المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة: - دعوة الرسل عليهم السلام

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌المقدمة

- ‌تاريخ الدعوة واقع ومنهج:

- ‌القسم الأول: دعوات الرسل عليهم السلام

- ‌مدخل

- ‌آدم عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "خلق آدم عليه السلام

- ‌النقطة الثانية: "آدم والملائكة

- ‌النقطة الثالثة": "آدم عليه السلام وإبليس

- ‌النقطة الرابعة": "خروج آدم من الجنة

- ‌النقطة الخامسة": "هابيل وقابيل

- ‌النقطة السادسة": ركائز الدعوة في قصة آدم

- ‌ إدريس عليه السلام:

- ‌نوح عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "التعريف بقوم نوح

- ‌النقطة الثانية": "حركة نوح بالدعوة

- ‌النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة نوح عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة

- ‌الركيزة الثانية: أساسيات الحركة بالدعوة

- ‌الركيزة الثالثة: أثر الإيمان

- ‌الركيزة الرابعة: حاجة الدعوة إلى المصير

- ‌هود عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "التعريف بقوم هود

- ‌النقطة الثانية": "حركة هود بالدعوة

- ‌النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة هود

- ‌الركيزة الأولى: العقيدة أساس الدعوة

- ‌الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة

- ‌الركيزة الثالثة: الرسول قدوة للدعاة

- ‌الركيزة الرابعة: ضرورة الدين للحضارة:

- ‌الركيزة الخامسة: ضعف الإنسان وقدرة الله

- ‌صالح عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "التعريف بقوم صالح

- ‌النقطة الثانية": "حركة صالح بالدعوة

- ‌النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة صالح

- ‌الركيزة الأولى: طبيعة التمدين

- ‌الركيزة الثانية: دعوة أهل الحضارة

- ‌إبراهيم عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "التعريف بإبراهيم عليه السلام

- ‌النقطة الثانية": "الأماكن والأقوام التي التقى بهم إبراهيم عليه السلام

- ‌النقطة الثالثة: حركة إبراهيم عليه السلام بالدعوة

- ‌مدخل

- ‌ حركة إبراهيم بالدعوة مع أبيه:

- ‌ حركة إبراهيم بالدعوة مع الملك:

- ‌ حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الأصنام:

- ‌ حركة إبراهيم بالدعوة مع عبدة الكواكب:

- ‌النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة إبراهيم عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الركيزة الأولى": "شخصية مبلغ الدين

- ‌الركيزة الثانية": "منهجية الدعوة إلى الله

- ‌الركيزة الثالثة": "وسائل دعوة إبراهيم

- ‌الركيزة الرابعة": "أساليب الدعوة

- ‌لوط عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: التعريف بقوم لوط

- ‌النقطة الثانية": "التعريف بـ "لوط" عليه السلام

- ‌النقطة الثالثة": "حركة لوط عليه السلام بالدعوة

- ‌النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة لوط

- ‌الركيزة الأولى: العلاقة بين الدعاة

- ‌الركيزة الثانية: منطق أعداء الحق:

- ‌الركيزة الثالثة: الاهتمام بعلاج المرض وأسبابه

- ‌الركيزة الرابعة: أساسيات في الدعوة

- ‌شعيب عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": "التعريف بشعيب عليه السلام

- ‌النقطة الثانية": "التعريف بقوم شعيب

- ‌النقطة الثالثة": "حركة شعيب عليه السلام بالدعوة

- ‌النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة شعيب عليه السلام

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة بالمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: تكامل المنهج الإلهي

- ‌الركيزة الثالثة: منطلقات الدعوة

- ‌ إسماعيل عليه السلام:

- ‌إسحاق عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌التعريف بإسحاق عليه السلام:

- ‌ يعقوب عليه السلام:

- ‌يوسف عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى: التعريف بالمجتمع التي عاش فيه يوسف عليه السلام

