الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
إسماعيل عليه السلام:
بلغ إبراهيم عليه السلام من العمر ستا وثمانين سنة، ولم يرزق بولد، فدعا ربه:
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} 1.
فاستجاب الله دعاءه وبشره بالولد عقب دعائه، يقول تعالى:
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} 2
…
وحتى يتحقق قدر الله، وتوجد هذه البشارة في أرض الواقع، وهبت سارة لإبراهيم أمتها "هاجر" المصرية فتزوجها، وحملت بـ "إسماعيل" وولدته في أرض الشام، بجوار بيت المقدس حيث مقام أبيه، في قرية "حبرون" وهي مدينة "الخليل" الحالية.
لكن سارة رأت تعلق قلب إبراهيم بولده، فتألمت وغارت، وطلبت من إبراهيم أن يسكن هاجر وولدها بعيدا عنها، وأوحى الله لإبراهيم عليه السلام أن يحقق لسارة طلبها، وعرفه بالمكان الذي يسكن فيه هاجر وولدها.
رحل إبراهيم عليه السلام بهاجر وإسماعيل صوب الجنوب، حتى وصل إلى وادٍ جاف، لا زرع فيه ولا ضرع، ولا ماء ولا نماء، ولا ثمر ولا شجر، وأنزلهما فيه، وترك لهما قليلا من الزاد والماء، وقفل راجعا من حيث أتى، فتعلقت هاجر به وهي تناديه: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا؟ من يحمينا؟ من يسقينا؟ من يطعمنا؟ تناديه وتكرر النداء
…
ثم قالت له: آلله أمرك بهذا؟!
1 سورة الصافات آية: 100.
2 سورة الصافات آية: 101.
قال إبراهيم عليه السلام: نعم
…
فأجابته هاجر رضي الله عنها وقالت: إذًا لا يضيعنا1.
ورفع إبراهيم يده إلى السماء، وهو يقول:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 2.
واستجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام ونبعت زمزم، وجاءت أفواج من الجراهمة، وسكنوا المكان فتأسست مكة المكرمة.
تعلم إسماعيل العربية، وصار رجلا يافعا، واختبره الله تعالى بأن أمر أباه إبراهيم عليه السلام بذبحه، فلما أخبره أبوه بذلك استسلم له، قال تعالى:{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 3.
وأسلم نفسه لأبيه لينفذ ما أمره الله به، وقال له: يا أبت اشدد وثاقي، وحدّ الشفرة، وتلني للجبين، حتى لا تقع عينك على عيني، فتأخذك الرحمة والشفقة دون تنفيذ أمر الله، وخذ ثيابي، وأقرأ على أمي مني السلام
…
خضع إسماعيل عليه السلام صابرا مخلصا، ففداه الله بذبح عظيم.
وقد تزوج إسماعيل عليه السلام من الجراهمة زوجتين، طلق الأولى، وأمسك بالثانية؛ لأنه بعدما تزوج الأولى جاء إبراهيم عليه السلام من الشام ليتفقد أحواله وأمه، فوجد أن هاجر رضي الله عنها قد ماتت، وأن إسماعيل قد تزوج، فسأل عن بيته، حتى إذا جاءه لم يجد إلا زوجته، فسألها: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي رزقا
…
1 البداية والنهاية ج1، ص154.
2 سورة إبراهيم آية: 37.
3 سورة الصافات آية: 102.
فسألها: كيف عيشتكم؟ قالت: نحن بشر وسوء حال، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فأقرئي عليه السلام، وقولي له: غير عتبة بابك، فلما رجع إسماعيل فكأنما شعر بشيء، فقال لها: هل زارنا أحد؟ قالت: نعم، وأخبرته بما جرى، فقال لها: ذاك أبي يأمرني بطلاقك، فطلّقها وألحقها بأهلها
…
ثم تزوج بأخرى من الجراهمة أيضا، فجاء إبراهيم مرة أخرى فلما سألها عن عيشتها؟ قالت: نحن بخير وسعة، والحمد لله
…
قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء
…
ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، وقولي له: ثبت عتبة بيتك
…
فلما رجع إسماعيل أخبرته زوجته بما جرى، فقال لها: ذاك أبي يأمرني بالإمساك بك1.
وأمسك إسماعيل عليه السلام بزوجته الثانية، ورزق منها بالذرية، وبث الله منهما أمة العرب، ومن أمة العرب جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
فلئن كان إسحاق هو أبو الإسرائيليين، فإن إسماعيل هو أبو العرب.
وقد ساهم إسماعيل مع إبراهيم في بناء الكعبة على القواعد التي وضعتها الملائكة
…
واستجاب الله الدعاء، فنشأت مكة قرية جديدة، سكنها أبناء إسماعيل الذين كونوا أمة جديدة هي أمة العرب، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قبلة للعالم كله، تتعلق بها القلوب والعقول، ويقصدها الناس رجالا وركبانا من كل فج عميق.
1 الكامل ج1، ص258، 259.
2 سورة البقرة الآيات: 127-129.
كان إسماعيل عليه السلام نبيا يدعو قومه الجراهمة، والعماليق، وأهل اليمن بدين الله تعالى، مخلصا لربه، حليما صابرا في خلقه، ملتزما بكل ما أوحى الله به إليه، صادقا في كل ما دعا به رضي الله عنه وأرضاه، يقول الله تعالى عن إسماعيل عليه السلام:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 1.
ويلاحظ هنا أن إسحاق عليه السلام وُلد ونشأ في بلاد الشام، قريبا من بيت المقدس، وهي مسكونة بأهلها الكنعانيين، وتناسل منه يعقوب عليه السلام، ومن يعقوب جاء يوسف عليه السلام وإخوته، وقد انتقلوا جميعا إلى مصر، وعاشوا بها إلى زمن موسى عليه السلام.
أما إسماعيل فقد نشأ في أرض صحراوية غير مملوكة لأحد، أحياها هو وبنوه بماء زمزم، وصاروا ملاكها، وأصحابها.
وكانت العظمة في أبناء إسماعيل أن اختار الله منهم خاتم الأنبياء، محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى العالم كله، بدين الإسلام الناسخ لكل الأديان، الصالح بإذن الله إلى يوم القيامة، يقول تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2
…
فإسماعيل عليه السلام هو جد نبينا صلى الله عليه وسلم. يروي مسلم بسنده عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"3.
1 سورة مريم الآيات: 54، 55.
2 سورة آل عمران آية: 85.
3 صحيح مسلم ج15، ص36.
وعاش إسماعيل عمره في مكة، ولما جاءته المنية دفن صلى الله عليه وسلم بها1.
يذكر المؤرخون أن إسماعيل عليه السلام دفن مع هاجر في حجر إسماعيل بمكة، لكن ذلك لم يثبت بحديث مرفوع، ولو كان كلام المؤرخين صحيحا لاشتهر الخبر لما له من صلة بالإسلام، فالمسلمون يحجون إلى مكة، ويتخذون حجر إسماعيل مصلى تستحب الصلاة فيه، وهذا لا يجوز إن كان قبرا، لإسماعيل عليه السلام.
1 البداية والنهاية ج1، ص193.