الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ الدعوة واقع ومنهج:
علم التاريخ من العلوم الهامة ذات الفائدة القصوى للإنسان؛ لأنه يتخذ الماضي موضوعا لدراسته، ويعيش مع الوقائع والأحداث وفق منهج وصفي، يعتمد الحياد والموضوعية، ويجمع الأحداث والوقائع من مصادرها الصحيحة، ويحللها بأمانة، وينسقها على أسس عقلية متكاملة؛ لتنطق بكافة جوانب الحدث، وتصوره أمام الناس، وبذلك يعرف التاريخ بواقعه، ويظهر الماضي بأشخاصه، وأعماله، وحيويته، ويتمكن الباحث من استخلاص الدروس والعبر، ويتحقق له الهدف المنشود.
ويحتاج علم التاريخ بصورة عامة إلى عقلية عالمة، تبحث عن الحقائق، وتلتزم بالحق، بعيدا عن التحيز والتأثير، وتنأى بذاتها عن توجيه الأحداث لخدمة أهدافها الذاتية، وخصائصها الثقافية، أو الدينية، أو الجنسية
…
وهكذا.
وعلم التاريخ وفق هذا المنهج يساعد في إعطاء صورة صحيحة لتاريخ البشر، ويساهم في وضع منهج للحاضر، والتخطيط للمستقبل، ويؤدي إلى حياة طيبة للعمران البشري.
وعلم "تاريخ الدعوة" فرع من علم التاريخ العام، يهتم برصد جانب معين من الأحداث والوقائع الماضية، وهو الجانب المتصل بالدين، وحركته، وحيويته في حياة الناس؛ ولذلك نراه يعايش دعوات الله تعالى على طول الزمن، فيحدد موضوعاتها التي بلغتها للناس، ويعرف وسائلها في البلاغ والدعوة، ويوضح ما دار حولها من نقاش ونزاع، ويبين موقف المدعوين منها سواء آمنوا بها، أو لم يؤمنوا.
وعلم تاريخ الدعوة يعايش مدعويه جميعا، عامتهم، وخاصتهم، فهم جمهور الدعوة، وهم الأمة التي جاءت الدعوة لهم.
ومما يتصل بأحداث الدعوة، ووقائعها النفقات المبذولة في إنشاء المؤسسات الدينية كالمسجد، والمدرسة، والمستشفى، والأموال التي تصرف زكاة، أو صدقة، في أحد المصارف الشرعية المعروفة.
إن أي نشاط ديني للفرق، والمذاهب، والجماعات المتنوعة، هو جزء من اهتمام تاريخ الدعوة، مهما كان أثرها وجدواها في تنمية المجتمع وتقدمه، أو تخلفه وتقهقره.
ولعل التعريف بالرسل والدعاة على مدار التاريخ محل اهتمام رئيسي لعلم تاريخ الدعوة، فهم حَمَلَة الدعوة، ومبرزوها، ومبلغوها، والمدافعون عنها، وهديهم في التبليغ أساس لمن بعدهم.
إن علم تاريخ الدعوة يبحث موضوعه في إطار منهج علم التاريخ العام، وبذلك يقدم فوائد جليلة للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث؛ لأنه يقدم أحداث الماضي رصيدا للحاضر، وتوجيها للمستقبل، ويكفي الدعاة أن يعرفوا الحاضر صورة مكشوفة، ويحيطوا بالإنسان المدعو ظاهرا وباطنا؛ لأنهم بدراسة التاريخ يفهمون نفوس الناس، وأخلاقهم، وخواطرهم، واتجاهاتهم، ومواقفهم التي سيتخذونها إزاء الدعوة التي ستوجه إليهم.
والدعاة حين يعلمون ذلك عن الناس يمكنهم اختيار ما يطلبونه من الناس، وطريقة الطلب، ووسيلة الخطاب، ومنهج الدعوة والبلاغ.
يقول سيد قطب: "إن تاريخ الدعوة يصور طبيعة الكفر، وطبيعة الإيمان في نفوس البشر، ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا"1.
1 في ظلال القرآن ج13، ص202.
ويقول: "واجه الموكب الكريم من الرسل البشرية بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية دعوة الرسل مواجهة واحدة، وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل، إنها حقيقة تستوقف النظر ويجب الاستفادة بها"1.
ومن عناية الله تعالى بالدعوة إلى دينه، أن أنزل قصص الرسل والأنبياء وحيا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم متميزة بخصائص القرآن الكريم الثابتة، وهي الصدق، والدقة، وقصد الهداية والخير، في استقامة خالية من العوج، والاضطراب.
وبعد تمام الإسلام، وانقطاع الوحي، وانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذ العلماء، والدعاة المسلمون، يواصلون رصد حركة انتشار الإسلام، ويسجلون عملية تبليغ الدعوة إلى الناس، في أرجاء العالم المختلفة، على قدر طاقتهم البشرية.
