الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم السادس
حلب في أيام سعد الدولة الحمداني 356 - 381 هجرية
وقام بالأمر بحلب الحاجب قرغويه غلام سيف الدولة، من قبل ابن سيف الدولة، فبقي بها إلى أن مضى غلمان سيف الدولة إلى ميافارقين، فأحضروا ابنه سعد الدولة أبا المعالي شريف بن علي بن عبد الله بن حمدان، وكان مع والدته أم الحسن ابنة أبي العلاء سعيد بن حمدان بها.
فدخل حلب، يوم الأثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول، من سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وزينت له المدينة، وعقدت له القباب، وجلس على سرير أبيه، وجلس الحاجب قرغويه على كرسي، والمدبر لدولته وزيره أبو إسحاق محمد بن عبد الله بن شهرام كاتب أبيه.
وقبض أبو تغلب بن ناصر الدولة بن عبد الله بن حمدان على أبيه ناصر الدولة، في هذه السنة، فامتعض حمدان بن ناصر الدولة لذلك وعصى على
أخيه بالرقة والرحبة. فسار أبو تغلب إليه إلى الرقة، وحصره فيها إلى أن صالحه على أن يقتصر على الرحبة، ويسلم إليه الرحبة والرافقة. وكتب لأبي تغلب توقيع بتقليده أعمال ناصر الدولة وسيف الدولة من المطيع، وهو بالرقة.
وكأن قرغويه قد جاء إلى خدمته، وهو يحاصر أخاه، فلما صالح أخاه قدم حلب جريدة، وزار ابن عمه سعد الدولة، وعاد إلى الموصل.
وأقام سعد الدولة إلى أن تجدد بينه وبين ابن عمه أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وهو خاله وحشة وكان بحمص.
فتوجه سعد الدولة إليه، فانحاز إلى صدد، ونزل سعد الدولة بسلمية، وجمع بين كلاب وغيرهم وقدم الحاجب قرغويه وبني كلاب على مقدمته، مع قطعة من غلمان أبيه، فتقدموا إلى صدد. فخرج إليهم أبو فراس وناوشهم، واستأمن أصحابه، واختلط أبو فراس بمن استأمن. فأمر قرغويه بعض غلمانه بالتركية بقتله، فضربه بلت مضرس، فسقط، ونزل فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة.
وبقيت جثته مطروحة بالبرية، حتى كفنه رجل من الأعراب، وذلك في شهر ربيع من سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. ولطمت أمه سخية حتى قلعت عينها عليه، وكانت أم ولد.
وفي سنة 357 هـ خرج في هذه السنة فاثور للروم في خمسة آلاف فارس وراجل، فصار إلى نواحي حلب، فواقعه قرغويه بعسكر حلب، فأسر قرغويه، ثم أفلت، وانهزم أصحابه، وأسر الروم جماعة من غلمان سيف الدولة.
ثم إن نقفور ملك الروم خرج إلى معرة النعمان ففتحها، وأخرب
جامعها وأكثر دورها، وكذلك فعل بمعرة مصرين، ولكنه أمن أهلها من القتل، وكانوا ألفاً ومائتي نفس، وأسرهم، وسيرهم إلى بلد الروم.
وسار إلى كفر طاب وشيزر، وأحرق جامعها، ثم إلى حماة ففعل كذلك، ثم إلى حمص، وأسر من كان صار إلى تلك الناحية من الجفلة.
ووصل إلى غرقة ففتحها وأسر أهلها، ثم نفذ إلى طرابلس وكان أهلها قد أحرقوا ربضها، فانصرف إلى جبلة ففتحها، ومنها إلى اللاذقية، فانحدر إليه أبو
الحسين علي بن إبراهيم بن يوسف الفصيص. فوافقه على رهائن تدفع إليه منها، وانتسب له فعرف نقفور سلفه، وجعله سردغوس. وسلم أهل اللاذقية.
وانتهى إلى أنطاكية، وفي يده من السبي مائة ألف رأس، ولم يكن يأخذ إلا الصبيان والصبايا والشباب، فأما الكهول والمشايخ والعجائز فمنهم من قتله ومنهم من تركه. وقيل بأنه فتح في هذه الخرجة ثمانية عشر منبراً. وأما القرى فلا يحصى عدد ما أخرب منها وأحرق، ونزل بالقرب من أنطاكية، فلم يقاتلهم، ولم يراسلهم بشيء.
