الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ديار خارجة عن مملكة فرعون فاطمئن ولا تخف، وقدم له الطعام والمأوى ضيفا كريما، بعد أن رفض أخذ أجرة على مساعدته للنسوة.
بعد أن اطمأن موسى عند شعيب، وطعم واستراح، قالت البنت التي دعته لأبيها: يا أبت استأجره، فهو قوي أمين، فعرض شعيب رؤيته عليه، واقترح عليه أن يتزوج واحدة من بناته، بعد أن يعمل لديه أجيرا مدة ثماني سنوات، وإن زادها إلى عشر فالزيادة تبرع محض، له أن يقبلها، أو يرفضها منعا للحرج والمشقة.
وافق موسى على اقتراح شعيب، على أن يترك تحديد أي الأجلين الذي سيقضيه موسى لوقته، وله أن يختار أي الأجلين بلا لوم، أو عتاب.
أتم موسى عليه السلام المدة، ودخل بأهله، يروي ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام:"أي الأجلين قضى موسى؟ " فأخبره أنه قضى عشر سنين2.
1 سورة القصص الآيات: 27، 28.
2 تفسير القرطبي ج13 ص280.
خامسا: تكليف موسى بالرسالة
بعد أن أتم موسى عليه السلام عمله عند شعيب، ودخل بزوجته، استأذن شعيبا أن يأخذ زوجته ويرجع إلى مصر لزيارة والدته وأقاربه، فأذن له، فخرج بأهله وغنمه، وصحبه في رحلة العودة إلى مصر زوجته وولدان له.
تاه موسى وصحبه في الطريق، فنزلوا بوادي طوى، في طور سيناء....
وجاء الليل بظلامه الدامس، وبرده القارس، وجاء المخاض لزوجته، وأصبحوا في حاجة ماسة للنار، لأسباب عديدة:
- إنهم يحتاجون للنار يعدون بها الطعام، وبخاصة للأم التي ولدت.
- ويحتاجون للنار تضيء لهم المكان؛ ليعرفوا أين هم، ويكتشفوا الحياة من حولهم.
- ويحتاجون للنار يستدفئون بها من برد الشتاء الشديد.
- ويحتاجون للنار ليعلم المارة أن ناسا هنا، فيأتون إليهم، ويستعينون بهم على معرفة الطريق إلى مصر.
أخرج موسى زنده وقدحه، لكنه بدل أن يخرج نارا أظهر ضوءا فقط، وهنا أبصر موسى بجانب الطور من بعيد نارا، فقال لأهله: استمروا في مكانكم، وسأذهب إلى مكان النار، لأعرف خبر ما عندها، وعسى أن أتمكن من إحضار جمرة نار ملتهبة تستدفئون بها من البرد، وتستعينون بها في إعداد الطعام، والمؤانسة.
عن هذه المرحلة، وحتى إقامة موسى وصحبه في طور سيناء يقول الله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْ لِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} 1.
والأجل الذي قضاه موسى هو المدة التي اتفق عليها مع شعيب، وجذوة النار قطعة منها، وهي القبس، أو الشهاب، ووعد موسى أهله بإحضار جزء من النار لحاجتهم إليه، ورجا أن يجد عند النار أناسا، يستهدي بهم عن الطريق إلى مصر.
وذهب موسى عليه السلام ناحية النار، واقترب منها، فإذا النار في شجرة، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة هذه الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة، ولا قوة الخضرة تغيران حسن ضوء النار، وحاول موسى عليه السلام أن يختبر طبيعة هذه النار، فأهوى إليها بضغث
1 سورة القصص آية: 29.
في يده فلم يحترق، وكان كلما اقترب منها ابتعدت عنه، وإن ابتعد اقتربت، ثم لم تزل تطمعه، ويطمعها، إلى أن وضح أمرها، وناداه الله وكلمه، وكلفه بالرسالة، يقول الله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
وحدد الله لموسى أصول الدعوة التي سيبلغ الناس بها، وذلك في قوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 2.
كلم الله تعالى موسى عليه السلام من جهة الشجرة، وعرف من كلام الله تعالى عددا من القضايا:
الأولى: عرفه الله بالمكان الموجود فيه وهو "الوادي المقدس"، وقد تجلى الله فيه وطهره، وأخرج منه الكفر والضلال، ويجب على موسى أن يحافظ على طهارة المكان وقداسته، ولله أن يفضل مكانا على مكان.