وعلى هذا يمكننا -ونحن مطمئنون- أن نقسم دراسة تاريخ الدعوة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لكل منها خصائصه ومزاياه، وهي:
القسم الأول: ويتضمن تاريخ الدعوة مع رسل الله قبل محمد -عليهم جميعا صلوات الله وسلامه- ومصدر هذا القسم هو القرآن الكريم بصورة رئيسية، فللقرآن الهيمنة على غيره، وكل ما عداه من مصادر أهل الكتاب، أو من الاكتشافات الأثرية، أو من الكتابات القديمة يجب أن تكون متفقة معه، غير متعارضة مع أصوله، وأساسياته، ويتميز هذا القسم بعدد من المزايا:
أ- أخباره كلها صادقة، تلازم الحق والصواب، قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 2.
1 في ظلال القرآن ج13 ص141، 142 بتصرف.
2 سورة الكهف آية: 13.
وقال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 1.
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} 2.
والنبأ وهو الخبر المتعلق بأمر هام، موغل في القدم، مثير للوجدان، والعواطف، والحق هو الصدق الموافق لما وقع3، المطابق للحدث بلا ريب ولا شبهة.
ب- ارتباط تاريخ الدعوة خلال هذا القسم بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لا دخل لبشر في تصوير أحداثه، أو الإخبار بوقائعه من عند نفسه؛ لأنه غيب أمام البشر، ولولا القرآن الكريم لغاب تاريخ هذا القسم مع أهميته، قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 4.
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 6.
إن قصص القرآن الكريم إخبار عن غيب الماضي، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، أوحى الله به إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهجا يتبع، وطريقا يسلكه الدعاة إلى الله.
وفي الآيات إشارة إلى أن إدراك مضمون هذا القصص لا يكون إلا بوحي الله تعالى.
1 سورة القصص آية: 3.
2 سورة المائدة آية: 27.
3 تفسير النسفي ج2، ص280.
4 سورة يوسف آية: 3.
5 سورة آل عمران آية: 44.
6 سورة ص الآيات: 67-69.
ج- واقعية الأحداث في هذا القسم، فليس منها ما لا يتصوره عقل، أو يتناقض مع الفطرة، وطبيعة الإنسان في تصوير هذا القسم دقيقة، واقعية، انظر إلى الإنسان تأتيه الدعوة، فيتنازع الشر والخير، وينتصر هذا أو ذاك
…
أليس ذلك واقعا نقرؤه في سائر القصص؟!
لقد قدم هذا القسم التصوير الصادق الواقعي عن إخوة يوسف، وعن ولدي آدم، وعن المؤمنين، وعن الكافرين.... وهكذا.
ولو جئنا بقصة قرآنية، وعزلناها عن ذوات أصحابها، وأبعدناها عن زمانها؛ لخيل إلينا أنها قصة من الحاضر؛ لأن الإنسان هو الإنسان، فكأن واقعية الماضي تصوير لما وقع فعلا، وفهم الحاضر يفيد ترابط وقائع الماضي مع حوادث الحاضر، مع تصورات المستقبل، وذلك أكبر برهان على الواقعية لقصص القرآن الكريم، المتضمن للقسم الأول من تاريخ الدعوة.
د- سموّ أهداف أحداث هذا القسم، حيث دعوته إلى الفضائل، والبعد عن الرذائل، فهو يدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، والتخلق بالخلق الكريم، وحين يعرض لموقف فيه فحش، فإنه يعرضه بصورة مختصرة في شكل مقيت يكرهها من يقرؤها، قال تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1.
ومن الآية نرى أنها تعرض الجنس في لحظة ضعف، لا لحظة بطولة، ولحظة تحتاج إلى أن يفيق الإنسان منها ليلتزم الواجب، والطهر والمحافظة على حق الله، وحق الناس.
هـ- الاكتفاء بالقدر المفيد من الأحداث والوقائع؛ ولهذا نجد أن القصص القرآني لا يروي كل الجزئيات عن الماضي، ولا يورد ما يورده مرتبا مسلسلا، وإنما
1 سورة يوسف آية: 23.
يتخير من الحدث ما يفيد، ويذكر من الوقائع ما فيه نفع الإنسان، فأحيانا يورد اسم المكان، أو يحدد الزمان، أو يوضح عدد الناس، إن كان ذلك يفيد، وأحيانا يترك ذلك كله، ويذكر سواه في حدود الفائدة المطلوبة، والنفع المقصود.
ومن هنا فعلينا أن نأخذ الفائدة مما ذكره الله تعالى، ونسكت عما سكت عنه؛ لأنه لا حاجة إليه، وقد تتحدث مصادر أهل الكتاب، أو مصادر غيرهم عن تفصيلات القصة التي سكت القرآن الكريم عنها، وحينئذ تكون تكملة لما يحتاجه الباحث في تاريخ الدعوة، وأخذُها من هذه المصادر عملٌ يؤيده الإسلام ويدعو إليه ما دامت تكمل مسار الحدث، وتتوافق معه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"1.
و شخصيات الرسل، ووظيفتهم البلاغية، تمثل معلما رئيسيا في تاريخ الدعوة؛ لأن الرسول -أي رسول- صناعة ربانية، وصفاته بشرية، مثالية، واقعية؛ ولذلك فهم قدوة للدعاة، وأسوة لهم، على الزمن كله.