وبنى حصن بغراس مقابل أنطاكية ورتب فيه ميخائيل البرجي، وأمر أصحاب الأطراف بطاعته.
وتحدث الناس أنه يريد أن ينازل أنطاكية طول الشتاء، وينفذ إلى حلب أيضاً من ينازلها. فأشار الحاجب قرغويه على سعد الدولة أن يخرج من حلب، ولا يتحاصر فيها، فخرج إلى بالس فسير إليه قرغويه، وقال له: امض إلى والدتك، فإن أهل حلب لا يريدونك، ولا يتركونك تعود إليهم.
وحالف قرغويه أهل حلب على سعد الدولة، وتقرب إليهم بعمارة القلعة وتحصينها، وعمارة أسوار البلدة وتقويتها فيئس سعد الدولة من حلب، ومضى أكثر أصحابه إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة.
وقطع قرغويه الدعاء لسعد الدولة، فعمل على قصد حران والمقام بها، فمنعه أهلها منها، وراسلهم، ووعدهم بالجميل فلم يستجيبوا له، فسألهم أن يتزود منها يومين، فأذنوا له في ذلك. فمضى إلى والدته إلى ميافارقين، وحران شاغرة يدبرها أهلها، ويخطبون لأبي المعالي سعد الدولة.
ولما قرب أبو المعالي من ميافارقين بلغ والدته أن غلمانه وكتابه عملوا على القبض عليها وحملها إلى القلعة، كما فعل أبو تغلب بناصر الدولة، فطردت الكتاب،
وأغلقت أبواب المدينة في وجه ابنها ثلاثة أيام حتى استوثقت منه، وفتحت له. وحين علم ملك الروم بتقوية قرغويه لحلب دخل بلاده.
وأما قرغويه فاستولى على حلب في المحرم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وأمر غلامه بكجور وشاركه في الأمر ودعي لهما على المنابر في عمله. وكتب اسم بكجور على السكة. وكان يخاطب قرغويه بالحاجب، وغلامه بكجور بالأمير.
وحصل زهير غلام سيف الدولة بمعرة النعمان، وكان واليها، وانضاف إليه جماعة من غلمان سيف الدولة. فأقاموا الدعوة بالمعرة لسعد الدولة وكاتبوا مولاهم سعد الدولة أبا المعالي واستدعوه إلى الشام، فسار ونزل منبج، فاجتمعوا معه. ونزلوا على حلب في شهر رمضان من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وحاصروا قرغويه وبكجور. وجرت بينهم حروب يطول ذكرها.
وكتب قرغويه إلى الروم، فاستدعى بطريقاً كان في أطراف بلد الروم لنجدته، وهو خادم كان لنقفور ويعرف بالطربازي، فسار نحوه، ثم عدل إلى أنطاكية، وذلك أن ملك الروم لما نزل ببوقا، ومعه السبي والغنائم على ما ذكرناه توافق هو وأهلها، وكانوا نصارى في أن ينتقلوا إلى أنطاكية، ويظهروا أنهم إنما انتقلوا خوفاً من الروم، حتى إذا حصلوا بها، وصار الروم إلى أنطاكية وافقوهم على فتحها. ففعلوا ذلك ووافقوا نصارى أنطاكية، وكاتبوا الطربازي حين خرج بأن أنطاكية خالية، وليس بها سلطان.
وكان أهلها من المسلمين قد ضيعوا سورها، وأهملوا حراستها فجاء الروم إليها مع الطربازي ويانس بن شمشقيق، في أربعين ألفاً. فأحاطوا بأنطاكية، وأهل بوقا على أعلى السور في جانب منه، فنزلوا وأخلوا السور، فصعده الروم وملكوا البلد، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين.
