، وخفاء، ولهم قدرة على الوسوسة والإغواء، ومعهم إمكانية الحياة مع الإنسان وفي داخله، ولذلك هو مستمر في عمله، وعدوانه.
وحتى لا يكون للإنسان عذر في هذه المعركة عرف الله الإنسان بعمل إبليس وذريته، وحدد له الغاية التي يسعى لها، والطرق التي يعمل من خلالها، والخدع والدسائس التي يستفيد بها.
وأرسل الله رسله للناس يدعون إلى الحق، ويقنعون بالدليل، ويحددون الوسائل التي ينهزم بها إبليس وبنوه.
وتتابع مجيء الرسل عليهم السلام للناس، واستمرت المعركة، وتجلت خلالها طبائع الناس، وظهرت خفايا النفوس البشرية، وأصبحت صفحة مكشوفة، تحدد الملامح، وتبين أنسب الطرق للتعامل معها.
ومما يؤكد حقيقة هذه الطبائع، وأصالتها في الناس، تكررها مع أقوام الرسل جميعا رغم بعد المكان، واختلاف الزمان.
إن الوقوف على هذه الحقائق المستفادة من دعوات الرسل في القرآن الكريم تعطى فؤاد كثيرة للدعاة إلى الله دائما؛ لأنهم بعد علمهم بطبائع الناس يمكنهم التوجه إليهم بصورة ملائمة، مؤثرة.
ندرك من قصة خلق الإنسان في بدايته الأولى أنه مخلوق عجيب، أودع الله فيه كثيرا من الأسرار، فهو مخلوق مزود بطاقات عديدة، ولعل أهمها طاقة المعرفة التي تمكنه من معرفة الكائنات من حوله، والتأمل، والنظر فيها بعمق، وتمكنه من الحفظ والتذكر، والتحليل، والاستنباط.
ومن طاقات الإنسان قوة الإرادة التي تغلب شيئا على شيء، وتحدد المقصود، وتدع سواه.
ومن طاقات الإنسان القوة الفاعلة التي تحرك جوارحه للعمل، وتنشط همته للإنتاج، وبهذا الفعل تكون صورته في الناس.
إن القوة الفاعلة نتاج طبيعي لقوة العلم، وقوة الإرادة، وهذه القوى تحدد قدر الإنسان في الحياة.
ومن عجائب الإنسان ازدواجية القيم التي يتمتع بها، فلديه مساحة واسعة للخير، والحب، والأمل، والتعاون، والتفاؤل، والتجرد، ونكران الذات.... وفي نفس الوقت يمتلك قيما مضادة كالشهوة، والكراهية، والتشاؤم، والأنانية، والانعزال.
يقول الأستاذ/ محمد قطب: "من عجائب التكوين البشري وجود خيوط متقابلة، متوازنة متحاورة في النفس، مختلفة في الاتجاه.... كأنها أوتار، متقابلة تشد الكيان كله، وتربطه من كل جانب يصلح للربط"1.
1 منهج التربية الإسلامية ج1 ص154، 155.
هذا التكوين البشري يحتاج إلى معرفته المربون والدعاة، ليتعاملون مع الإنسان على أساس وجود هذه الاتجاهات المتقابلة فيه.
إن الكفر، والمعصية عبارة عن تغلب قوى الشر، والفساد، على غيرها في الإنسان لسبب ما، والدعاة عليهم أن لا ييأسوا من كفر كافر، أو فساد ضال، فأمامهم جانب خير، عليهم أن يبرزوه في الإنسان، ويقووه، ويعتمدوا على معطياته، فما التربية في الحقيقة إلا توجيه لعناصر الإنسان نحو غاية مقصودة بطريقة ترضي، وتقنع، وبذلك يضعف الكفر، وينتهي العصيان.
ليس الإنسان نمطا واحدا لا يتغير، وإنما هو كائن، قابل للتغيير والتبديل.... وكثيرا ما تتغير عواطف، وتتبدل اتجاهاته.... وقد رأينا كيف انتقل الإنسان من عالم الإيمان إلى الضلال، أو آمن بعد كفر.... وذلك يعد دليلا عمليا للدعاة، يدفعهم إلى العمل والأمل في خدمة الدعوة والناس.
ومن حقائق الإنسان العامة: أن التغير الحقيقي الذي يعايشه يكون من داخله في الأساس؛ لأن الإنسان يحيا بروحه ويشعر بذاته من خلال شعوره، وفكره، وإذا تمنى أمرا، أو أحبه، أو رضي به فإن هذه الجوانب تبدأ من روحه، وعقله، وتنعكس تلقائيا على جوارحه وسلوكه.