الثانية: أمره الله بخلع نعليه وهو بالمكان المقدس احتراما له وتواضعا؛ لينال بركة المكان، يقول القرطبي:"والعرف عند الملوك أن تخلع النعال تواضعا، فكأن موسى أُمر بذلك على هذا الوجه"3، ومن الجائز أن الأمر بخلع النعل كناية عن ضرورة تفريغ القلب من أمر الأهل والولد، والمعاش، وغيرها؛ ليتفرغ كليا للرسالة والدعوة.
1 سورة القصص آية: 30.
2 سورة طه الآيات: 11-16.
3 تفسير القرطبي ج11 ص172.
الثالثة: اختاره الله للرسالة، وكلفه باستماع الوحي، فوقف موسى عليه السلام وأخذ يستمع. روي عن وهب بن منبه، أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يجب لله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فلا يشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم، فيعمل بما يفهم1.
قالوا: إن موسى عليه السلام لما أمر بالاستماع، وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع2.
الرابعة: أخبره الله أن أول الدعوة توحيد الله تعالى في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فهو سبحانه واحد لا شريك له، وهو الواحد القهار.
الخامسة: عرفه بحتمية قيام الساعة، وفيها يحاسب الله الناس جميعا؛ لتجزى كل نفس بما تسعى.
السادسة: حذره الله من أعداء الله في الأرض؛ لأنهم يبذلون أقصى الجهد لصد الناس عن الإيمان، وهم في سعيهم ومحاولاتهم يبدءون بصرف الناس عن الطاعة شيئا فشيئا، ويستمرون معهم حتى يصرفوهم عن الدين بالكلية، وبذلك يكون الهلاك والموت، وعلى موسى أن يحذرهم حتى لا يردى.
تعجب موسى مما رأى، ومما سمع عند من كان يظنه نارا....
لقد جاء يقصد لهبا، ونارا، فأخذ نورا، ورحمة
…
وكان يتمنى أن يجد من يهديه لطريق مصر، فهداه الله إلى طريق إنقاذ الناس أجمعين.
سُر موسى بما رأى وبما سمع، وشعر أن الأمر ثقيل، والمهمة شاقة، تحتاج إلى قوة وثقة وإيمان ويقين، فأمده الله تعالى ببعض الآيات التي تمكنه من القيام
1 تفسير القرطبي ج11 ص176.
2 نفس المرجع ج11 ص176.
والآيات تشير إلى بداية وحي الله لموسى عليه السلام ومع بداية الوحى يحتاج الرسول إلى معجزات، يتأكد بها من اختيار الله له، وكان ما رآه موسى عليه السلام عند الشجرة كافيا، إلا أن الله تعالى أظهر له معجزتين أخريين تأكيدا لاختياره، وبرهانا على قومه، وقد علم الله عتوهم واستكبارهم، وتدريبا له على تلقي الوحي وتحمل التكاليف، وهاتان المعجزتان هما:
المعجزة الأولى: معجزة العصا
…
بدأ الله سؤال موسى عما بيمينه، والجواب هو العصا، لكن موسى أخذ يتحدث عن وظيفة العصا؛ حبا في إطالة الحديث مع ملك الوحي، أو مع الله، حيث قال: هي عصاي أملكها، وأتحامل عليها حين أمشي، وأضرب بها أغصان الشجر لتسقط فتأكلها غنمي، ولها منافع أخرى كثيرة
…
وكأني بموسى عليه السلام قد استشرف عظمة المقام، فأراد أن يسأله الله عن هذه المنافع الأخرى، ليطول الكلام، ويمتد اللقاء.... إلا أن الله أمره بإلقائها على الأرض، فألقاها، فإذا حية تسعى، خاف موسى من الحية، فأمره الله أن يأخذها بيده ولا يخاف منها، وسيعيدها الله عصا مرة أخرى كما كانت.
المعجزة الثانية: أمر الله موسى عليه السلام أن يضع يده تحت إبطه، وسوف يرى أنها ابيضّت بلا مرض ولا أذى، فإذا أراد أن يعيدها إلى حالتها الطبيعية فعليه أن يضعها مرة أخرى تحت إبطه، ويخرجها.
اطمأن موسى عليه السلام إلى اختيار الله له، وبدأ يتحرك للدعوة ويعمل لها.