وحينما يقدم تاريخ الدعوة صفات الرسل، ومزاياهم الخلقية التي تعاملوا بها مع الناس، ومنهجهم في الدعوة، ووعيهم بحقائق الحياة والأحياء، وصدقهم المخلص مع الله، ومع الرسالة، ومع الناس، حينما يفعل ذلك يقدم خدمات جليلة للدعوة في العصر الحديث، وفي كل العصور
…
القسم الثاني: ويتضمن تاريخ الدعوة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو أهم الأقسام، وأزهاها، بل هو أساس لكل جوانب الدعوة الإسلامية في جميع الأمكنة، وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة، ومصادر هذا القسم عديدة على رأسها القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومرويات الصحابة والتابعين، وكتب التاريخ.
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب التفسير ج6، ص329.
ويتميز هذا القسم بالعديد من المزايا، أهمها:
أ- يشتمل على مزايا القسم السابق، فهو وحي منزل لا ريب فيه، يلائم الفطرة، وينحو نحو الكمال، والسمو، والرفعة، بل إنه يعد تاريخا تطبيقيا للدعوات السابقة، أخذ منها موضوعها وأهم قضاياها، وخبر من خلالها أسرار الحياة والأحياء، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يورد أحداث الماضي ليستفيد أتباعه منها، ومن ذلك ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل فيمن قبلكم كان ينشر لحمه عن عظمه بالمناشير، لا يصرفه ذلك عن دين الله تعالى"1.
ب- يستفيد هذا القسم من خصائص الإسلام، فبسبب كون الإسلام دينا عالميا، وخاتما لسائر الأديان، نجد الدعوة مصبوغة بصبغة العالمية، حيث تلتزم الأصول الدينية الثابتة، وتقدمها لطوائف الناس على تنوعهم، واختلافاتهم بأساليب متعددة تناسب الجميع، وحتى يستمر تناسبها مع الناس نجد القرآن الكريم يخاطب العالم على اختلاف مذاهبه، وأجناسه، وطبقاته
…
فبرغم أن القرآن الكريم نزل في مدة محددة، وخاطب أهل مكة والمدينة إلا أن الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته جعل هاتين المدينتين بوتقة جمعت كافة عناصر البشر، وجميع الطبقات، وسائر المذاهب والأديان، حتى إذا ما نزل الوحي يخاطب هؤلاء الناس، ويناقش عقائدهم، ويدعوهم، كل بما يناسبه، كان كمن يخاطب البشرية كلها في كل الأمكنة، وفي كل الأزمنة إلى يوم القيامة.
لقد وجد في مكة والمدينة يومذاك اليهود، والنصارى، والمجوس، والدهريون، والذين أشركوا، وعبدة الكواكب، والأصنام، والملاحدة
…
كما وجد فيهم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد، والحكماء والحنفاء والعامة.
وهكذا تميزت الدعوة بالعموم الشامل، والخلود المستمر إلى يوم القيامة
…
1 البداية والنهاية ج2، ص59.
ج- تضمن هذا القسم كل شيء عن الإسلام والدعوة إليه، حيث يوجد ذلك بتفصيل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، المحفوظينِ بحفظ الله تعالى.
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2، وقد جاء القرآن الكريم مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، فأيد صادقها، وأتم ناقصها، وصحح ما حُرِّف منها، وكمل بما تحتاجه البشرية تبعا لتقدمها وتطورها، ووضع القواعد المساعدة لاحتواء كل جديد، وإعطائه الحكم الشرعي الصحيح، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 3.
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 4.
ويعتبر هذا القسم هو الأساس للدعوة، فهو يحتوي أحداث القسم الأول ويستفيد منها، ويقدم الدستور الواضح والتشريع الدائم للعصور التالية بصورة محكمة، مفصلة.
د- محمد صلى الله عليه وسلم رسول الدعوة، وإمام الدعاة، وقدوة المؤمنين، صورة بيضاء، واضحة، ناصعة، يسهل الوقوف على أي جانب من جوانب شخصيته العامة والخاصة مهما دق، حيث فصلت سيرته صلى الله عليه وسلم تفصيلا واسعا، واهتم بها كتّاب السير والشمائل حتى سجلوا كل شيء ووثقوه
…
1 سورة الأنعام آية: 38.
2 سورة الحجر آية: 9.
3 سورة المائدة آية: 48.
4 سورة هود آية: 1.
ولقد صور القرآن الكريم حياته صلى الله عليه وسلم العملية، وسلوكه مع الناس، وتعبده لربه في السر والعلن، وخلقه، وعمله، فمن أراد أن يرى القرآن مصورا فلينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يقرأ محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا فليقرأ القرآن الكريم؛ وذلك لشدة المطابقة بين العمل والتنزيل.
ولهذا تعد السيرة النبوية تسجيلا عمليا للدعوة الإسلامية، أصولها، ومناهجها، ووسائلها، وتاريخها خلال هذه الفترة المهمة.
هـ- أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خير أجناد الأرض، وهم خير أمة أخرجت للناس، آمنوا بالإسلام إيمانا كاملا، وخلعوا من قلوبهم حب الدنيا، وملئوها بحب الله ورسوله؛ ولذلك حملوا أمانة الدعوة إلى الإسلام، وبلغوها للعالمين، بعد أن طبقوها على أنفسهم وحياتهم، وقدموا من صور الحب للإسلام، والتفاني في سبيله، ما يعد نشازا في نظر كثير من الناس.
هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا جمهور الدعوة في عصرها الأول
…
وكانوا عمليا حقل تجارب دقيقا لبيان مدى تجاوب الدعوة الربانية مع الفطرة البشرية، ومعرفة قيمة المنهج المتبع، والأسلوب المألوف
…
وقد ثبتت سعادة الناس بالدعوة، وخيرية الدعوة للناس أجمعين.
ومن قدر الله تعالى أن الرواة كانوا يتابعون كل شيء في حياة الصحابة اليومية؛ ولذلك نقلوا عن الجميع، وفي كل شئون الحياة، ونشاط الدنيا، فبقيت التجربة بأحداثها، ووقائعها، ونتائجها حية في حركتها، ووضوحها لتؤكد لكل ذي عقل أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لن تصلح الأمة الإسلامية في أي عصر إلا بما صلح بها أولها.
القسم الثالث: ويتضمن تاريخ الدعوة بعد وفاة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وسوف يبقى مستمرا إلى يوم القيامة.
وتدوين أحداث هذا القسم يقصد به ابتداء بيان تدين الناس، ومعرفة مدى قربهم أو بعدهم عن الله تعالى، وتوضيح حركة الدعوة وانتشار الإسلام، وما يتصل بذلك من أمور.
ويتكون القسم الثالث من مراحل عديدة، حيث تتميز كل مرحلة بمزايا معينة، وتشغل فترة زمنية محددة تبدأ بعصر الخلفاء الراشدين، وتعيش مع الدول التي ظهرت في العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء إلى يومنا هذا.
وعصر الخلفاء يعد امتدادا عمليا للقسم الثاني؛ لقرب أصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم بالإسلام الذي تركه الرسول أمانة في أعناقهم، يعيشونه إيمانا وعملا، ويحملونه إلى من وراءهم، ومن بعدهم من الناس.
والاستفادة بأحداث هذا القسم مقصودة كذلك؛ لأن التاريخ كله مراحل متصلة يخدم بعضها بعضا، ويتأثر بعضها ببعض.
ومن مميزات دراسة هذا القسم ما يلي:
أ- في عصور هذا القسم دونت العلوم، وظهرت المذاهب الفقهية، وأصبح الإسلام مدونا في الكتب، مطبقا في الواقع. إن الوقوف على هذه الحقائق يمكن المسلمين في العصر الحاضر من تنقية الإسلام من أي دخيل في الفكر، أو في الأحداث، ويقفون على حقائقه كما نزلت من عند الله تعالى.
ب- لم تبق البشرية على بداوتها الأولى، بل شملها التطور الواسع، ودخلت الفلسفات العقلية في سائر المذاهب والفرق، ووجد لكل أمر -مهما كان باطلا- دعاته وزبانيته، الأمر الذي يضاعف العبء على المسلمين ليتمكنوا من مواجهة عنف الباطل بقوة للحق تعادله، في كافة الجوانب، فكرية، أو عملية، أو سلوكية.
ج- تأكد أهل البغي في الأرض، وما أكثرهم، من خطورة الإسلام على وضعيتهم، وفسادهم؛ ولذلك أخذوا في إعداد العدة لهدمه، والقضاء عليه، ولكن الله غالب على أمره.
يؤكد هذا حملات هولاكو، والتتار، والصليبيين، وحركات الاستشراق، والتبشير، والاستعمار، وعمليات اتخاذ عملاء من بين المسلمين، وتوجيههم نحو القضاء على الإسلام كلية، أو اكتفاء بعزله عن الحياة، ووضع أتباعه في وضع ذليل ومكانة مهينة، وما زالت أحداث هذه المرحلة تتحرك، وتأتي كل يوم بجديد.
إن أحداث هذا القسم لم تحظ بما حظيت به أحداث المرحلتين السابقتين من عناية، ودقة، حيث انقطع نزول الوحي، وأخذ يؤرخ للأحداث عديد من الناس على اختلاف ميولهم، ومذاهبهم واتجاهاتهم.
وأيضا أخذ التدوين طابع الأغراض الشخصية، والثقافة الذاتية، حتى يمكن القول: إن الذي كتب هو لقطات من أحد جوانب التاريخ العام، وإن كان يمكن الاستفادة به في تاريخ الدعوة.
فبعض المؤرخين يكتب عن الولاة، والقادة، ويسجل توليتهم، والبيعة لهم، وأهم حروبهم، وأشهر أعمالهم، ووفاتهم، والعهد لمن بعدهم.
نعم، يحتاج تاريخ الدعوة لمعرفة أخبار الولاة والأمراء، إلا أنه أيضا يحتاج لمعرفة أحداث جوانب أخرى عديدة، كأعمال الحسبة، ونظام الدعوة، وألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبار العلماء، وقصص العامة والخاصة، وسير حركة الدعوة في نفوس الناس، ورصد المواقف العملية إزاء دين الله تعالى، وإظهار البدع والخرافات السائدة مع بيان أسبابها، وطرق التصدي لها، إلى غير ذلك من المعلومات التي توضح حركة التدين، وتبرز المنهج الأمثل للتوجيه والإرشاد.
ومن المؤرخين من أخذ يتتبع أخبار الجواري، وأحداث القصور، وما يدور حولها من مبالغات تتصل باللهو والغناء
…
منهم من يتتبع ذلك حتى يخيل
لقارئه أن حياة الأمة الإسلامية كانت هي هذه الحياة، مع أن الوقائع العملية للمسلمين كانت غير ذلك.
إن حياة المسلمين امتلأت بالعبادة، والجهاد، والدعوة، وقد انتشر الإسلام في العالم كله بواسطتهم، مما يؤكد أن اللهو كان بعض الهنات التي وقع فيها بعض ضعاف الإيمان، وذلك لا يغير الصورة العامة للمجتمع الإسلامي.
ومن المؤرخين من يبرز الجانب القتالي في حياة الأمة الإسلامية، بدون ربطه بروح الجهاد، ومشروعيته في الإسلام، الأمر الذي يوحي -للعامة- أن الإسلام انتشر بالسيف
…
مع أن الأمر ليس كذلك.
إن القوة المادية مع الكفر ضلال كبير، تجعل أصحابها يتصورون مقدرتهم على التحكم في كل الماديات، والمعنويات، بل ويظنون قدرتهم على تكوين العقول، وتوجيه كافة شئون الحياة، هكذا شأن الطغيان في كل زمان ومكان!!
إن قوم هود واجهوا هودا بضلالهم هذا، واستمر هو في دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة أساس الإيمان، ولم يتأثر بمعارضتهم، ولم يضعف أمام وعيدهم عليه السلام.
وللمرء أن يتساءل عن السر في تركيز هود عليه السلام على التوحيد والتدليل عليه، ولم يبرز بقية أركان العقيدة كما ركز على التوحيد، وأدلته.
والأمر سهل؛ لأن الدعوة الإلهية تركز على الإيمان بالله، وتقدمه على غيره؛ ولذلك ركز هود عليه السلام على دعوة التوحيد لشيوع الشرك والأصنام في الناس.
وأيضا، فإن القوم لو آمنوا بالله وحده، وخصوه بالعبادة دون سواه، فإن بقية الأركان تأتي تبعا، وبصورة تلقائية.
ومع ذلك، فإن هودا عليه السلام ذكرهم بالرسالة في قوله:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، وذكرهم بالآخرة بقوله:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وعلى هذا، فالدعوة إلى التوحيد شاملة لكل أركان العقيدة
…
الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة:
أدى الترف بـ "عاد" إلى الكبر، والاستعلاء، وتصوروا أنفسهم فوق الناس أجمعين، وأبوا أن يكون هود عليه السلام رسولا إليهم.
ووصل بهم الضلال إلى السخرية بهود ودعوته، واتهموا عقله وخلقه، وتمسكوا بما هم عليه من كفر، وأخذوا يجادلون في آلهتهم بلا دليل من العقل أو الشرع، معتمدين على قوتهم، وجاههم، وغناهم، وعلى ما لهم بين الناس من تقدير.
إن الذين واجهوا هودا بالرفض، والجدل، هم الملأ، والمراد بهم علية القوم الذين امتلأت خزائنهم بالأموال، وملئوا المجالس حديثا، وريادة، وتوجيها، وملئوا عقول العامة بالضلال والفساد.
إن تشريع الجهاد كان لرد الظلم، وإزالة الطاغوت، ومنع استبداد الجاهلين، وإخافة أعداء الله في الأرض، وذلك من أجل أن يعيش الناس -كل الناس- أحرارا، في تعبدهم، وتفكيرهم، وأعمالهم، وفي مختلف أنشطتهم.
وكل مطلع على تشريع الجهاد، وتطبيقاته الإسلامية، يرى سمو الإسلام، وحرصه على الإنسان، وصيانته لكافة حقوقه بواسطة هذا الجهاد.
إن أبناء البلاد المفتوحة لم يجبروا على اعتناق الإسلام، والجزية لا تمثل لهم إكراها، فهي مبلغ زهيد يؤخذ من مقاتليهم مقابل إعفائهم من الزكاة، والصدقات، والكفارات، التي يؤديها المسلمون، وأيضا في مقابل إعفائهم من كثير من الأعمال الشاقة كالحماية، والحراسة، والدفاع.
وإن أداء الجزية يصون لدافعيها كافة الحقوق كالمسلمين تماما.
إن أبناء البلاد المفتوحة لما رأوا الفاتحين يسيرون على مبادئ الحق والعدل، والإنصاف، وشاهدوا نظام الإسلام يعمل عمله في نشر الأمن، والرفاهية، والمحبة؛ لبوا دعوة الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا، وحملوا بأنفسهم راية الجهاد
ورحلوا بها إلى الممالك النائية، كالأندلس، وجنوب أوروبا، ووسط إفريقيا، وغربها، وبلاد فارس، وشبه الجزيرة الهندية
…
وغيرها.
إن الحقائق تشير إلى أن الإسلام انتشر بمزاياه، وخصائصه، ولم تكن وسيلته إلا الإقناع بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، التي لا بد منها قبل البدء بالقتال.
وهكذا اتخذ المؤرخون مناهج شتى، وعذرهم أن تدوين التاريخ لم يكن محدد المعالم، أو متخصص الاتجاهات، وإنما ترك لاجتهاد صاحبه ليدون ما يرى ويرغب.