- ‌النقطة الثانية: التعريف بيوسف عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌أولًا: يوسف وإخوته

- ‌ثانيًا: يوسف في بيت عزيز مصر

- ‌ثالثًا: يوسف في السجن

- ‌رابعا: يوسف والحكم

- ‌خامسًا: يوسف وبنو إسرائيل

- ‌النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يوسف عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الركيزة الأولى": تربية الرسول الداعية

- ‌الركيزة الثانية": أخلاق الرسول الداعية

- ‌الركيزة الثالثة": "الحرص على الدعوة

- ‌الركيزة الرابعة": منهجية الدعوة

- ‌أيوب عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى": التعريف بـ "أيوب" عليه السلام

- ‌النقطة الثانية: ركائز الدعوة في قصة أيوب عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الركيزة الأولى: تكامل شخصيته مبلغ الدعوة

- ‌الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله

- ‌الركيزة الثالثة: الأخذ بالأسباب المشروعة

- ‌الركيزة الرابعة: أهمية الدعاء

- ‌ ذو الكفل عليه السلام:

- ‌يونس عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: التعريف بقوم يونس

- ‌النقطة الثانية": التعريف بـ "يونس" عليه السلام

- ‌النقطة الثالثة: ركائز الدعوة في قصة يونس

- ‌الركيزة الأولى: ضرورة الصبر والتحمل

- ‌الركيزة الثانية: الإخلاص في العبودية

- ‌موسى عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: التعريف بقوم موسى

- ‌النقطة الثانية: التعريف بموسى عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌أولا: ولادة موسى

- ‌ثانيا: رضاعة موسى

- ‌ثالثا: تربية موسى

- ‌رابعا: موسى عند مدين

- ‌خامسا: تكليف موسى بالرسالة

- ‌سادسا: قيامه بالدعوة

- ‌سابعا: وفاة موسى

- ‌النقطة الثالثة: حركة موسى عليه السلام بالدعوة

- ‌أولا: حركة موسى بالدعوة لفرعون

- ‌ثانيا: حركة موسى بالدعوة للإسرائيليين

- ‌ثالثا: حركة موسى بالدعوة لقارون

- ‌النقطة الرابعة: بنو إسرائيل، واليهود

- ‌النقطة الخامسة: ركائزة الدعوة في قصة موسى عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الركيزة الأولى: التوحيد أساس الدعوة

- ‌الركيزة الثانية: ضرورة الاستعداد للدعوة

- ‌الركيزة الثالثة: خصائص البلاغ المبين

- ‌الركيزة الرابعة: أساسيات النجاح في الدعوة

- ‌الركيزة الخامسة: شخصية المرأة في الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة:

- ‌الركيزة السابعة: تجنب الظلم والظالمين

- ‌الركيزة الثامنة: أهمية العلم

- ‌ هارون عليه السلام:

- ‌ إلياس عليه السلام:

- ‌ اليسع عليه السلام:

- ‌داود عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: حالة الإسرائيليين قبل بعث داود

- ‌النقطة الثانية: التعريف بداود عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌ تليين الحديد له:

- ‌ تأويب الجبال والطير معه:

- ‌وفاة داود عليه السلام:

- ‌النقطة الثالثة: داود عليه السلام والقضاء

- ‌مدخل

- ‌الحادثة الأولى: حادثة الغنم

- ‌الحادثة الثانية: أكل الزراعة

- ‌الحادثة الثالثة: التنازع حول الولد

- ‌النقطة الرابعة: ركائز الدعوة في قصة داود عليه السلام

- ‌الركيزة الأولى: شجاعة الداعية

- ‌الركيزة الثانية: حسن عرض الدعوة

- ‌الركيزة الثالثة: التأني في الدعوة

- ‌الركيزة الرابعة: تعاون الدعاة

- ‌سليمان عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: التعريف بسليمان عليه السلام

