الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وها هن بنات شعيب يقمن بسقي الغنم، ورعيها في أدب، ووقار.
وأخيرا تظهر امرأة فرعون مؤمنة، صادقة، تعلن إيمانها بالله تعالى، وتتبرأ من فرعون وملئه وأمواله وجاهه، وتعيش لله رب العالمين.
إن بروز المرأة بهذه الصورة الطيبة، يعرف بدور المرأة في المجتمع، ويؤكد أنها مسئولة، ومكلفة، وقادرة على خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وقد يتوارى الرجل أمام جهودها، وعملها.
والدين يكرم المرأة كما يكرم الرجل، فبعضهم من بعض، وكلاهما له دوره ووظيفته في الحياة.
وعلى الدعاة أن يدركوا أهمية دور المرأة في المجتمع، ويخصوها بالدعوة، فلها تأثيرها على أولادها، وفي بيتها وبيئتها، وفي أحيان كثيرة يتأثر البيت كله بامرأة واحدة فيه، بسبب إخلاصها، وصدقها.
الركيزة السادسة: بين الدنيا والآخرة:
يحتاج المؤمن عموما، والدعاة خاصة إلى معرفة الحياة الدنيا، والحياة الأخرى معرفة يقينية؛ ليتصرفوا وهم في الحياة الدنيا على ضوء هذا اليقين بما يفيدهم، ويحقق مصالحهم في الدنيا، والآخرة.
لقد نصح العقلاء قارون بأن يستخدم النعم التي أنعم الله بها عليه، وأن يقصد بها تحقيق الخير في الآخرة، ولا ينسى حظه في الدنيا، قال له قومه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.
1 سورة القصص آية: 77.
ومجمل هذه النصيحة أن يبذل عطاء الله في طاعة الله، وبذلك يتمتع بالحياة الدنيا، وفي نفس الوقت يكون عمله كله للآخرة، وبهذا فسر ابن عباس، والجمهور قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، فقالوا: إن معناها: لا تضيع عمرك في الدنيا في غير عمل صالح، فنصيب الإنسان في الدنيا هو عمره، والتعمير الحقيقي يكون بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو قنطرة الخير في الآخرة1
…
ولذلك نصحوه بالإحسان في الدنيا، والمراد به التوجه الصادق بالعمل الصالح لله رب العالمين مع الصدق، وخلوص القصد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإحسان، قال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"2.
إن المؤمن الحقيقي يرى الآخرة كما يرى الدنيا، ويعرف القيمة الحقيقية لكل منهما.
فالدنيا دار ممر تنتهي بالموت، ومتاعها قليل، وخيرها لا يدوم، ومنغِّصاتها كثيرة، وقد يختلط خيرها بشرها؛ كمال يضيع في المرض، وسلطان يضعفه الخوف، وجمال يغيره النشوز والنكد، وجمع تهزمه الكوارث والنكبات
…
وصدق الله العظيم وهو يصور متع الحياة الدنيا، يقول تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 3.
أما الآخرة فهي دار مقر وخلود، متاعها كثير، وخيرها عميم، خالية من الكدر والمنغصات، وليس فيها ضرر البتة، ويكفي أن الإنسان يتمتع فيها بحرية مطلقة، ما يريده يكون، وما يأمله يتحقق. أزواج حسان، وصحب كرام
1 تفسير القرطبي ج13 ص314.
2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل ج1 ص114.
3 سورة الكهف آية: 45.
وغلمان مخلَّدون، وحياة متجددة، ومقام جميل، تحيطه الخضرة، وتمر تحته الأنهار
…
إن المؤمن في الآخرة يعيش سعادة أبدية، تحيط النعم به من كل جانب، يلمس فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول الله تعالى مشيرا إلى نعيم الآخرة:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.
هذا التصوير الصحيح للدنيا والآخرة، لو صدق به إنسان ما، تصديقا يقينيا لاعتدل عمله، وسلوكه، وخلقه على منهج الله، مالك الدنيا والآخرة.
