الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبقي الحلبيون عند تمرتاش يحثونه على التوجه إلى حلب، وهو يعدهم ولا يفعل، وهم يقولون له: نريد منك أن تصل بنفسك، والحلبيون يكفونك أمرهم.
فضاق الأمر بالحلبيين إلى حد أكلوا فيه الكلاب والميتات، وقلت الأقوات، ونفد ما عندهم، وفشا المرض فيهم، فكان المرضى يئنون لشدة المرض، فإذا ضرب البوق لزحف الفرنج قام المرضى كأنما أنشطوا من عقال، وزحفوا إلى الفرنج وردوهم إلى خيامهم، ثم يعودون إلى مضاجعهم.
فكتب جدي أبو الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم كتاباً إلى والده يخبره بما آل أمر حلب إليه من الجوع وأكل الميتات والمرض، فوقع كتابه في يد تمرتاش فغضب وقال: انظروا إلى هولاء يتجلدون علي، ويقولون إذا وصلت فأهل حلب يكفونك أمرهم، ويغررون بي حتى أصل في قلة، وقد
بلغ بهم الضعف إلى هذه الحالة.
رابعاً أق سنقر البرسقي
ثم أمر بالتوكيل والتضييق عليهم، فشرعوا في إعمال الحيلة والهرب إلى أق سنقر البرسقي، ليستصرخوا به فاحتالوا على الموكلين بهم، حتى ناموا وخرجوا هاربين، فأصبحوا بدارا.
وساروا حتى أتوا الموصل، فوجدوا البرسقي مريضاً مدنفاً، والناس قد منعوا من الدخول عليه إلا الأطباء، والفروج يدق له لشدة الضعف. ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك، فضرب البشارة في عسكره، وارتفع عنده التكبير والتهليل، ونادى بعض أصحابه أهل حلب: قد مات من أملتم نصره. فكادت أنفس الحلبيين تزهق.
واستؤذن للحلبيين على البرسقي فأذن لهم، فدخلوا إليه، واستغاثوا به، وذكروا له ما أهل حلب فيه من الضر، فأكرمهم رحمه الله وقال لهم: ترون ما أنا فيه الآن من المرض، ولكن قد جعلت لله علي نذراً إن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم، والذب عن بلدكم، وقتال أعدائكم.
قال القاضي أبو غانم قاضي حلب: فما مضى ثلاثة أيام بعد ذلك حتى فارقته الحمى، فأخرج خيمته، ونادى في العساكر بالتأهب للجهاد إلى حلب.
وبقي أياماً وعمل العسكر أشغاله وخرج رحمه الله في عسكر قوي، فوصل
إلى الرحبة، وكاتب أتابك طغتكين صاحب دمشق، وصمصام الدين خيرخان بن قراجا صاحب حمص.
ورحل إلى بالس، وسار منها إلى حلب فوصلها يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة من سنة ثماني عشرة.
ولما قرب من حلب رحل دبيس ناشراً أعلامه البيض إلى الفرنج عند قرية من حلب، وتحولوا إلى جبل جوشن كلهم. وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنهبوها ونالوا منها ما أرادوا.
وخرج أهل حلب والتقوا قسيم الدولة عند وصوله. وسار نحو الفرنج فانهزموا بين يديه من جبل جوشن، وهو يسير وراءهم على مهل حتى أبعدوا عن البلد.
فأرسل الشالشية، وأمرهم أن يردوا العسكر، فجعل القاضي ابن الخشاب يقول له: يا مولانا لو ساق العسكر خلفهم أخذناهم، فإنهم منهزمون والعسكر محيطة بهم. فقال له: يا قاضي تعلم أن في بلدكم ما يقوم بكم وبعسكري لو قدر علينا والعياذ بالله كسرة؟ فقال: لا. فقال: ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويكسرونا، ويهلك المسلمون، ولكن قد كفى الله شرهم وندخل إلى البلد ونقويه وننظر في مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ونخرج إليهم بعد ذلك.
ورجع ودخل البلد وتسلم قلعتها، ونظر في مصالح البلد وقواه، وأزال الظلم والمكوس وعدل فيهم عدلاً شاملاً وأحسن إليهم إحساناً كاملاً.
وكتب لأهل حلب توقيعاً بإطلاق المظالم والمكوس، نسخته موجودة، بعدما كان الحلبيون منوا به من الطلم والمصادرة من عبد الكريم والي القلعة، وعمر الخاص والي البلد، وتسليطهما الجند والأتراك على مصادرة الناس بحيث أنهم استصفوا أموال جماعة من الأكابر والصدور وغيرهم في حالة الحصار.