- ‌النقطة الثانية: معجزات سليمان عليه السلام

- ‌تسخير الريح

- ‌ تسخير الجن:

- ‌ إسالة النحاس:

- ‌ محادثة ما لم ينطق:

- ‌النقطة الثالثة: مملكة سليمان عليه السلام

- ‌العقيدة الصحيحة

- ‌ العدل في الحكم:

- ‌ صيانة حقوق الرعية:

- ‌ موقفه من صاحب الرأي الآخر:

- ‌النقطة الرابعة: سليمان وملكة سبأ

- ‌النقطة الخامسة: فتنة سليمان "عليه السلام

- ‌النقطة السادسة: وفاة سليمان عليه السلام

- ‌النقطة السابعة: ركائز الدعوة في قصة سليمان عليه السلام

- ‌الركيزة الأولى: الدين والحضارة

- ‌الركيزة الثانية: أثر القادة في توجيه الرعية

- ‌الركيزة الثالثة: الدعوة قبل القتال

- ‌الركيزة الرابعة: حقائق عالم الجن والسحر

- ‌الركيزة الخامسة: طرق الوقاية من الجن والسحر

- ‌النقطة الثامنة: ضياع مملكة إسرائيل بعد سليمان عليه السلام

- ‌زكريا عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌الحادثة الأولى: كفالة مريم

- ‌الحادثة الثانية: ولادة يحيى

- ‌يحيى عليه السلام:

- ‌عيسى عليه السلام

- ‌النقطة الأولى: ولادة عيسى عليه السلام

- ‌النقطة الثانية: معجزات عيسى عليه السلام

- ‌النقطة الثالثة: رسالة عيسى عليه السلام

- ‌النقطة الرابعة: رد ما يقال في ولادة عيسى عليه السلام

- ‌مدخل

- ‌أولا: المسيح ابن الله

- ‌ثانيا: كلمة الله

- ‌ثالثا: عيسى روح الله

- ‌النقطة الخامسة: حياة المسيح ونهايته في الأرض

- ‌القسم الثاني: الركائز الرئيسية في الدعوات الإلهية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: تكريم الإنسان

- ‌الإنسان هو الإنسان من البداية

- ‌ الإنسان مخلوق له دين:

- ‌المبحث الثاني: الغاية من خلق الإنسان

- ‌المبحث الثالث: الدعوة إلى التوحيد

- ‌القسم الأول: توحيد الأسماء والصفات

- ‌القسم الثاني: توحيد الربوبية

- ‌القسم الثالث: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الرابع: الدعوة إلى العبادة

- ‌المبحث الخامس: الدعوة إلى مكارم الأخلاق

- ‌الاتجاه الأول: الدعوة إلى الأخلاق مع بدء الدعوة إلى التوحيد

- ‌الاتجاه الثاني: التركيز على الرذائل المتفشية

- ‌الاتجاه الثالث: بيان عاقبة الأخلاق

- ‌المبحث السادس: إثبات رسالة الرسل

- ‌المبحث السابع: إثبات البعث

- ‌المبحث الثامن: شخصية مبلغ الدعوة

- ‌المبحث التاسع: خصائص الإنسان وطبائعه

- ‌مدخل

- ‌ استعلاء السلطة:

- ‌ كبرياء الملأ:

- ‌ استسلام العامة:

- ‌المبحث العاشر: الحركة بالدعوة

- ‌مدخل

- ‌أهم ملامح منهج الرسل:

- ‌من وسائل الرسل في الدعوة:

- ‌أساليب دعوة الرسل:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة:

وها هن بنات شعيب يقمن بسقي الغنم، ورعيها في أدب، ووقار.

وأخيرا تظهر امرأة فرعون مؤمنة، صادقة، تعلن إيمانها بالله تعالى، وتتبرأ من فرعون وملئه وأمواله وجاهه، وتعيش لله رب العالمين.

