الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طويلا، ينسيه ما سمعه منه، وأملا في أن يعود إبراهيم عن دعوته، وتركه إبراهيم عليه السلام أيضا مؤملا هو الآخر في إيمانه، وقال له:{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} 1.
وترك إبراهيم أباه، وودعه في أمن وسلام، واستمر يدعو الله له، ويستغفره أملا في إيمانه، فلما تبين له أنه لن يؤمن تبرأ منه، ومن آلهته، واعتزله وابتعد عنه وعن آلهته؛ لأن ظهوره معهم يضعه في صورة الراضي عن دينهم، وأفعالهم، وهذا لا يجوز؛ لأن على المنكر مقاطعة صاحب المنكر ما دام لا يسمع لنصح أو إرشاد.
1 سورة مريم آية: 47، 48.
2-
حركة إبراهيم بالدعوة مع الملك:
ادعى النمرود الألوهية، وقال للناس: أنا أحيي وأميت، وتحكم في أرزاقهم وحياتهم، وعاث في الأرض فسادا، فلما جاءه إبراهيم عليه السلام بدعوة التوحيد، وتسليم الأمر لله رب العالمين، لم يرض بهذا، وأخذ يجادل في الدفاع عن ذاته إلها للناس.
يصور القرآن الكريم دعوة إبراهيم للملك، وحواره معه في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.
1 سورة البقرة آية: 258.
فقد أنعم الله على النمرود، وآتاه الملك في بابل، وكان عليه أن يسارع إلى توحيد الله وعبادته؛ شكرا لنعمه، وازديادا لفضل الله، لكنه كفر وتجبر، وأبى ترك مزاعمه وافتراءاته، قال لإبراهيم: من ربك؟
قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت.
قال النمرود: وأنا أحيي وأميت!
ومع اختلاف مراد كل منهما من الإحياء والإماتة؛ لأن النمرود يقصد أنه قد يأتي برجلين تحتم قتلهما، فإذا أمر بتنفيذ القتل في أحدهما فقد قتله، وإن أمر بالعفو عن الثاني فقد أحياه، كما يعني أنه إذا حبس رجلين بلا طعام ولا شراب، وأطعم أحدهما وسقاه فقد أحياه، وإن ترك الثاني بلا زاد ولا ماء حتى يموت فقد قتله.
أما مراد إبراهيم عليه السلام فهو يعني التحكم في الروح التي بها الحياة في الإنسان يحيا بوجودها، ويموت بسلبها، ولا تحكم لإنسان ما في هذه الروح.
كان يمكن لإبراهيم أن يجادل النمرود، ويبين أن مراده ممكن لأي إنسان، ولا يصح في مجال العقيدة أي تدليس وظن؛ لأنها تعتمد على اليقظة العقلية، والبيان القاطع.
كان عليه السلام يمكنه ذلك، لكنه آثر قطع الجدل والمراء، وطلب منه أمرا آخر له صلة بالإماتة والإحياء، والإيجاد والإعدام.
قال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، فعجز النمرود عن الرد، وسكت مضطرا؛ لأن الشمس تأتي وتغرب في فلكها منذ أن خلقها الله تعالى، ولا يمكن للنمرود أن يدعي لنفسه شيئا في حركتها؛ لأنها أسبق منه في الوجود والحركة.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، وباء بغضب الله، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
يبين الرازي في التفسير أن النمرود بعد عجزه عن المواجهة لجأ إلى التهديد، وقال لإبراهيم: لئنك تزعم أن ربك يحيي الموتى، فاسأله أن يحيي لنا ميتا، وإلا قتلتك.
فطلب إبراهيم من الله رؤية كيفية إحياء الموتى؛ ليطمئن قلبه من ناحية الملك الذي هدده بالقتل
…
فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، وقطع لحومها، وريشها، وخلطها، وقسمها أربعة أقسام، ووضعها على أربعة أجبل، ثم دعاها إليه، فجاءته الطيور الأربعة حية كما كانت، فأثبت إبراهيم عليه السلام أمام النمرود قدرة الله على الإحياء، وقطع عليه الجدل في هذه المسألة، فرضي إبراهيم، واطمأن.
وهذا التفسير الذي ارتآه الفخر الرازي وغيره هو الأولى2 بالقبول؛ لأنه يدفع مقالة أعداء الحق، الذين زعموا أن طلب إبراهيم يدل على شكه، وأيضا فإن إبراهيم عليه السلام رسول الله الموصوف بالصلاح، والرشد، واليقين، والحلم، والإنابة، والصديقية، وكان أمة، وإماما، وشاكرا، وهو الذي وفى.
إبراهيم هذا لا يحتاج إلى دليل لينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين
…
ولِمَ يكون الدليل المطلوب إذا قلنا: إن إبراهيم طلبه لنفسه، في رؤية كيفية إحياء الموتى بالذات؟! والأدلة أمامه كثيرة
…
كل هذا يرجح ما ذهب إليه الرازي.
1 سورة البقرة آية: 260.
2 تفسير الرازي ج4، ص41.
وأيضا حين نتأمل في سؤال الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية، قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} 1
…
فسؤاله بـ {أَنَّى} هو سؤال عن الكيفية، كما سأل إبراهيم بـ "كيف"
…
إلا أن الله عاقبه لكونه كان شاكا في قدرة الله على إحياء الموتى وبعثه مرة أخرى، وقد عاقبه الله بأن أماته مائة عام ثم بعثه، وأراه حماره وقد عاد للحياة؛ ولذلك قال الرجل معلنا إيمانه بعد ذلك:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، مصدرا قوله بالفعل المضارع {أَعْلَمُ} الدال على الحدوث والاستمرار2.
أما إبراهيم عليه السلام فسؤاله كان لتحدي النمرود ومناظرته؛ ولذا لم تكن معه عقوبة، وختمت الآية بفعل الأمر {وَاعْلَمْ} ليوجه النمرود، آمرا إياه بالإيمان، وليعلم أن الله عزيز حكيم، فهو سبحانه غالب لا يغلب، يقدر لكل أمر ما يناسبه بدقة، يقول للشيء كن فيكون، ولن يقال: إن إبراهيم عليه السلام هلع من النمرود؛ ولذا طلب من ربه ما طلب بل هو خوف عادي، والخوف العادي طبيعة بشرية، وإبراهيم طلب من الله تعالى مستسلما لإرادته، مطمئنا بقدرته، راضيا بما يقضي له، وهو اليقين عينه، وهو الإيمان المطلوب.
إن خوف إبراهيم حذر لا بد منه، وطلبه من الله نجاح للدعوة، ولو كان إبراهيم عليه السلام الذي يفزع، ويرتعد، ويجبن لخاف من النار يوم أن وضع فيها.
المهم هنا ملاحظة انتقال إبراهيم عليه السلام بالدليل مع الملك، فترك ما فيه جدل ومراء إلى دليل مفحم، يحقق المطلوب بأسلوب موجز، وبطريق مستقيم.
1 سورة البقرة آية: 259.
2 تفسير الرازي ج4، ص40.