ودخل الروم فأحرقوا وأسروا، وكانت ليلة الميلاد. فلما طلع الروم على جبلها، جعلوا يأخذون الحارس فيقولون له: كبر وهلل، فمن لم يفعل قتلوه، فكان الحراس يهللون ويكبرون، والناس لا يعلمون بما هم فيه، حتى ملكوا جميع أبرجتها، وصاحوا صيحة واحدة، فمن طلب باب الجنان قتل أو أسر.
واجتمع جماعة إلى باب البحر فبردوا القفل فسلموا، وخرجوا وبنوا قلعة في جبلها، وجعلوا الجامع صيرة للخنازير ثم إن البطرك جعله بستاناً.
ثم إن الطربازي سار إلى حلب، منجداً لقرغويه وبكجور، وأبو المعالي محاصر لهما فانحاز أبو المعالي شريف عن حلب إلى خناصرة، ثم إلى معرة النعمان.
فطمع الروم بحلب فنازلوها وهجموا المدينة من شماليها، وحصروا القلعة.
فهادنهم قرغويه على حمل الجزية، عن كل صغير وكبير من سكان المواضع التي وقعت الهدنة عليها، دينار، قيمته ستة عشر درهماً إسلامية، وأن يحمل إليهم، في كل سنة عن البلاد التي وقعت الهدنة عليها سبعمائة ألف درهم.
والبلاد: حمص، وجوسية، وسلمية، وحماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وحلب، وجبل السماق، ومعرة مصرين، وقنسرين،
والأثارب إلى طرف البلاط الذي يلي الأثارب وهو الرصيف، إلى أرحاب، إلى باسوفان، إلى كيمار، إلى برصايا، إلى المرج الذي هو قريب عزاز، ويمين الحد كله لحلب، والباقي للروم.
ومن برصايا يميل إلى الشرق، ويتصل وادي أبي سليمان إلى فج سنياب، إلى نافوذا، إلى أوانا، إلى تل حامد إلى يمين الساجور، إلى مسيل الماء إلى أن يمضي ويختلط بالفرات.
وشرطوا أن الأمير على المسلمين قرغويه، والأمر بعده لبكجورة وبعدهما ينصب ملك الروم أميراً يختاره من سكان حلب. وليس للمسلمين أن ينصبوا أحداً، ولا يؤخذ من نصراني جزية في هذه الأعمال، إلا إذا كان له بها مسكن أو ضيعة. وإن ورد عسكر إسلامي يريد غزو الروم منعه قرغويه، وقال له: امض من غير بلادنا، ولا تدخل بلد الهدنة. فإن لم يسمع أمير ذلك الجيش قاتله، ومنعه، وإن عجز عن دفعه كاتب ملك الروم والطربازي لينفذ إليه من يدفعه.
ومتى وقف المسلمون على حال عسكر كبير كتبوا إلى الملك وإلى رئيس العسكر، وأعلموهما به لينظروا في أمرهما.
وإن عزم الملك أو رئيس العسكر على الغزاة إلى بلد الإسلام، تلقاه
بكجور إلى المكان الذي يؤمر بتلقيه إليه، وأن يشيعه في أعمال الهدنة، ولا يهرب من في الضياع ليبتاع العسكر الرومي ما يحتاجون إليه، سوى التبن، فإنه يؤخذ منهم على رسم العساكر بغير شيء.
ويتقدم الأمير بخدمة العساكر الرومية إلى الحدث فإذا خرجت من الحد عاد الأمير إلى عمله، وإن غزا الروم غير ملة الإسلام سار إليه الأمير بعسكره، وغزوا معه كما يأمر.
وأي مسلم دخل في دين النصرانية فلا سبيل للمسلمين عليه، ومن دخل من النصارى في ملة الإسلام فلا سبيل للزوم عليه.
ومتى هرب عبد مسلم أو نصراني، ذكراً كان أو أنثى، من غير الأعمال المذكورة إليها، لا يستره المسلمون، ويظهرونه، ويعطى صاحبه ثمنه عن الرجل ستة وثلاثون ديناراً، وعن المرأة عشرون ديناراً رومية، وعن الصبي والصبية خمسة عشر ديناراً فإن لم يكن له ما يشتريه أخذ الأمير من مولاه ثلاثة دنانير وسلمه إليه. فإن كان الهارب معمداً فليس للمسلمين أن يمسكوه، بل يأخذ الأمير حقه من مولاه، ويسلمه إليه.