والعاقل يتساءل: ولِمَ لا يؤمن الإنسان بهذه الحقائق، والدنيا أمامه تجربة ماثلة، يشاهد من خلالها الصورة التي ذكرها القرآن الكريم؟
ويعد صدق القرآن الكريم في تصوير الحياة الدنيا، دليلا على صدق تصويره للآخرة، وبخاصة أن الموت حق، والكل يموت حين مجيء أجله.
ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدة على صدقه في كل ما أخبر عنه، ومنها حقيقة الآخرة، فهي الخير، وهي السعادة، وهي أمل المؤمنين، يقول الله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2، ويقول سبحانه:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 3.
هذه الحقائق لم يصدق بها قارون، فاستغرقته الحياة الدنيا، واغتر بنفسه وماله، وظل على كفره حتى أغرقه الله تعالى.
1 سورة البقرة آية: 25.
2 سورة العنكبوت آية: 64.
3 سورة الضحى آية: 4.
أما سَحَرَة فرعون فقد اكتشفوا هذه الحقائق، وقارنوا بين الدنيا والآخرة، وفتح الله بصائرهم، فلم يرتدعوا بتهديد فرعون، بل رحبوا بالموت، والقتل، والصلب؛ لأنه في غايته الكبرى يضيع الحياة الدنيا، إلا أنهم سيفوزون بالحياة الأخرى.
لقد فات أوان تهديد السحرة، وربطت اللمسة الإيمانية مضغة القلب الضئيلة بالقدرة الإلهية اللا نهائية، فإذا الإنسان قوة سامية، تلتصق برب الوجود كله، وتعلو فوق قوى الأرض كلها، وإن تماوجت، وتطاولت، وادعت السلطان، والنفوذ
…
بهذه اللمسة الإيمانية واجه السحرة فرعون، وقوته، ودولته قائلين:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1.
واكتشفت امرأة فرعون هذه الحقائق، ولامستها بقلبها، وعقلها؛ ولذلك آثرت بيتا في الآخرة، واعتبرت دنيا فرعون بقصوره، وأملاكه، وسلطانه، سجنا ظالما، وطغيانا فاسدا، ونادت الله قائلة:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2.
وهذا المؤمن من آل فرعون يستثيره تآمر فرعون وملئه على رسول الله موسى عليه السلام فيظهر نفسه، ويحدثهم حديث المطمئن، العارف بالله، المتيقن من حقيقة الآخرة، وقيمتها إزاء الدنيا.
1 سورة طه الآيات: 72، 73.
2 سورة التحريم آية: 11.
ولذلك كان يخوِّفهم من زوال سلطان الدنيا وملكها، إذا جاءهم بأس الله تعالى، ويخوفهم من سوء المنقلب في الآخرة، فهو الخسران المبين، وينصحهم بالحق، وهو يقول لهم:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} 1، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2.
إن الإيمان اليقيني بالآخرة يصلح الحياة الدنيا، ولا يسمح للفساد، أيا كان لونه أو مصدره، أن يسود فيها؛ لأنه سيصطدم حتما بالمؤمنين، ولن يعيش أبدا معهم.
إن مشهد السحرة، وامرأة فرعون، وهم يظهرون استعلاءهم على الكفر والضلال، هو إعلان واضح لحرية العقل، والضمير، حين ينفكّ عن قيود الأرض، وظلمات المادة.
إن هذه المشاهد تؤكد أن انتصار الحق والإيمان، يكون بعد انتصارهما في عالم الفكرة، والعقيدة، وقبل السلوك بالضرورة، كما تؤكد الصلة، والترتيب بين هذين الانتصارين، فلا بد من الانتصار في عالم الضمير قبل الانتصار في عالم الواقع، ولا يعلو أصحاب الحق في الحياة، إلا بعد أن يعلو الحق في قلوبهم على ما عداه، من طمع وشهوة، وحب للمادة، وخلود في الأرض
…
لا بد أن يتجسد الحق والإيمان في المشاعر والفكر، قبل أن يتحرك في الجوارح، والسلوك.
ليس من الإيمان في شيء أن يتحول الإيمان إلى كلمات يتشدق بها اللسان، والقلب فارغ منها.
1 سورة غافر آية: 29.
2 سورة غافر الآيات: 39، 40. "385".