الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن التفوق المادي والحضاري الذي عاشته عاد، صاحبه سوء أخلاقهم وفساد دينهم، وتغلغلهم في الكفر والضلال.
لقد تخيلت عاد أن تفوقهم سبيلهم إلى التحكم في الآخرين، وتوجيه الناس كما يريدون، وظنوا أن من حقهم السيطرة على الأفكار والعقول، وعملوا على أن تسود آلهتهم كل من يخالطهم بما فيهم أخوهم هود، ولكنه عليه السلام:{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1، فتبرأ من آلهتهم وأشهد الله تعالى على هذه البراءة، كما أشهدهم أيضا؛ ليعلموا أنه ليس على دينهم، وضلالهم.
1 سورة هود آية: 54.
"
النقطة الثانية": "حركة هود بالدعوة
"
اختار الله تعالى هودا من بين عاد، وأنزل عليه الوحي، وكلَّفه بتبليغ الرسالة لهم، فصدع بالأمر، قال تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1.
فربط العبادة بضرورة التوجه بها لله الواحد؛ لأن عبادة غيره شرك لا يصح أبدا.
وبين لهم عليه السلام أنه واحد منهم مهتم بمصلحتهم، وسعادتهم، ووضح لهم أنه رسول الله إليهم، وأنه ناصح أمين يبلغهم رسالة الله ودينه، لا يأخذ منهم أجرا ولا نفعا، فأجره على الله، وهو سبحانه مبتغاه ومقصده، قال لهم:
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} 2.
1 سورة الأعراف آية: 65.
2 سورة الأعراف آية: 68.
وقال لهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.
وقدم لهم من الأدلة والبراهين التي تعرفهم بالله، وبصفاته، وتوضح لهم ضرورة التوجه بالعبادة لله تعالى، وتبين لهم أن الله هو خالقهم، والمنعم عليهم، وهو سبحانه الذي أعطاهم كافة ما هم فيه من قوة، وصحة، ومدنية، وحضارة، والواجب التسليم بذلك؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكل شيء بيده سبحانه وتعالى، قال لهم عليه السلام:{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 2.
قال تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، وقال تعالى:{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 5.
دعاهم إلى الله بالحسنى، وعرفهم بالله الذي خلقهم، ورزقهم، وملأ الكون والحياة بالبراهين الدالة عليه سبحانه، وهم يرونها، ويتمتعون بخيراتها.
1 سورة الشعراء آية: 127.
2 سورة هود آية: 52.
3 سورة هود آية: 56.
4 سورة الأعراف آية: 69.
5 سورة الشعراء الآيات: 132-135.
وكان عليه السلام رفيقا بهم، حليما في خطابهم، وهو يذكرهم بعذاب الله تعالى، فبيّن لهم أنه يخاف عليهم، وأنه يتمنى نجاتهم وفوزهم برضى الله تعالى، حتى لا تنزل بهم العقوبة إن لم يؤمنوا برسالته، ويتبعوا دعوته.
تمسكت عاد بضلالها، وأخذوا يردون على هود في عتوّ، واستكبار، ولم يسلموا بوحدانية الله تعالى، وأعلنوا أن عبادة آبائهم للأصنام، وللآلهة المتعددة هي دينهم، ولن يحيدوا عنه أبدا، وقالوا له:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1.
وزعموا في استعلاء الجاهل أنه لم يقدم لهم دليلا مقنعا يبعدهم عن الشرك، وقالوا له:{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 2، ولم يتأثروا بدعوته، ولا بالآيات التي ذكرها.
وأخذوا يسبّونه، ويشتمونه، ويتهمونه بخفة العقل والكذب، قال تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3، وصدقوا أنفسهم في أكاذيبهم، وتصوروا لأصنامهم قدرة تنفع وتضر، وقالوا له:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 4، واستمروا في ضلالهم وكفرهم، فتبرأ هود عليه السلام منهم ومن آلهتهم، وكرر عليهم وعيد الله تعالى بعذابهم إن لم يؤمنوا.
1 سورة الأعراف آية: 70.
2 سورة هود آية: 53.
3 سورة الأعراف آية: 66. ويلاحظ أنهم جعلوه واحدا من الكاذبين، فشتموا بذلك سائر الأنبياء والدعاة.
4 سورة هود آية: 54.
وأكدوا له أنهم لن يؤمنوا مهما دعاهم، وكرروا زعمهم بأنهم لن يعذبوا، وقالوا لـ "هود":{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 1.
فرد عليهم هود عليه السلام معلنا كلمة النهاية معهم، قال تعالى:{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} 2، وتوقف هود عن دعوتهم ووعظهم، وتركهم حتى حاق بهم وعد الله تعالى
…
يوضح القرآن الكريم ذلك العذاب الذي نزل بهم في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 3، وقال تعالى:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} 4.
ويقول المؤرخون: لما عتت عاد، وأصرت على كفرها وضلالها، واستهزأت برسول الله إليهم، أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فأرسلوا وفدا مكونا من سبعين رجلا على رأسهم "قيل بن عنز" إلى مكة ليستسقوا عند بيت الله الحرام، واستقبلهم بظاهر مكة معاوية بن بكر، الذي تربطهم به خئولة، ومصاهرة، ومودة
…
وبعد
1 سورة الشعراء الآيات: 136-138.
2 سورة الأعراف آية: 71.
3 سورة الذاريات الآيات: 41، 42.
4 سورة الحاقة الآيات: 6-8.
مقامهم عنده شهرا مضوا إلى الحرم1 فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله ثلاث سحابات بيضاء، وسوداء، ثم نادى منادٍ من السماء: أن يا قيل اختر سحابة منها لنفسك، ولقومك، فاختار السوداء، فنودي: أن اخترت رمادا أرمدا، لا يبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلته همدا، فخرجت السحابة على عاد في وادٍ يقال له: المغيث، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} 2.
وهكذا أهلكهم الله بالريح العقيم التي تقضي على كل شيء، وقد استمر هبوبها سبع ليال وثمانية أيام بشدتها، وقوتها بلا انقطاع، حتى أهلكت الكفار جميعا وأبقتهم صرعى جلوسا في أماكنهم كجذوع النخل، وقد تقطع ورقها
…
3.
ونجى الله هودا ومن آمن به، وصدق وعد الله، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 4.
1 تشير هذه الرواية إلى أن مكة والحرم، وجدتا قبل إبراهيم عليه السلام، وهذا يعني أنهما اندثرتا في الزمن القديم قبل مجيء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلما جاءا إلى مكة عرفهما الله مكانهما فأعادا بناءهما، وقد روي أن الكعبة بنتها الملائكة قبل آدم عليه السلام.
2 سورة الأحقاف آية: 24، 25.
3 البداية والنهاية ج1، ص126، 127.
4 سورة هود آية: 58.