وإن سرق سارق من بلاد الروم، وأخفى هارباً أنفذه الأمير إلى رئيس العسكر الرومي ليؤدبه.
وإن دخل رومي إلى بلد الإسلام فلا يمنع من حاجته.
وإن دخل من بلد الإسلام جاموس إلى بلد الروم أخذ، وحبس. ولا يخرب المسلمون حصناً ولا يحدثوا حصناً فإن خرب شيء
أعادوه. ولا يقبل المسلمون أميراً مسلماً ولا يكاتبوا أحداً غير الحاجب وبكجور. فإن توفيا لم يكن لهم أن يقبلوا أميراً من بلاد الإسلام، ولا يلتمسوا من المسلمين معونة، بل ينصب لهم من يختاره من بلاد الهدنة.
وينصب لهم الملك بعد وفاة الحاجب وبكجور قاضياً منهم، يجري أحكامهم على رسمهم.
وللروم أن يعمروا الكنائس الخربة في هذه الأعمال، ويسافر البطارقة والأساقفة إليها، ويكرمهم المسلمون.
وإن العشر الذي يؤخذ من بلد الروم، يجلس مع عشار الملك مع عشار قرغويه، وبكجور فمهما كان من التجارة من الذهب، والفضة، والديباج الرومي، والقز غير معمول، والأحجار، والجوهر، واللؤلؤ، والسندس عشرة عشار الملك. والثياب والكتان، والمزبون، والبهائم، وغير ذلك من التجارات يعشره عشار الحاجب وبكجور بعده، وبعدهما يعشر ذلك كله عشار الملك.
ومتى جاءت قافلة من الروم، تقصد حلب، يكتب الزروار المقيم في الطرف
إلى الأمير ويخبره بذلك لينفذ من يتسلمها، ويوصلها إلى حلب. وإن
قطع الطريق عليها بعد ذلك، فعلى الأمير أن يعطيهم ما ذهب. وكذلك إن قطع على القافلة أعراب أو مسلمون في بلد الأمير، فعلى الأمير غرامة ذلك.
وحلف على ذلك جماعة من شيوخ البلد مع الحاجب وبكجور وسلم إليهم رهينة من أهل حلب: أبو الحسن بن أبي أسامة، وكسرى بن كسور وابن أخت ابن أبي عيسى، وأخو أبي الحسن الخشاب، وأبو الحسن بن أبي طالب، وأبو الطيب الهاشمي، وأبو الفرج العطار، ويمن غلام قرغويه. وكان المتوسط في هذه الهدنة رجل هاشمي من أهل حلب يقال له طاهر.
وعادت الروم عن حلب، وبقي الحاجب قرغويه في ولايتها، والتدبير إليه وإلى غلامه بكجور وذلك في صفر من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
وأقام سعد الدولة أبو المعالي بمعرة النعمان ثلاث سنين، وراسله الحاجب وبكجور ومشايخ حلب، في سنة ثمان وخمسين، على أن يؤدي إلى الروم قسطاً من مال الهدنة. وكان القيم بأمر أبي المعالي وعسكره رقطاش غلام سيف الدولة، وكان قد نزل إليه من حصن برزويه، وحمل إليه غلة عظيمة وعلوفة وطعاماً ووسع على عسكره بعد الضائقة.
ولم يؤد سعد الدولة ما هو مقرر من مال الهدنة على البلاد التي في يده.
فخرج الروم وهجموا حمص على غفلة.
وقيل: إن سعد الدولة استولى على حلب في سنة ثلاث وستين، ووصله في شهر ربيع الأول رسول العزيز وأبو القاسم أحمد بن إبراهيم الرسي من مصر فأقام الدعوة له بحلب في هذه السنة، وأرسل معه إلى مصر في
جواب الرسالة قاضي حلب، وأظنه ابن الخشاب الهاشمي.
ووصل إليه بكجور من حلب وهو بحمص، فخلع عليه أبو المعالي، وولاه حلب، وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر عملها فوافق بكجور غلمان سيف الدولة على القبض على مولاه قرغويه وقصد أبي المعالي، وقلعه من حمص، فقبض عليه. وسار أبو المعالي إلى حلب.