إن بروز المرأة بهذه الصورة الطيبة، يعرف بدور المرأة في المجتمع، ويؤكد أنها مسئولة، ومكلفة، وقادرة على خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وقد يتوارى الرجل أمام جهودها، وعملها.

والدين يكرم المرأة كما يكرم الرجل، فبعضهم من بعض، وكلاهما له دوره ووظيفته في الحياة.

وعلى الدعاة أن يدركوا أهمية دور المرأة في المجتمع، ويخصوها بالدعوة، فلها تأثيرها على أولادها، وفي بيتها وبيئتها، وفي أحيان كثيرة يتأثر البيت كله بامرأة واحدة فيه، بسبب إخلاصها، وصدقها.

ص: 380

‌الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة:

يحتاج المؤمن عموما، والدعاة خاصة إلى معرفة الحياة الدنيا، والحياة الأخرى معرفة يقينية؛ ليتصرفوا وهم في الحياة الدنيا على ضوء هذا اليقين بما يفيدهم، ويحقق مصالحهم في الدنيا، والآخرة.

لقد نصح العقلاء قارون بأن يستخدم النعم التي أنعم الله بها عليه، وأن يقصد بها تحقيق الخير في الآخرة، ولا ينسى حظه في الدنيا، قال له قومه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.

1 سورة القصص آية: 77.

ص: 380

ومجمل هذه النصيحة أن يبذل عطاء الله في طاعة الله، وبذلك يتمتع بالحياة الدنيا، وفي نفس الوقت يكون عمله كله للآخرة، وبهذا فسر ابن عباس، والجمهور قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، فقالوا: إن معناها: لا تضيع عمرك في الدنيا في غير عمل صالح، فنصيب الإنسان في الدنيا هو عمره، والتعمير الحقيقي يكون بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو قنطرة الخير في الآخرة1

ولذلك نصحوه بالإحسان في الدنيا، والمراد به التوجه الصادق بالعمل الصالح لله رب العالمين مع الصدق، وخلوص القصد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإحسان، قال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"2.

إن المؤمن الحقيقي يرى الآخرة كما يرى الدنيا، ويعرف القيمة الحقيقية لكل منهما.

فالدنيا دار ممر تنتهي بالموت، ومتاعها قليل، وخيرها لا يدوم، ومنغِّصاتها كثيرة، وقد يختلط خيرها بشرها؛ كمال يضيع في المرض، وسلطان يضعفه الخوف، وجمال يغيره النشوز والنكد، وجمع تهزمه الكوارث والنكبات

وصدق الله العظيم وهو يصور متع الحياة الدنيا، يقول تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 3.

أما الآخرة فهي دار مقر وخلود، متاعها كثير، وخيرها عميم، خالية من الكدر والمنغصات، وليس فيها ضرر البتة، ويكفي أن الإنسان يتمتع فيها بحرية مطلقة، ما يريده يكون، وما يأمله يتحقق. أزواج حسان، وصحب كرام

1 تفسير القرطبي ج13 ص314.

2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل ج1 ص114.

3 سورة الكهف آية: 45.

ص: 381

وغلمان مخلَّدون، وحياة متجددة، ومقام جميل، تحيطه الخضرة، وتمر تحته الأنهار

إن المؤمن في الآخرة يعيش سعادة أبدية، تحيط النعم به من كل جانب، يلمس فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول الله تعالى مشيرا إلى نعيم الآخرة:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.

هذا التصوير الصحيح للدنيا والآخرة، لو صدق به إنسان ما، تصديقا يقينيا لاعتدل عمله، وسلوكه، وخلقه على منهج الله، مالك الدنيا والآخرة.

والعاقل يتساءل: ولِمَ لا يؤمن الإنسان بهذه الحقائق، والدنيا أمامه تجربة ماثلة، يشاهد من خلالها الصورة التي ذكرها القرآن الكريم؟

ويعد صدق القرآن الكريم في تصوير الحياة الدنيا، دليلا على صدق تصويره للآخرة، وبخاصة أن الموت حق، والكل يموت حين مجيء أجله.

ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدة على صدقه في كل ما أخبر عنه، ومنها حقيقة الآخرة، فهي الخير، وهي السعادة، وهي أمل المؤمنين، يقول الله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2، ويقول سبحانه:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 3.

هذه الحقائق لم يصدق بها قارون، فاستغرقته الحياة الدنيا، واغتر بنفسه وماله، وظل على كفره حتى أغرقه الله تعالى.

1 سورة البقرة آية: 25.

2 سورة العنكبوت آية: 64.

3 سورة الضحى آية: 4.

ص: 382

أما سَحَرَة فرعون فقد اكتشفوا هذه الحقائق، وقارنوا بين الدنيا والآخرة، وفتح الله بصائرهم، فلم يرتدعوا بتهديد فرعون، بل رحبوا بالموت، والقتل، والصلب؛ لأنه في غايته الكبرى يضيع الحياة الدنيا، إلا أنهم سيفوزون بالحياة الأخرى.

لقد فات أوان تهديد السحرة، وربطت اللمسة الإيمانية مضغة القلب الضئيلة بالقدرة الإلهية اللا نهائية، فإذا الإنسان قوة سامية، تلتصق برب الوجود كله، وتعلو فوق قوى الأرض كلها، وإن تماوجت، وتطاولت، وادعت السلطان، والنفوذ

بهذه اللمسة الإيمانية واجه السحرة فرعون، وقوته، ودولته قائلين:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1.

واكتشفت امرأة فرعون هذه الحقائق، ولامستها بقلبها، وعقلها؛ ولذلك آثرت بيتا في الآخرة، واعتبرت دنيا فرعون بقصوره، وأملاكه، وسلطانه، سجنا ظالما، وطغيانا فاسدا، ونادت الله قائلة:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2.

وهذا المؤمن من آل فرعون يستثيره تآمر فرعون وملئه على رسول الله موسى عليه السلام فيظهر نفسه، ويحدثهم حديث المطمئن، العارف بالله، المتيقن من حقيقة الآخرة، وقيمتها إزاء الدنيا.

1 سورة طه الآيات: 72، 73.

2 سورة التحريم آية: 11.

ص: 383

ولذلك كان يخوِّفهم من زوال سلطان الدنيا وملكها، إذا جاءهم بأس الله تعالى، ويخوفهم من سوء المنقلب في الآخرة، فهو الخسران المبين، وينصحهم بالحق، وهو يقول لهم:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2.

إن الإيمان اليقيني بالآخرة يصلح الحياة الدنيا، ولا يسمح للفساد، أيا كان لونه أو مصدره، أن يسود فيها؛ لأنه سيصطدم حتما بالمؤمنين، ولن يعيش أبدا معهم.

إن مشهد السحرة، وامرأة فرعون، وهم يظهرون استعلاءهم على الكفر والضلال، هو إعلان واضح لحرية العقل، والضمير، حين ينفكّ عن قيود الأرض، وظلمات المادة.

إن هذه المشاهد تؤكد أن انتصار الحق والإيمان، يكون بعد انتصارهما في عالم الفكرة، والعقيدة، وقبل السلوك بالضرورة، كما تؤكد الصلة، والترتيب بين هذين الانتصارين، فلا بد من الانتصار في عالم الضمير قبل الانتصار في عالم الواقع، ولا يعلو أصحاب الحق في الحياة، إلا بعد أن يعلو الحق في قلوبهم على ما عداه، من طمع وشهوة، وحب للمادة، وخلود في الأرض

لا بد أن يتجسد الحق والإيمان في المشاعر والفكر، قبل أن يتحرك في الجوارح، والسلوك.

ليس من الإيمان في شيء أن يتحول الإيمان إلى كلمات يتشدق بها اللسان، والقلب فارغ منها.

1 سورة غافر آية: 29.

2 سورة غافر الآيات: 39، 40. "385".

ص: 384