الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الدعوة إلى العبادة
اتجه الرسل عليهم السلام جميعا إلى دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى، وترك تأليه ما سواه، ورأينا أن الدعوة إلى عبادة الله جاءت ملازمة للدعوة إلى التوحيد لأن التوحيد بلا عبادة عبث لا يجوز في دين الله تعالى.
إن العبادة تشعر الإنسان المخلوق، باحتياجه إلى الله الخالق، وتعتمد العبادة على فطرة الإنسان؛ لأنها ترتبط بغريزة التدين، التي تبدو في إحساس الإنسان بوجود سلطان غيبي، فوق قوى الكون، يوجد بلا سبب، خالق السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.
قد يبدو هذا الإحساس الفطري باهتا، ولذلك جاء الرسل، لتأكيد هذه الفطرة، وإبرازها في الجانب العملي للحياة، وترسم طريق استقامة الفطرة في تدينها لله، وعبادتها للخالق العظيم.
إن العبادة طاعة منهجية، والتزام عملي، وسلوك يشمل كل نشاط الإنسان ولعل اهتمام الرسالات بالعبادات على أساس هذا المفهوم، هو الذي سهل للعابدين من أتباع سائر الدعوات أن يتسموا بـ"المسلمين".
فنوح عليه السلام يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} 1 وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يقولان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 2 وإبراهيم ويعقوب يوصيان أولادهما ويقولان: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3.
1 سورة يونس آية "72".
2 سورة البقرة آية "128".
3 سورة البقرة آية "132".
ويوسف عليه السلام يقول لربه: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} 1.
وسليمان يرسل إلى بلقيس قائلا: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 2، فلما أسلمت قالت:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.
وإبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4، وحواريو عيسى قالوا:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 5.
ولا غرابة في هذه التسمية لأنها تتفق مع مفهوم العبادة في كثير من الجوانب إذ الأصل اللغوي لمادة الإسلام تحتمل معاني ثلاثة:
أحدها: الانقياد والمتابعة، وفي الحديث:"أن الله أعانني عليه حتى أسلم" 6، أي انقياد لي وكف عن وسوستي، وقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ، أي لا تقولوا ذلك؛ لأنه صار منقادا لكم ومتابعا.
والثاني: السلامة والأمانة، قال الأزهري: المسلم من دخل في باب السلامة.
والثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله في عبادته7، فالإسلام هو الإخلاص لله في عبادته.
هذه المعاني المحتملة من لفظة الإسلام، هي نفسها المعاني المستفادة من العبادة لأن العبادة فيها انقياد كامل لله، وإخلاص للمعبود، عن رغبة مستلزمة للأمن والسلامة
1 سورة يوسف آية "101".
2 سورة النمل آية "31".
3 سورة النمل آية "44".
4 سورة آل عمران آية "67".
5 سورة آل عمران آية "52".
6 صحيح مسلم ج17 ص157 بشرح النووي.
7 مفاتيح الغيب ج2 ص638.
يقول الرازي عند قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} 1 أي إني أسلمت وجهي لله، لا أعبد غيره، ولا أتوقع الخير إلا منه، ولا أخاف إلا من قهره، وسطوته، ولا أشرك به غيره2 وبذلك يتضمن إسلام الوجه الإخلاص، وكمال العبودية، وقصرها على الله وحده، فدعوة الرسل إلى العبادة دعوة إلى الإسلام في الحقيقة.
والعبادات التي دعا إليها الرسل نوعان:
الأول: نوع محدد مقدر مكيف بنص مقدس لا يقبل التغيير والتبديل.
الثاني: نوع غير محدد، ويدخل في إطار قواعد كلية تحتوي على جزئيات عديدة، حدثت أو لم تحدث.
أما عن النوع الأول فيقول الغزالي عنه، "إنه محدد مقدر من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة"3، ويقول العقاد عنها: "أنها شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها4.... والعبادات المحددة هي التي يلتمس أثرها عادة، ويطلب سرها كالصوم والصلاة، والزكاة والحج، وقد اتفقت الدعوات السابقة في وضع أصولها للناس، حتى يتحقق الانقياد العملي ويظهر الإخلاص لله تعالى بها.
هذا هو سيدنا إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يمكنه وذريته من إقامة الصلاة فيقول: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} 5.
ومن الأوصاف التي استحق بها سيدنا إسماعيل المدح إقامته للصلاة: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 6.
1 سورة آل عمران آية "20".
2 مفاتيح الغيب ج2 ص630.
3 المنقذ من الضلال ص185.
4 حقائق الإسلام ص108.
5 سورة إبراهيم آية "40".
6 سورة مريم آية "55".
وحينما كلف موسى بالرسالة، كان أول ما أمر به هو الصلاة حيث قال الله له:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1 وأمره الله وأخاه هارون فقال تعالى: {أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 2.
ومن وصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 3.
والصلاة والزكاة، أول ما نطق به عيسى عليه السلام في المهد إذ قال:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 4.
فنرى الرسل قد كلفوا بإقامة الصلاة وبلغوا هذا التكليف.