إن العقل هو أساس الاقتناع، والرضى هو رأس العمل.... ولذا كان الباطن هو قائد البدن، ومنه يكون التغيير.
إن قيم الخلق، والسمو، والتقدير تأتي من العقل، ولكنها تظهر عمليا على الجوارح.
ولهذا كان على الدعاة تربية النفوس، ومخاطبة العقول بالبرهان المقنع، والقول الحكيم ليصلوا لمرادهم.
إن الإنسان يتميز على سائر الكائنات بالتفكير العقلي، والاختيار الحر، والإرادة الطليقة،.... ولذلك ينهزم كل من يتعامل معه بعيدا عن هذه الحقائق.
وقضى الله للإنسان أن يكون عابدا باختياره، ولذلك جعل محل الإيمان النية والقصد الذي لا يطلع عليه مخلوق، على أن يشهد له النطق، وتؤكده الأعمال.... وأي إيمان لا ينبع من القلب لا قيمة له؛ لأنها في حكم الله نفاق حركة الخوف، وكذب لا يقبله الله تعالى.
ومن حقائق الإنسان العامة أن قواه العقلية، الباطنية، تجد نفسها دائما أمام خطين متعارضين، أحدهما يدعوه إلى الرفعة، والخير، وحسن الخلق
…
والثاني يدعوه إلى الجشع، والمادة والشهوة، وسوء الخلق.... وذلك معنى قوله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 1 وقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2.
يقول الإمام القرطبي: "النجدان هما طريق الخير، وطريق الشر، ويرى أن كل نفس بشرية خلقها الله تعالى هيأها وعرفها طريق الفجور، وطريق التقوى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآيات يدعو ربه ويقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من دساها، أنت وليها ومولاها" 3.
هذه الحقيقة هي مدخل الشيطان إلى الإنسان، فعن طريقها يزين الشهوة، ويجمل الشر، ويهون من شأن المعصية، ويستمر في إغوائه حتى يجعل للشر في النفس قوة، وبذلك يتمكن من إضلال صاحبه.
وعلى الدعاة أن يتوجهوا إلى جانب الخير في الإنسان، ويستفيدوا به في الهداية والرشاد، ليتغلبوا على عدو الله وعدوهم، ولهذا فهم في حاجة إلى دراسة حقيقة النفس، وما يتصل بها من دراسات للوقوف على طريق مخاطبة الباطن، والتأثير فيه.
1 سورة البلد آية "10".
2 سور الشمس الآيات "7-10".
3 تفسير القرطبي ج2 ص65، 75-76.
إن أهل الضلال في كل زمان، يعملون على يقظة قوى الشر في الإنسان بإباحة الفتنة، ونشر المغريات، وإشعال الغرائز في الإنسان، وتيسير إشباعها بالحرام، ليسهل لهم الإفساد، وإطفاء نور الله في الأرض.... وهم لذلك لا يملون، ولا يضيعون وقتا، أو فرصة.
وعلى المسلمين أن يعيشون هذا الوقع، ويخلصوا في خدمة الحق، ورفع الصواب والهدى، بكل ما أمكنهم من علم، وفقه، وعدة، وقوة.
إن على الدعاة التعامل مع جانب النفس المختلفة، فلا يهملون جانبا ما، ولا يركزون على جانب واحد؛ لأن التوازن يؤدي إلى الرضى، والطمأنينة.
وقد تعامل الرسل عليهم السلام مع الإنسان بحقائقه تلك، وعملوا على دعوته، والتسامى به نحو الخير.
لكن الإنسان مع الرسل لم يكن سويا، بعدما لعب به الشيطان الرجيم، وأضله في حياته كلها، وأبعده بعدا تاما عن هدى الله، ودينه القويم، ولذلك تغيرت صورة الإنسان قديما بعد أن ترك الفطرة، وتمادى في الغي والضلال، وغرته الحضارة والمدنية، بصورة جديدة، وطبع جديد.... كأنه الإنسان المعاصر، المفتون بالمخترعات المادية، وألوان اللذة، بعيدا عن قيود الحق، وتعاليم الدين.
ومن هنا كان الوقوف على طبائع الإنسان كما ظهرت خلال تعامل الأقوام مع الرسل له أهميته.... ومن هذه الطبائع ما يلي: