الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واطمأنت أم موسى على وليدها بعد أن أصابها الهلع يوم أن ألقته في البحر، حيث فرغ قلبها من كل شيء إلا من تذكر وليدها هذا، وقدر الله للصبي أن يعود لأمه، ترضعه في بيتها، وتأخذ أجرتها من مال فرعون، وتتمتع بحماية جنده، وسلطانه.
وخاب حذر فرعون، وقام بتربية الغلام الذي يخاف مجيئه، ويعمل على قتله يوم مولده.
نعم.... إنه الله رب العالمين.
1 سورة القصص الآيات: 10-13.
ثالثا: تربية موسى
أتم موسى مدة الرضاع عند أمه، وبعدها انتقل إلى بيت فرعون؛ لتشرف آسية على تربيته، وترعى شئونه، وصار معروفا بين المصريين أنه ابن فرعون، وكانوا يسمونه موسى بن فرعون، ويعرفون أن الإسرائيليين أخواله من الرضاع.
وحدث وهو صغير أن كانت آسية تداعبه وتلاعبه، فناولته فرعون، فلما حمله أخذ الغلام بلحيته فنتفها، فهمّ بقتله لتصوره أنه هو هو، قالت آسية: إنما هو صبي لا يعقل، ووضعت أمامه ياقوتة حمراء، وجمرة نار، وقدمتهما لموسى الصغير، فمد يده وأخذ الجمرة، فحدثت عقدة لسانه، فدرأت عن موسى القتل بذلك1.
1 الكامل في التاريخ ج1 ص173.
وكبر موسى عليه السلام وصار له شأن في مصر، وكان يأكل مما يأكل فرعون ويلبس من ملبسه، ويركب مركبه، إلا أنه كان يحب العدل، وينفر من الظلم؛ ولذلك عز به بنو إسرائيل وأحبوه، وامتنع القبط عن إذلالهم، وتسخيرهم.
وفي يوم ذهب موسى إلى أطراف مدينة "منف" ووصلها بعد نصف النهار، وقد أغلقت الأسواق أبوابها، ورجع الناس إلى بيوتهم، فوجد رجلين يقتتلان؛ أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، والمراد من شيعته أتباعه وأصحاب مذهبه؛ لأن الإسرائيليين كانوا على شيء من دين يوسف عليه السلام وأما عدوه فهو العابد للأصنام؛ لأن الجميع كانوا يتصورون موسى ابنا لفرعون، ويفسرون تعاطفه مع الإسرائيليين بسبب رضاعته منهم.
اقتتل هذان الرجلان فاستغاث الإسرائيلي بموسى، ورأى موسى أن القبطي معتدٍ، سبَّاب، شتم الإسرائيليين جميعا، فجاء إليه وضربه بقبضة يده، فقضى عليه ومات.
يقول قتادة: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا فأبى، فشتمه، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام ومن المعلوم أن إغاثة المظلوم دين في الملل كلها1. ولم يكن موسى يريد قتله، ولذلك ندم على فعله، وتاب لربه، وطلب من الله المغفرة، ووضح أن هذا من عمل الشيطان، وإغوائه
…
1 تفسير القرطبي ج13 ص260.
2 سورة القصص الآيات: 15، 16.
وبهذا يعرف أن موسى عليه السلام ضرب القبطي بقبضة يده، ووكزه بها، فمات بسببها، فلما قضى عليه، استغفر موسى ربه، وتاب إليه، فقبل الله توبته، إنه هو الغفور الرحيم.
يتحدث المفسرون، والمؤرخون عن عمر موسى في هذا الوقت، ويوردون آراء كثيرة، تبعا لاختلافهم في المراد بالحكم، والعلم، الذي آتاه الله لموسى عليه السلام وذكره في قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 1، فمن يراه النبوة والفقه، يذهب على أن موسى قد بلغ مبلغ النبوة، وهو أربعون سنة، ومن يراه الفهم والإدراك، يذهب إلى أنه كان صغيرا لا يتجاوز ثلاثين عاما، ومنهم كعب الذي يذكر أن عمر موسى في هذا الوقت كان اثنتي عشرة سنة2.
وأرى -والله أعلم- أنه كان صغيرا؛ لأنه عاش عند مدين عشر سنوات على الأقل، وتزوج وعاد إلى مصر مرة أخرى، فأتاه الوحي حين عودته بسيناء في الوادي المقدس، وكلف بالرسالة عندها، وهذا يرجح أنه لم يتجاوز ثلاثين عاما وقت مقتل القبطي.
وعند صباح اليوم التالي أصبح موسى خائفا، يسير بين الناس، ويترقب الأخبار والحوادث، وبينما هو كذلك إذا بالرجل الذي استنصره بالأمس يستغيث به مرة ثانية؛ لينصره على قبطي آخر يقاتله، فرد عليه موسى غاضبا: إنك سيئ التفكير، لا تقدر الأمور كما ينبغي، تشاد من لا تطيقه، وتجلب شر من لا تقدر عليه، وهذا ظاهر في مخاصماتك، ومشاجراتك
…
سمع الإسرائيلي هذا اللوم العنيف من موسى، فاهتم في قتل القبطي، وخاف القبطي من وجود موسى فحذره من
1 سورة القصص آية: 14.
2 تفسير القرطبي ج13 ص261.
مساعدة الإسرائيلي؛ حتى لا يقتله كما قتل نفسا أخرى بالأمس.
والآيات توضح أن الإسرائيلي استغاث بموسى، وأن موسى عنّفه، ويجب أن نعلم أن الذي أراد البطش بالقبطي هو الإسرائيلي وليس موسى، وإنما وجه القبطي كلامه لموسى مخافة أن يساعد الذي هو من شيعته؛ لأن حادثة الأمس صارت حديث المدينة، وأن الملأ علموا أن موسى هو القاتل، وأنهم يجدّون في البحث عنه في كل أرجاء المدينة للقبض عليه وقتله.
أما القول بأن موسى أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، أو بالذي هو من غير شيعته فبعيد، يقول الشيخ العدوي:"ومن البعيد جدا أن موسى يخطئ مرة في تشيعه للذي من شيعته، ويكون من وراء ذلك قتل رجل بدون ذنب، ثم يعاود الخطأ مرة ثانية، بعد يوم واحد من توبته"2!!
وكذلك من البعيد أن موسى يقابل الرجل الذي يستنصره في المرة الثانية ويعنفه بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ثم يساعده مرة أخرى.
والحق أن مرجع الضمير في {أَرَادَ} للإسرائيلي، والضمير في {قَالَ} للقبطي.
وأنقذ الله موسى من فرعون وملئه، بعدما جدّوا في البحث عنه لقتله
1 سورة القصص الآيات: 18، 19.
2 دعوة الرسل ص269.