إن الصلوات الواردة على ألسنة الرسل أعمال مكررة، في مواعيد ثابتة، وتحتاج إلى تدبر، وتذكر، وخشوع، كما يدل على ذلك لفظ إقامة الذي أسندت إليه الصلاة، وكيفية هذه الصلاة من ناحية الإحاطة بها تحتمل رأيين:
الأول: أن يطلع الله كل رسول على كيفية صلاة الأمم السابقة، وتفاصيلها وهيئتها لتبقى معلومة لديه.
الثاني: أن لا يطلع الله الرسل على التفاصيل، وإنما يعرفهم بها في إجمال، وهذان الرأيان ذكرهما الرازي عند تفسيره لقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 5 وقد ذكر في سورة لقمان أن هذه الكيفية للصلاة اختلفت هيئاتها من رسالة إلى رسالة، وإن اتحدت في حقيقتها وغرضها6.
1 سورة طه آية "14".
2 سورة يونس آية "87".
3 سورة لقمان آية "17".
4 سورة مريم آية "31".
5 مفاتيح الغيب ج6 ص18.
6 مفاتيح الغيب ج6 ص863.
وسواء كانت كيفية الصلاة معلومة للرسل، أو غير معلومة، فإنه لا يمنع أن يكون هناك اشتراك في بعض أجزاء هذه الكيفية كالتوجه إلى قبلة، وإن اختلفت، فلقد عرف أن اليهود كانت تتوجه إلى بيت المقدس، كما ثبت من مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في هذا التوجه، بعد الهجرة واستمر في هذه المشاركة سبعة عشر شهرا حتى أمر بالتحويل إلى الكعبة1، وكالركوع والسجود فإن إبراهيم "عليه السلام قال:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2، ومريم نوديت:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3، وداود عليه السلام {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} 4، وكتأدية الصلاة في مكان طاهر كالمسجد والبيع والكنائس، والزكاة أيضا بمعناها البسيط الذي هو إعطاء المحتاج جزء من المال معونة له جاءت أصولها في الرسالات السابقة.
فعن إبراهيم: وابنه إسحاق، يقول تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 5.
ومن صفات إسماعيل عليه السلام وصلاحه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} 6، ومن أقوال المسيح في مهده:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} 7.
وجاء في العهد القديم: "أنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير"8، وجاء أيضا:"من يرحم الفقير يقرض الرب"9.
1 لباب النقول ج1 ص23، 24.
2 سورة الحج آية "26".
3 سورة آل عمران آية "43".
4 سورة ص آية "24".
5 سورة الأنبياء آية "73".
6 سورة مريم آية "55".
7 سورة مريم آية "31".
8 مزامير - إصحاح 72 فقرة 4.
9 المثال - إصحاح 10
وجاء في العهد الجديد: "بع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء"1، وجاء فيه أيضا:"تعالوا يا مباركي أبي، ورثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلي. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين، يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك، أو عطشانا فسقيناك، ومتى رأيناك غريبا فأويناك، أو عريانا فكسوناك، ومتى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا إليك، فيجيب الملك ويقول: الحق أقول لكم بما إنكم فعلتموه بأحد إخواني هؤلاء الأصاغر في فعلتم"2.
والصيام معروف في الرسالات السابقة، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.
والحج منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام معروف للناس بعد أمر الله له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} 4.
وعلى هذا فأصول العبادات موجودة في جميع الرسالات السابقة، وذكر وجود هذه الأصول منذ القيم يفيد تقبلها؛ لأن العبادة تكليف ومشقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله، يقول أبو السعود في ذكر العبادات تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب المخاطبين به فإن الشاق إذا عم سهل همله5.
1 انجيل متى - الإصحاح 19 - فقرة 21.
2 انجيل متى - إصحاح 26 - فقرات 34: 40.
3 سورة البقرة آية "183".
4 سورة الحج آية "27".
5 تفسير أبي السعود ج1 ص198.
وكما سبق من اختلاف كيفية الصلاة فبقية العبادات تختلف أيضا في الكيفية إن جميع الرسالات جعلت الصوم امتناعا عن المفطرات، في وقت معلوم، والتشبيه الوارد في قوله:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 يفيد المماثلة في أصل الوجود، أو في الوقت، أو في المقدار، وقد رجح الفخر الرازي أن المماثلة في أصل الوجود فقط؛ لأن الكيفية تختلف على حساب استعدادات المكلفين، وقدراتهم2.
ويكفي أن تعلم أن الكيفيات التي وضعت فيها العبادات سابقا، كانت تتضمن الانقياد لله، والامتثال المطلق في النفس، والمال، وكافة ما يستطيعه البشر.
أما العبادات الغير محددة فقد وضعت مبادئها في دعوات الرسل، وهم ينادون أقوامهم بترك الفساد في الأرض، وإصلاحها بالخير والإصلاح، والتعاون والبر، والتقوى والمحافظة على حقوق الله، وحقوق الناس.
1 سورة البقرة آية "183".
2 مفاتيح الغيب ج2 ص171.