وقيل: دام الأمر بحلب مردوداً إلى قرغويه وبكجور، فأحب الأمير أبو الفوارس بكجور الحاجبي الكاسكي التفرد بالأمر دون مولاه، وحدث نفسه بالقبض عليه، فقبض عليه وغدر به، في ذي الحجة من سنة أربع وستين وثلاثمائة. واستولى على حلب، وانفرد بالأمر، وجعل الحاجب محبوساً بقلعة حلب.
وكان سعد الدولة إذ ذاك بحمص، فحين علم بذلك طمع بحلب، فتوجه إليها ومعه بنو كلاب، بعد أن أقطعهم بحمص الإقطاع المعروف بالحمصي، فنزل بهم على معرة النعمان، وبها زهير الحمداني، وقد استولى عليها، وعصى على مولاه، ففتح باب حناك، ودخلوا منه فقاتلهم زهير، وأخرجهم. ثم أحرقوا باب حمص، فخرج زهير مسلماً نفسه بعد أن حلف كبار الحمدانية أنهم لا يمكنوا أبا المعالي منه. فلما حصل معه غدر به فتغيرت
وجوه الحمدانية، فأمرهم بنهب الحصن فنبهوا ما فيه، وأنفذ زهيراً إلى حصن أفامية، فقتل هناك.
وسار أبو المعالي، ونزل بهم على باب حلب: وحاصرها مدة فاستنجد بكجور بالروم، وضمن لهم تسليم حلب وأموالاً كثيره، فتخلوا عنه. وكان نقفور لعنه الله قد قتل على ما شرحناه.
وجد سعد الدولة في حصارها والقتال، فسلم إليه بعض أهل البلد المرتبين في مراكز البلد برج باب الجنان، ورميت أبواب الحديد، وفتحها بالسيف فلم يرق فيها دماً وأمن أهلها.
وانهزم بكجور إلى القلعة فاستعصى بها، وذلك في رجب من سنة خمس وستين وثلاثمائة.
ثم أقام سعد الدولة يحاصر لقلعة مدة حتى نفد ما فيها من القوت، فسلمها بكجور إليه، في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وستين وثلاثمائة.
وولى سعد الدولة بكجور حمص وجندها وكان تقرير أمر بكجور بين سعد الدولة وبينه، على يد أبي الحسن علي بن الحسين بن المغربي الكاتب، والد الوزير أبي القاسم.
واستقر أمر سعد الدولة بحلب، وجدد الحلبيون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين.
وغير سعد الدولة الأذان بحلب، وزاد فيه: حي على خير العمل،
محمد وعلي خير البشر. وقيل: إنه فعل ذلك في سنة تسع وستين وثلاثمائة، وقيل: سنة ثمان وخمسين.
وسير سعد الدولة في سنة سبع وستين وثلاثمائة الشريف أبا الحسن اسماعيل بن الناصر الحسني يهنىء عضد الدولة بدخوله مدينة السلام، وانهزام بختيار بين يديه، فوجه إليه بتكنية الطائع، ووصلته خلعة منه ولقب بسعد الدولة فلبس الخلعة. ووصل معها خلع من عضد الدولة أيضاً وخاطبه في كتابه: بسيدي، ومولاي، وعدتي فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النامي بقصيدة أولها:
هوى في القلب لاعجه دخيل
وكان أبو صالح بن نانا الملقب بالسديد قد وزر لسعد الدولة، فانفصل عنه في سنة إحدى وسبعين، ومضى إلى بغداد فاستوزر مكانه أبا الحسن بن المغربي.
ونزل بردس الفقاس الدمستق على حلب، في شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين، ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله.
وطالب سعد الدولة بمال الهدنة، وترددت المراسلة بينهما، واستقر الأمر على أن يحمل إلى الروم كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة، ورحل في اليوم الخامس من وصوله.
وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، نزل بردس الدمستق عل باب حلب في خمسمائة ألف ما بين فارس وراجل، وكان قد ضمن لباسيل وقسطنطين ملكي الروم الأخوين أن يفتتح حلب، وينقض سورها حجراً حجراً وأنه يحمل سبيها إلى القسطنطينية.
واحتفل جمعاً وحشد من المجانيق والعرادات ما لا يحصى كثرة. وأقام بالحدث أياماً، يرهب الناس، ويهول عليهم، وسعد الدولة بحلب غير محتفل به.
ثم إنه أقبل وعلى مقدمته ملك الجزرية تريثاويل، وعلى ميمنته وميسرته البطارقة في الحديد السابغ، فارتاع الناس لذلك، وبث سراياه، وسعد الدولة قد أمر الغلمان بلبس السلاح، فدام على هذا ثلاثة أيام، ثم صف لقتال البلدة وسعد الدولة لا يخرج إليه أحداً حتى استحكم طمعه.
ثم إنه أمر غلمانه بالخروج إليهم في اليوم السابع، فحملوا حملة لم ير أشد منها وقتلوا فيها ملك الجزرية تريثاويل، وكان عمدة عسكرهم، فعند ذلك اشتد القتال.
وأمر سعد الدولة عسكره بالخروج إليه، فالتقوا في الميدان فرجع عسكره أقبح رجوع، وعليه الكآبة، وسير سعد الدولة جيشه خلفه غازياً حتى بلغت عساكره أنطاكية.
وكان الجيش مع وزيره أبي الحسن علي بن الحسين بن المغربي، فافتتح في طريقه دير سمعان عنوة بالسيف، وخرب دير سمعان، وكان بنية عظيمة وحصناً قوياً وقد ذكر لنا ذلك الواساني في بعض شعره.
وقيل: إن الدمستق رأى في نومه المسيح، وهو يقول له مهدداً: " لا تحاول أخذ هذه المدينة، وفيها ذلك الساجد على الترس. وأشار إلى موضعه في البرج الذي بين باب قنسرين، وبرج الغنم في المسجد المعروف بمشهد النور. فلما أصبح ملك الروم سأل عنه فوجده ابن أبي نمير عبد الرزاق بن عبد السلام العابد الحلبي، وكان ذلك سبباً لرحيله عن حلب.
وقيل: إنه صالح أهل حلب ورحل.
وقيل: هذا كان في نزول أرومانوس على تبل، سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
وكان ابن أبي نمير من الأولياء الزهاد والمحدثين العلماء وتو في بحلب في سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وقبره بباب قنسرين.
ويحتمل أن يكون في سنة إحدى وسبعين، حين نزل بردس على حلب ورحل
عنها عن صلح، في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فطلب من العزيز أن يوليه دمشق، وكاتب العزيز في إنفاذ عسكر ليأخذ له حلب، فأنفذ إليه عسكراً، فنزل على حلب إلى أن نزل الدمستق أنطاكية، فخاف أن يكبسه، فرحل عنها.
ولما يئس الدمستق من حلب، وخاف على نفسه أن يقتله ملك الروم، خرج إلى جهة حمص، فهرب بكجور من حمص إلى جوسية، فكاتب الدمستق أهل حمص بالأمان، وأظهر لهم أنه يسير إلى دمشق، وأنه مهادن لجميع أعمال سعد الدولة، فاطمأنوا إلى ذلك، وأمرهم بإقامة الزاد والعلوفة.
وهجم حمص في ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وأحرق الروم الجامع، وكثيراً من البلد.
وكان استوحش أبو المعالي من بكجور، فأمره أن يترك بلده ويمضي.
وصعد بكجور إلى دمشق فوليها في هذه السنة أعني سنة ثلاث من
قبل المصريين، وجار على أهل دمشق، وظلم، وجمع الأموال لنفسه، فجرد إليه عسكر من مصر مع منير الخادم في سنة ثمان وسبعين.
وكان بكجور يخاف من أهل دمشق لسوء سيرته، فبعث بعض عسكره، فكسره منير، فأرسل إليه بكجور وبذل له تسليم دمشق، والإنصراف عنها فأجابه إلى ذلك، فرحل عن دمشق متوجهاً إلى حوارين، في شهر رجب من سنة ثمان وسبعين.
