الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: يوسف في بيت عزيز مصر
حينما أخذ التجار يوسف صغيرا من الجب، ذهبوا به إلى مصر، وباعوه بثمن زهيد.
شاءت إرادة الله تعالى أن يكون الذي اشتراه هو وزير مصر الأول؛ ليتحقق له ما قضى به سبحانه وتعالى.
وكان يلقب وقتذاك بـ "العزيز"، ولم يكن للعزيز ولد، فأخذ يوسف لزوجته وقال لها:{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} 1.
فبدل الله يوسف بالجب قصر الملك؛ ليتمتع فيه بكرم المنزلة، وطيب الطعام، وحسن الملبس، والاطلاع على أمور الناس، وأحوال المعاش، وليتعلم ما يعرفه أمثاله من أبناء الملوك والأمراء.
وكانت أمنية العزيز من تبني يوسف أن يساعده في مهامه، أو يتخذه وزوجته ولدا يئول إليه الأمر من بعده.
ورحبت امرأة العزيز بهذا الصغير، واهتمت بتربيته، واعتنت بتعليمه، وسرعان ما أحبه كل من عاشره من خدم وحشم القصر، لما كان يتمتع به من جمال باهر، وأدب رفيع، وطاعة سريعة.
وقد تأثرت زوجة العزيز بيوسف، وتعلق قلبها به، وشغفت بالحياة معه، فكانت تتزين أمامه، وتظهر مفاتنها ومحاسنها لتميله إليها، لكنه لم يلتفت إلى شيء من هذا، واستمر مستمسكا بالعفة والطهارة، والخلق الكريم.
انتقلت زوجة العزيز من التعريض للتصريح، وأعدت العدة لتنال من يوسف ما تشتهي، وتبغي، قال تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} 2.
1 سورة يوسف آية: 21.
2 سورة يوسف آية: 23.
نعم
…
هو في بيتها، شاب أعزب، يعيش تحت سيف العبودية، يجد نفسه أمام أميرة شابة، جميلة، تتهيأ له، وتعد المكان، وتطلب منه أن يستجيب لطلبها وقد تهيأت له واستعدت، وتكرر الطلب منها مرات متعددة.
لم يتأثر يوسف بهذه المغريات، وإنما تذكر ربه فاستعاذ به من أي سوء، وتذكر العزيز الذي أكرم مثواه، فقال لها على الفور:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1.
أي: أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه، وزوجك هو سيدي، وربي، الذي أكرمني ورباني، فكيف أخونه في أهله، وأجيبك إلى ما تريدين، وفي الاستجابة لك ظلم وعدوان على حق الله، وحق الناس، ولا يفوز الظالم بخير أبدا2.
وبهذا الموقف من يوسف عليه السلام تظهر أخلاقه بوضوح، فهو مؤمن، صاحب عقيدة، يستعيذ بالله تعالى، ويسأله المعونة في أداء حق سيده، الذي أكرمه، وأحسن مثواه، ولا يصح التعدي على حقوق الآخرين أبدا.
ويكبر الأمر في نفس امرأة العزيز، وتحس بطعنة توجه لكبريائها، فلا هي حققت غرضها، ولا هي تعففت، فتهم بضرب يوسف، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، فيتذكر حقها عليه فيجري بعيدا عنها، وتجري وراءه وتلحق به، وتقطع ثيابه من دبر حين أدركته قريبا من الباب.
وعند وصولهما إلى الباب يجدان العزيز عنده، وعندئذ تحاول المرأة تبرئة نفسها، وتتهم يوسف بمحاولة الإساءة إليها، والفتك بها، وطلبت ضرورة مجازاته بالسجن، أو بالتعذيب؛ لينال جزاء جرأته على سيدة القصر، وامرأة العزيز،
1 سورة يوسف آية: 23.
2 فتح القدير للشوكاني ج3 ص17 بتصرف.
وجد العزيز نفسه أمام قضية خطيرة تهمه
…
تدعي امرأة العزيز أن يوسف أراد بها الفاحشة، وينفي يوسف التهمة عن نفسه، ويذكر الحقيقة:{رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} ، ويحتكم العزيز إلى حاكم للقضاء من أهل زوجته، وإليه الإشارة في قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، وسمى القاضي شاهدا لما يحتاج إليه من التثبت والتأمل والتصور الصحيح للواقع كأنه رآه، وكان القاضي من أهلها، قيل: هو ابن عمها، أو ابن خالها، أو مستشار الملك، ويرى السهيلي أنه طفل تكلم في المهد حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شاهد يوسف ضمن من تكلموا في المهد، وكان القاضي عادلا حكيما، قال للملك: إن كان القميص قطع من أمام فهي صادقة؛ لجذبها القميص وهو مقبل عليها، وإن كان القميص قطع من دبر فهي كاذبة؛ لقطعها القميص وهو يجري منها.
قال الشاهد: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ
1 سورة يوسف الآيات: 24، 25، ويذهب المفسرون في تفسير قوله تعالى:{هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} مذاهب كثيرة، فمنهم من يقول:{هَمَّتْ بِهِ} هم: فعل وهم بها هم: ترك، ومنهم من يقول: بل هم بها هم: فعل لولا أن رأى برهان ربه، ومنه من يقدم ويؤخر فيقول: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها إلى غير ذلك من الأقوال، ونحن نرجح ما أشرنا إليه.
الصَّادِقِينَ} 1.
نظر الملك إلى القميص، فلما رآه قد من دبر علم الحقيقة، وتأكد من صدق يوسف وبراءته، فقال ليوسف ولزوجته، ما حكاه الله تعالى:{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} 2، أراد الملك بذلك ستر الموضوع بتركه، والتوبة عنه، والاستغفار له، لكن أمر النساء لا يبقى سرا أبدا.
وسرعان ما أخذ النسوة يتحدثن عن امرأة العزيز، وشغفها بحب يوسف، وخيانتها لزوجها، وتفريطها في طهارتها، سمعت امرأة العزيز بحديث النسوة، وأرادت إحاطتهن بما لم يحطن به ليعذرنها، فدعتهن إلى طعام، وأجلستهن على المقاعد الوثيرة، وسلمت كل واحدة سكينا تستعمله في أكلها، وبدل أن تحضر لهن الطعام أخرجت يوسف إليهن بحسنه وجماله، فلما رأينه سحرن به، وقطعن أيديهن بالسكاكين، وهن لا يدرين، وقالوا جميعا:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 3، حينئذ أبدت امرأة العزيز عذرها، قال تعالى:{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 4، يرى يوسف هذا الموقف فيعلن بكل وضوح، أن السجن أحب إليه من ارتكاب ما يدعونه إليه، ويسأل الله تعالى أن يصرف عنه كيد النسوة ليبقى طاهرا، نظيفا.
1 سورة يوسف آية: 26، 27.
2 سورة يوسف آية: 28، 29.
3 سورة يوسف آية: 31.
4 سورة يوسف آية: 32.