وقد اقتضت طبيعة التطور العلمي ظهور علوم التاريخ المتخصصة، بجوار علم التاريخ العام، وكان منها علم تاريخ الدعوة الذي ظهر مع بروز المؤسسات العلمية والعملية للدعوة.
واحتاج هذا التطور إلى إعادة النظر في الأحداث المروية، وبخاصة ما لها صلة بالدعوة لتصديق ما صح منها، ورد ما عداه.
ويجب مع هذا العمل أن يأخذ عالم الدعوة الحذر، حين يقرأ أحداث هذه المرحلة، ويسلك في حذره منهجا علميا يساعده على الحق، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح.
وسبب الحذر وجود دخلاء شوهوا كثيرا من أخبار المسلمين؛ ليفقدوا المسلمين الثقة في ماضيهم، ورجالاتهم.
ومن أمثلة هذا التشويه نقل الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من غير تدقيق في صحة الأخبار، والسكوت عن المؤامرات الخفية التي لعبت دورها في إذكاء نار الفتنة وتوسعة دائرة الخلاف، وإغضاء النظر عن إظهار علة ما ذهب إليه كل واحد من الصحابيين الجليلين.
ومن أمثلة ذلك تصويرهم الحجاج بن يوسف الثقفي سفاحا يحب الدم، وينشر الإرهاب، مع أنه كان يعمل في إطار ما في عنقه من بيعة، لقد اجتهد في هذا الإطار وربما أخطأ، ودراسة كافة الأحداث وملابسات الوقائع ربما تنصفه.
ومن أمثلة هذا التشويه ما رواه المؤرخون عن نكبة البرامكة التي أوقعها الخليفة العباسي هارون الرشيد بهم عام 187هـ، ويذكرون لها أسبابا لا يخجلون من سذاجتها وتفاهتها، ومع ذلك نراها تنتشر على ألسنة أكثر المؤرخين.
يقولون: إن هارون الرشيد أدمن شرب الخمر مع أخته العباسة، ووزيره الأول جعفر بن يحيى البرمكي، وحتى يجعل اللقاء بين أخته وبين جعفر شرعيا عقد بينهما عقدا صوريا، واشترط على جعفر أن لا يطأها، لكن جعفر نقض شرط هارون، فدخل بالعباسة، وولدت له ولدا، سماه محمدا، أسكنه مكة، ورباه بها، فلما علم الرشيد بذلك غضب غضبا شديدا، ونكب البرامكة نظير ما فعله جعفر1.
وهذه القصة تحمل في طياتها ما يكذبها:
- فكيف يبحث هارون عن مشروعية الجلوس، مع إجازته شرب الخمر، وكلاهما حرام؟
- وكيف يعقل أن يتصور هارون الرشيد عقدا للزواج يفيد الجلوس دون سواه؟ ولم العقد؟!
- وهل يصعب على الخليفة أن يضع أخته تحت رقابة من الجند والخدم، يحفظ له منها ما يريد؟
- وكيف يغيب عن الرشيد أمر المولود، ورحيله، وتربيته في مكة، وهي جزء من الدولة؟
1 البداية والنهاية، ج10، ص189-191 بتصرف.
- وأيضا كيف نشأ الغلام؟ وكيف تربى؟ وما أهم أعماله؟ وما صلته بأخواله وأعمامه؟ ومتى مات؟
لم يرد لذلك ذكر مع أنها من الأمور التي لا تغيب، بل هي من القضايا التي تشتهر بين الناس.
- ومع هذا، فإن كانت الجريمة من فعل جعفر، فلم معاقبة البرامكة جميعا، وقد كانوا أحظى الناس عند الرشيد، وبينه وبينهم علاقات عديدة، ومجالسات كثيرة طيبة، وخدماتهم للدولة لا تنكر؟
كل هذا يؤكد أن القصة غير صادقة، ووضعها تم لتشويه أصحابها لما لهم في تاريخ الإسلام والمسلمين من منزلة.
فـ "العباسة" صاحبة فضل ودين، جدها الأعلى ترجمان القرآن "عبد الله بن عباس"، وهي بنت خليفة، وأخت خليفة قريبة عهد ببداوة العرب، وفطرة الدين، ولم تعرف البيئة يومذاك عوائد الترف، ومراتع الفواحش، ومتع الهوى.
فأين يطلب الصون والعفاف إن ذهبا عنها؟
وأين توجد الطهارة والدين إن فقدا من بيتها؟
و"هارون الرشيد" الخليفة، قام في الناس بالعدل، وكان يجالس العلماء والفقهاء، ويؤم المصلين في المسجد الجامع، ويصلي كل يوم مائة ركعة نافلة ما لم يصب بعلة، وكان دائم الذكر، وقراءة القرآن، كان يغزو عاما ويحج عاما، فإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا غزا أحج ثلاثمائة من ماله بالنفقة السابغة والكسوة التامة، وكان شديد الخوف من الله، يراقبه في كل أعماله وبخاصة في أموال المسلمين، طلب مرة أكل لحم جزور، ثم نسيه
…
وذات يوم تناوله، فقال له جعفر: إن هذا اللحم تكلف أربعة آلاف درهم؛ لأنه كان يجهز يوميا ولا تأكله حتى بلغ جملة ما صرف هذا القدر
…
فلما سمع ذلك بكى، وتألم كثيرا، وأمر برفع الطعام من
أمامه، وقال: هلكت يا هارون.. وظل على بكائه طوال نهاره لا يقطعه إلا الصلاة، وفي نهاية النهار دخل عليه قاضيه أبو يوسف، فلما علم بالمسألة سأله عن مصير اللحم الذي كان يطبخ، فلما علم أن الفقراء كانوا يأكلونه قال لهارون: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من مال أكله الفقراء، وبما رزقك من خشية وخوف، فقد قال تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 1.
وكان الرشيد يحكم رعيته بشرع الله، في أمة واسعة لا تغيب الشمس عن ديارها، وهو الذي أمر بجلد أبي نواس، وحبسه لما ثبت انهماكه في الشراب2.
فهل تصدق هذه القصة مع شخص كهذا؟
أين له الوقت بعد كل هذا ليقضيه في السهر والشراب؟
ولو تصورنا صدق القصة، هل كان المؤرخون يهملونها، ولا يذكرون شربه الخمر إلا في هذا المجال؟!
وأين أعداؤه، وهم كثيرون
…
ولِمَ صمتهم عنه في هذا الحدث الخطير؟
و"جعفر" سيد البرامكة، اشتهر بسداد الرأي والحكمة مع الخلفاء قبل الرشيد، ولم يذكر عنه ما يسيء، فكيف به يتحول إلى عربيد، مدمن للشراب، عاصٍ لله تعالى؟ 3.
1 سورة الرحمن آية: 46.
2 البداية والنهاية لابن كثير ج10، ص213.
3 يرى ابن خلدون أن نكبة البرامكة سببها الخوف على الدولة منهم، فلقد تغلغلوا في كل جوانبها، وملكوا كل ما فيها، وذاع صيتهم، ودانت لهم الرعية حتى صار الدعاء لهم، والأمل فيهم، وصاروا يخصون ذويهم بوظائف الدولة جميعا، وقد وشى الواشون بهم إلى هارون، وخوفوه من طموحاتهم، وأقنعوه بقوتهم، وحرصهم على مناصبهم، وزينوا له ذلك فأوقع بهم جميعا في ضربة واحدة، وولى العرب مكانهم، حماية للدولة، وخوفا من ضياع الخلافة، يقول ابن كثير:"ومن العلماء من أنكر ما قيل عن البرامكة والعباسة وهو الحق" ج10 ص189، البداية والنهاية.
إن هذه القصة تندرج في إطار حملة التشويش التي يقوم بها أعداء الإسلام لابسين ثوب العلم، رافعين لواء البحث والحياد؛ لينجحوا في كيدهم ومكرهم، ويقطعوا أبناء الأمة الإسلامية المعاصرة عن ماضيهم الزاهر، ويحرموهم من الاستفادة بدروسه، وعبره.
ولذا وجب الحذر
…
ومع الحذر يجب اتباع منهج علمي سليم يساعد في فهم الحدث، وتحليله، والوقوف على مدى صحته، وبخاصة أن أحداث التاريخ لم ترو مسندة كرواية الحديث النبوي وقد باشر التدوين كل من أراد من المسلمين، أو من أصحاب المذاهب، أو من أعداء الإسلام، بلا أساس يذكر، أو مسئولية تحدد؛ ولذا ظهر الدس، وكثر الدخيل.
ومن أساسيات منهج تتبع تاريخ الدعوة ما يلي:
أولا: الاهتمام بالإسناد بقدر الإمكان، فبواسطة الإسناد نعرف قيمة الخبر، ومدى صحته.
ولو التزم النقلة بالإسناد ابتداء ما تمكن أحد من الدس، ولخلا التاريخ الإسلامي من الإسرائيليات.
ولو التزموا بالإسناد لسهل تمييز الأصيل من الدخيل.
ونظرا لأن المؤرخين لم يهتموا بالإسناد فإن المطالبة به الآن أمر شاق؛ ولذلك نرى الاهتمام به في حدود الممكن، وفي القضايا الهامة التي لها أثرها وخطرها، مع إخضاع الوقائع التي لا يمكن إسنادها للتحليل، ومعرفة اتجاهات الراوي، وقياس مدى تناسق الرواية مع المجال التي سيقت فيه.
ثانيا: الالتزام بالحياد، والموضوعية، والنظر للحدث ونقله كما حدث وروي؛ لأن تدخل المزاج الشخصي، والتأثر بالتكوين الثقافي، أو الديني، يوجه الحديث وجهة معينة تؤدي لنتائج مغايرة.
إن كتابة التاريخ أمانة، والحياد معه ضرورة، وتصوير الأحداث كواقعها التزام بالصدق، وأداء للواجب.
ولنا في القرآن الكريم أسوة، يقول الله تعالى للمؤمنين يوم أحد:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} 1، وفي هذه الآية تصوير صادق لواقع المؤمنين المؤلم، وفي يوم حنين يقول الله للمؤمين:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} 2.
بل إنه سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين يوم بدر وهو يعلم خواطرهم وأمانيهم: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} 3.
هكذا، وبكل صدق وصراحة، وبدون أدنى مجاملة يجب أن تكون رواية الأخبار والوقائع.
ثالثا: إخضاع الأحداث المروية للحقائق الدينية الثابتة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وبخاصة إذا كان للحدث اتصال بهذه الحقائق.
فحين يكون الخبر عن القرآن، أو عن السنة، أو عن الرسول، أو عن الصحابة، يجب رد الأحداث المروية إن خالفت ما وجب دينيا في هذا المجال، وذلك مثل ما ورد في حادثة الغرانيق، وقصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وتصوير الصحابة بسوء، بناء على أحداث وقعت في عصرهم.
1 سورة آل عمران آية: 152.
2 سورة التوبة آية: 25.
3 سورة الأنفال آية: 7.
فهذه الأحداث وأمثالها كثير، يجب ردها لأنها تخالف الحقائق الدينية، التي كان الرسول وأصحابه أحرص عليها، فهم مبلغوها، وأهلها.
رابعا: عدم الاكتفاء بظاهر الحدث، والاهتمام بالكشف عن خلفيته وأسراره، فقد تصدق الواقعة إلا أن معرفة دوافعها، وظروفها، يجعلها ممكنة، ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} 1.
فالآيات تعتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبوسه وانصرافه عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه الذي جاءه يسأله، في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يتصدى لدعوة صناديد قريش المنصرفين عن الدعوة، وهم: عتبة، وشيبة ولدا ربيعة، وأبو جهل، والعباس، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة.
هذا هو الحدث، لكن معرفة أسباب النزول يؤدي إلى فهم الواقع، وتلمس العذر لرسول الله، ويخفف أمر العتاب الموجه إليه.
فرسول الله تصدى للقوم إخلاصا للدين، وأملا في انتصار الإسلام، وابن أم مكتوم لم يختر الوقت المناسب، وله عذره بسبب عماه، ونزول الآية عتاب رقيق للرسول، يؤسس معلما في حركة الدعوة {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فالناس سواسية، والهدى هدى الله، ولكل إنسان فهم وواقع يجب مراعاته.
وبهذا الفهم يسهل الأمر، ويتضح المراد
…
1 سورة عبس الآيات: 1-12.
خامسا: ضرورة إخضاع الأحداث واتجاهاتها لسنن الله العامة في الحياة والأحياء، وسنن الله تعالى موجودة في القصص القرآني، حيث قص الله تعالى الأحداث وقدره معها، وذكر سبحانه ما أجراه فيها على وجه مطرد، ومن هذه السنن ما نراه في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} 1.
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 2.
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 4.
{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 5.
وبتطبيق هذه السنن الإلهية وأمثالها يمكن فهم الأحداث، وتفسيرها وتصور وقوعها، وتميز الحق من الباطل فيها.
1 سورة الأنعام آية: 112.
2 سورة فاطر آية: 43.
3 سورة الشورى آية: 20.
4 سورة النساء آية: 123.
5 سورة الأعراف آية: 128.
6 سورة الإسراء آية: 16.
7 سورة البقرة آية: 257.
سادسا: ضرورة قياس الأحداث التاريخية على واقع الناس، فما جاز تصور وقوعه جاز تصديقه، وما استحال حدوثه استحال تصور وقوعه تاريخيا.
وفي ذلك نقرأ توجيه الله تعالى حيث يقول سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 1، وقد نزلت هذه الآية في إطار حادثة الإفك، وفيها توجيه بقياس ما يشاع على عامة المؤمنين، فإن تصوروا وقوع الحدث على أنفسهم، فلهم أن يصدقوا وقوعه من غيرهم، وإن لا فلا.
يروي ابن إسحاق أن أبا أيوب الأنصاري قالت له امرأته: "يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ ".
قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: والله ما كنت لأفعله.
قال: "فعائشة والله خير منك"2.
فنجده رضي الله عنه يرد الشائعة بعد أن قاسها على نفسه وبيته، فلما رآها تمتنع عليها حكم بامتناعها عمن هي أفضل منها، وعن مثلها في نفس الوقت.
إن أخبار القسم الثالث من تاريخ الدعوة في أمس الحاجة إلى اتباع المنهج الصحيح في تنقيتها وتصحيحها.
يقول الأستاذ محمد قطب: "كتابة التاريخ البشري من زاوية الرصد الإسلامي ضرورة لازمة للأمة الإسلامية، وليست نافلة يمكن إسقاطها، أو الاستغناء عنها، والعلماء المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم في هذا الجهد الشاق؛ ليبنوا للمستقبل الطريق الصحيح"3.
1 سورة النور آية: 12.
2 السيرة النبوية ج3، ص224، ط دار التراث.
3 كيف نكتب التاريخ؟ ص32.
وإني هنا أبذل محاولة على قدر جهدي لأكتب في تاريخ الدعوة، سائلا المولى العون والتوفيق.
وتاريخ الدعوة طويل يمتد من أول حياة البشرية إلى يوم القيامة؛ ولذلك فهو يحتاج لجهد مئات العلماء، يكتب كل منهم في مرحلة من مراحله، أو يختار جزئية في مرحلة ليساهم في البناء الكبير، ويا حبذا لو تواصى العلماء في كتاباتهم باتباع منهج موحد ليكمل بعضهم بعضا، وليرتفع البناء لبنة لبنة.
وإني لأرجو أن أكون واحدا من البنائين العلماء
…
والله ولي التوفيق،،،