الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الحضارة المادية المعاصرة في الشرق، أو في الغرب، تتصور نفسها الفريدة في الرقي والمدنية، وتتخيل غيرها من المؤمنين لا حضارة لهم؛ ولذلك يحاول أصحابها وضع أنظمة تحكم العالم بقيادتها، ليسير بمنهجهم، ونظمهم، والواقع يختلف عن ذلك تماما، فهي حضارة مادية، قائمة على إشباع الهوى، وإرضاء الشهوات، وهي تعادي الدين، وترفض منهج الله لعباده، وتتباهى بالوضعية الحسية، والسيادة المطلقة للعقل.
إنها حضارة مغرورة ضيعت مزاياها بغرورها، وحولت مكاسبها الإنسانية إلى عوامل ضارة بالآخرين، وبنفسها.
الركيزة الثانية: دعوة أهل الحضارة
أشرنا إلى بعض الصفات التي يتميز بها أهل الحضر، والتي تدفعهم إلى اتخاذ مواقف متعارضة مع النصح والإرشاد.
والسؤال هنا: هل لدعوتهم إلى الله طابع معين؟
ونبادر بإجابة مجملة تؤكد على ضرورة وجود طابع خاص لدعوة أهل الحضر، والملأ، والأغنياء، وذوي السلطان؛ لأنهم جميعا من قبيل واحد، ولا يصح التعامل معهم بأسلوب غيرهم.
فلا بد من دراسة الواقع الذي يعيشونه، ومعرفة الحياة التي يحيونها، والوقوف على بعض مشاكلهم، واهتماماتهم.
ولا بد من معرفة عقائدهم، ودياناتهم، ومستوى التزامهم الأخلاقي، والسلوكي، والمذهبي، ومنهج العلاقات السائدة في أوساطهم، وبذلك يمكن تحديد الإيجابيات والسلبيات الموجودة لديهم.
وبذلك تبدأ الدعوة مستفيدة بالإيجابيات، تؤيدها، وتبين قيمتها، وضرورة التمسك بها، والبحث عن موجدها.
ومع الاستفادة بالإيجابيات يكون نقد السلبيات بهدوء؛ بالسؤال عنها، ومعرفة فوائدها، وضررها، ولِمَ التمسك بها؟ وبعد ذلك يكون النقد المباشر الصريح.
ولا بد في دعوتهم من إبراز دورهم، وتقدير شخصياتهم، ووصفهم بالخصائص الطيبة فيهم؛ لإيجاد تعاطف متبادل معهم، يمكن الداعية من البلاغ ويدفعهم إلى الاستماع والتجاوب.
ولا بد من الأدب في خطابهم وإن تشددوا، فهم يملكون البطش والقوة، والناس يعظمونهم، والداعية في نفس الوقت يمثل عمليا الدعوة التي ينادي بها، وعليه أن يتصور نفسه طبيبا يعالج المرضى.
وعلى الداعية أن يأخذ براهينه من حياتهم ومعاشهم؛ لأن ذلك أقرب للفهم وأدعى للإجابة، كما أن إنكاره للواقع غير ممكن؛ لأنه مشاهد محسوس.
وعلى الداعية أن يقدم القضايا المهمة في دعوته؛ لأنها أساس لغيرها، وغيرها لا يغني عنها.
إن هذا ما فعله صالح عليه السلام ويجب أن تستفيد به الدعوة خلال مسيرتها بين الناس.
إن فريقا من هؤلاء الناس، لهم عقول واعية، ونفوس طيبة، وكل ما يبعدهم عن الحق أخطاء رأوها من بعض الدعاة، أو صورها لهم أصحاب الغايات الخبيثة من المحيطين بهم، من الجنة والناس. إن الملأ من قوم صالح عليه السلام بعد الدعوة، انقسموا إلى فريقين:
فريق منهم آمن بالدعوة واقتنع بها، وتحول بعد إيمانه إلى داعٍ يدعو لما آمن به، ويخاصم الآخرين حوله، ويدافع عن عقيدته، ويتبع صالحا فيما يبلغهم به عن الله تعالى.. وفريق آخر استمر في الكفر، والضلال.
هذا، والتاريخ يقدم صورا لأصحاب حضارات آمنوا بالدعوة الإلهية، ونصروها، وأسسوا لها أمما ودولا، ونشروا الدين في أماكن عديدة1.
جاء في دعوة الأنبياء: "انظر كيف يذكر القرآن قوم هود بأنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، ويذكر قوم صالح بأنه جعلهم خلفاء من بعد عاد، ومكنهم في الأرض، وجعلهم أصحاب حضارة وقوة، وذلك أسلوب من أساليب التربية، وضرب من ضروب الدعوة والعظة، يبين فضل الله عليهم بأن عمهم بإحسانه، وجعلهم أجلاء عظماء في شئون الحياة، ووسائل العمران، ولا ينبغي لمن كرمهم الله هذا التكريم أن يلوثوا أنفسهم بالمعاصي، بل اللائق بهم أن يكرموا أنفسهم حيث أكرمهم الله تعالى".
ويقول: "وكثيرا ما انتفع الناس بالدعوة من ناحية ما في نفوسهم من عظمة، تراهم يعفون عن المحرمات؛ لأنها لا تليق مع عظمتهم، ولا تتناسب مع منزلتهم في الحياة"2.
وقد نجح بعض الدعاة باتباع هذه الطريقة التي تحتاج أولا إلى اكتشاف الاستعدادات النفسية، والظروف الاجتماعية، وكرم الأصل والآباء، وركزوا عليها، وقالوا للمسرف: لا يليق بك أن تجاري السفلة في معاصيهم، وكيف تكون سافلا، وأبواك لهما من المجد والخلق ما يعلمه الناس، لا بد أن ترفع اسم أبيك، وتلزم نفسك وأهلك، وانظر إلى المستقبل البعيد واعمل له..
إنه منهج سديد بعون الله تعالى
…
1 من أمثلة ذلك التتار؛ فقد أسسوا الخلافة العثمانية بعد إسلامهم.
2 دعوة الرسل ص28.