الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان الله يبين له الصواب إذا أخطأ، وكان عليه السلام رجّاعا، يعود للحق إذا عرفه، ولا يعتز بحكم أصدره، ما لم يكن وحيا.
وفي مجال معونة الله لداود عليه السلام وإرشاده إلى الصواب، نورد ثلاثا من القضايا التي أصدر فيها حكما، ثم عدل عنه، بعد أن أظهر الله له الحق، والصواب.
الحادثة الأولى: حادثة الغنم
في يوم عبادة داود عليه السلام فوجئ وهو في المحراب برجلين، يدخلان عليه من فوق سور المحراب ليلا، ففزع منهما؛ لأنه تصورهما جاءا لقتله، وهم بالدفاع والقتال، فهدآ من روعه، وعرفاه بأنهما خصمان، اختصما في غنم بينهما، وطلبا منه الحكم بينهما، بما عرف عنه من دقة، وعدل، ورجواه ألا يظلم أحدهما، وأن يدلهما على الحكم العادل المستقيم، يقول تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1.
هدأت نفس داود عليه السلام وذهب عنه الروع، وجلس يسمع لهما، فقال المدعي:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 2، وضح المدعي الصلة بينه وبين المدعى عليه، وهي أنهما أصدقاء، وعلى دين واحد، وقال: إن المدعى عليه أراد أخذ نعجتي، وغلبني ببلاغته، وسلطانه
…
ويبدو أن المدعى عليه أقره على ما ادعى، فأصدر داود حكمه بعد أن عرف الدعوى، وسمع إقرار المدعى عليه
…
وكان عليه السلام أن يستقصي في البحث، ويسأل المدعي: من أين له هذه النعجة الواحدة؟ فلربما سرقها من المدعى عليه "وهو الذي كان".
حكم داود عليه السلام بعد إقرار المدعى عليه، وشعر بأنه تعجل، وأدرك أن هذا ابتلاء من الله، فاستغفر الله، وخر ساجدا، واستمر على سجوده حتى غفر الله له
1 سورة ص الآيات: 21، 22.
2 سورة ص آية: 23.
وقربه إليه، وعرفه بحسن المنزلة في الجنة، يقول تعالى:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} 1.
إن القضية حقيقة كظاهرها، فالرجلان من الإسرائيليين، ولأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللثاني نعجة واحدة، إلا أن الثاني سرق هذه النعجة من أخيه الأول، فأراد الأول أن يأخذ نعجته بحيلة، ولذا أقر بالدعوى التي عرضها صاحب النعجة الواحدة، ولم يشر إلى سرقة أخيه للنعجة، حياء وخلقا.
تعلم داود عليه السلام من هذه الحادثة ضرورة الاستقصاء في موضوع الدعوى، وهو ما يعرف بالتحري والشهود، وأخذ رأي الخبراء؛ ولذلك استغفر ربه على تعجله، ورجع عنها، وقبل الله توبته، وغفر له.
ولا يصح أن يقال: إن داود أخطأ في عدم سماع رأي المدعى عليه؛ لأنه أمر لا يتصور من داود عليه السلام فسماعه رأي الطرفين من بدهيات التقاضي، ولا يخطئ فيها داود عليه السلام لكثرة خبرته، وإنما الخطأ كان في تسرعه؛ لأنه رأى الظلم بينا أمامه.
وفي القصة روايات لا تقبل في حق نبي الله داود عليه السلام ولا يمكن تصورها لأنها تتعارض مع عصمة رسل الله تعالى؛ ولذا نوردها في الهامش موجزة2.
1 سورة ص الآيات: 23-25.
2 يقال: كان لداود عليه السلام تسع وتسعون زوجة، وذات يوم رأى زوجة قائد جيشه "أوريا" فأحبها، وخطط للتخلص من زوجها، فأرسله في غزوة عاد منها، فأرسله في ثانية، وثالثة حتى قُتل، وبعدها تزوجها داود عليه السلام
…
وهذا من افتراء اليهود على داود، فهل يليق برسول أن ينظر إلى امرأة غيره، ويتآمر لقتل زوجها، ويكلفه بغزوات لغاية قتله؟!
جاء في سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الحادي عشر ما هو أفدح، جاء "أن داود أقام في أورشليم، وكان في وقت المساء، قام عن سريره، وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ، وكانت المرأة جميلة جدا، فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها، وحبلت المرأة من داود، فاستدعى زوجها، وأعطاه إجازة؛ ليبيت معها ويستر الفضيحة، لكن الزوج رفض ترك الميدان والحرب، فأمر داود بقتل الزوج في الحرب وبعدها تزوج المرأة
…
هل هذا حديث يليق برسول؟! وهل الكتاب المتضمن لهذه الأقوال مقدس، منزل!
ويقول آخرون: إن المرأة كانت مخطوبة ولم تتزوج.
ويرى أصحاب هذه الأقوال أن الملكين جاءا لداود ليعلم خطأه، ويرجع عنه، ويذهب الفاهمون إلى أن اليهود قصدوا تشويه صورة داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من نسله، وبذلك يجدون لأنفسهم عذرا في عدم الإيمان بعيسى عليه السلام.