وأما الفرنج فإنهم توجهوا إلى الأثارب ودخلوا أنطاكية.
وشرع الناس في الزرع ببلد حلب في الثاني عشر من شباط وجعلوا يبلون الغلة بالماء، ويزرعونها فنبتت وتداركت عليها الأمطار فأخصبت، وجاءت الغلة من أجود الغلاء وأزكاها.
وأطلق البرسقي بني منقذ من الاعتقال بقلعة حلب، ورحل إلى تل السلطان في سنة تسع عشرة وخمسمائة، في أواخر المحرم، وأقام به ثلاثة أيام، ورحل إلى أن وصل إلى شيزر في سابع صفر، وتسلم أولاد الفرنج من ابن منقذ، وباعهم بثمانين ألف دينار حملت إليه.
وأقام بأرض حماة أياماً حتى وصل إليه أتابك طغتكين، فرحل في عساكره التي لا تحد كثرة، ونزل كفر طاب فسلمت إليه يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر، وسلمها إلى صمصام الدين خيرخان بن قراجا، وكان قد
وصل إليه من حمص والتقاه بتل السلطان.
وسار إلى عزاز وقاتلها، ونقبت قلعتها فقصدهم الفرنج، فالتقوا سادس عشر ربيع الآخر، وكسر البرسقي كسرة عظيمة، واستشهد جماعة من المسلمين من السوقة والعامة، ولم يقتل من الأمراء والمقدمين أحد.
ووصل أق سنقر البرسقي سالماً إلى حلب، وأقام على قنسرين أياماً، وتفرقت العساكر إلى بلادهم، ووصل أمير حاجب صارم الدين بابك بن طلماس، فولاه البرسقي حلب وبلدها، وعزل عنها سوتكين والياً كان ولاه.
ووقعت الهدنة بين البرسقي والفرنج على أن يناصفهم في جبل السماق وغيره مما كان بأيدي الفرنج، وسار البرسقي إلى الموصل فلم يزل الفرنج يعللون الشحن والمقطعين بالمحال في مغل ما وقعت الهدنة عليه إلى العشرين من شعبان من السنة.
وسار بغدوين إلى بيت المقدس والرسول خلفه يعلمه بأن الفرنج لا يمكنون
أحداً من رفع شيء من الصيافي، وأخذ بعض متصرفي المسلمين بعض الارتفاع من بعض الأماكن والهدنة على حالها، فتجمع الفرنج ونزلوا رفنية.
وخرج شمس الخواص صاحبها طالباً أق سنقر البرسقي مستصرخاً به، وسلمها إليهم ولده المستخلف فيها في آخر صفر من سنة عشرين وخمسمائة، وقصدوا بلد حمص فشعثوه.
فجمع البرسقي العساكر وحشد، وسار نحو الشام لحربهم حتى وصل الرقة في أواخر شهر ربيع الآخر، وسار إلى أن نزل بالنقرة على الناعورة في الشهر المذكور، وأقام به أياماً والفرنج يراسلونه، فراسله جوسلين على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة وأن يكون الحرب بينهما على غير ذلك، فاستقر هذا الأمر. وكان بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار وشهريار بك ابن عمه، قد توجها مع جماعة من التركمان إلى المعرة فأوقعوا بعسكر الفرنج، وقتل المسلمون منهم مائة وخمسين، وأسروا جفري بلنك، صاحب بسرفوث، من جبل بني عليم، وأودع في سجن حلب.
وكان قد سير البرسقي ولده عز الدين مسعوداً منجداً لصاحب حمص، فاندفع الفرنج عنها فعاد عز الدين إلى والده، فتركه بحلب، وعزل بابك، عن ولايتها وولاها كافور الخادم إلى أن ينظر فيمن يوليه إياها ولاية مستقلة.
ورحل قسيم الدولة إلى الأثارب في الثامن من جمادى الآخرة من سنة عشرين، وسير بابك بن طلماس في جماعة من العسكر والنقابين إلى حصن الدير المجدد فرق سرمداً ففتحه سلماً.
وقتل من الخيالة بعد ذلك خمسون فارساً، ونهب العساكر الغلال والفلاحين في سائر البلد الذي وصلت الغارات إليه، ورفعوا الغلة جميعها إلى حلب، وزحفوا إلى قلعة الأثارب، وخربوا الحوشين، ولم يتيسر فتحها.
ووصل بغدوين من القدس في جموع الفرنج، ووصل إليه جوسلين، ونزلوا عم وأرتاح، وسيروا إلى البرسقي: ترحل عن هذا الموضع، ونتفق على ما كنا عليه