ومضى إلى الرقة، وأقام فيها الدعوة للمصريين. وكان سعد الدولة قد انتمى إلى المصريين، وأقام الدعوة لهم بحلب، في سنة ست وسبعين وثلاثمائة ووصلته خلع العزيز أبي المنصور، في شعبان من هذه السنة فلبسها.
ومات الأمير قرغويه بحلب في سنة ثمانين وثلاثمائة.
ثم إن بكجور قوي أمره واستفحل، وأخذ إليه أبا الحسن علي بن الحسين المغربي، واستوزره لمباينة حصلت بينه وبين سعد الدولة وعاث على أعمال سعد الدولة، وجمع إليه بني كلاب، واستغوى بني نميرة فبرز مضرب الأمير سعد الدولة، يوم السبت الثاني والعشرين من محرم سنة إحدى وثمانين، إلى ظاهر باب الجنان.
وسار يوم السبت سلخ المحرم، على أربع ساعات، وقد كان بكجور
سار إلى بالس، وحاصر من كان بها فامتنعوا عليه، فقصده سعد الدولة، والتقوا على الناعورة، في سلخ المحرم من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
وهزم بكجور، وهرب، واختفى عند رحا القديمي على نهر قويق، وبث سعد الدولة الناس خلفه، وضمن لمن جاء به شيئاً وافراً، فظفر به بعض الأعراب، وأتى به إلى سعد الدولة، فضرب عنقه صبراً بين يديه، ببندر الناعورة، وصلبه على سبع ساعات من يوم الأحد مستهل صفر.
ورحل سعد الدولة يوم الثلاثاء إلى بالس فوجد بكجور قد أخرب ربضها، فأقام بها أربعة أيام.
ورحل حتى أتى الرقة، وبها حرم بكجور وأمواله وأولاده فتلقاه أهل الرقة بنسائهم، ورجالهم، وصبيانهم، فأقام بقية يومه.
ونزل أهل الرقة، فاحتاطوا بحرم بكجور وأولاده فآمنهم سعد الدولة، في اليوم التاسع من صفر، وتنجزت أمورهم إلى يوم الخميس الثاني عشر منه. ورضي عن أولاده، واصطنعهم، ووهب لهم أموال بكجور، وحلف لهم على ذلك، فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النامي بقصيدة أولها:
غرائز الجود طبع غير مقصود
…
ولست عن كرم يرجى بمصدود
ولما خرج أولاد بكجور بأموالهم وآلاتهم استكثرها سعد الدولة، فقال له وزيره أبو الهيثم بن أبي حصين:" أنت حلفت لهم على مال بكجور، ومن أين لبكجور هذا المال؟ بل هذه أموالك ". فغدر بهم، ونكث في يمينه، وقبض مال بكجور إليه، وكان مقداره ثمانمائة ألف دينار وصادر نواب بكجور، واستأصل أموالهم.
ثم عاد إلى حلب فأصابه الفالج في طريقه. وقيل: أصابه في طريقه قولنج فدخل إلى حلب، وعولج فبرىء. ثم جامع جارية له، فأصابه الفالج، واستدعى الطبيب، وطلب يده ليجس نبضه، فناوله اليسري، فقال: اليمين فقال: ما أبقت اليمين يمين يشير إلى غدره، ونكثه في اليمين التي حلفها لأصحاب بكجور. وكان مبدأ علته لأربع بقين من جمادى الأولى، ومات ليلة الأحد لأربع بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وحمل في تابوت إلى الرقة، ودفن بها.
وكان قاضي حلب في أيامه أبا جعفر أحمد بن إسحاق قاضي أبيه، ثم ولي قضاءها رجل هاشمي يقال له ابن الخشاب، ثم ولي الشريف أبو علي الحسن بن محمد الحسيني والد الشريف أبي الغنائم النسابة، وكان زاهداً عالماً ولاه سعد الدولة قضاء حلب وعزل ابن الخشاب عنه في سنة ثلاث وستين،
ودام في ولايته إلى تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي بعده أبو محمد عبيد الله بن محمد.
وكان العزيز أرسل إلى سعد الدولة يسأله إطلاق أولاد بكجور وتسييرهم إلى مصر فأهان الرسول، ولم يقبل الشفاعة، وورد عليه جواب متوعد متهدد.