الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجر المنجنيق فركب غيره، وعاد، وصرف الناس عن الحرب بعد أن أشرف البلد على الأخذ إبقاء لحرمة البلد، وكان عسكره دائرا بالبلد من جميع وجوهه.
ثم إن السلطان راسل الأمراء من بني كلاب وأحضرهم من البرية، فوصلوا إليه، وعول على تقليد بعضهم وتركه في مقابلة محمود وعوده لأجل ما بلغه من ظهور ملك الروم إلى بلاد أرمينية عازماً على قصد خراسان.
ولما علم محمود بأن البلد قد أشرف على الفتح، وعلم بوصول الأمراء من بني كلاب، وأنه إن تم ذلك خرج الشام من يده، فراسل السليماني
وكان يتردد إليه في الرسالة يعلمه إنه قد عزم على وطء بساط السلطان وخدمته خوفاً مما أشرف عليه. فخرج إلى السلطان بنفسه، ومعه والدته علوية، المعروفة بالسيدة، في أول شعبان، وأخذ مفاتيح البلد معه، فدخلا والعسكر سماطان بين يديه، فخدماه، وسلما عليه، فأكرمهما، وأحسن اليهما، وقال للسيدة: أنت السيدة. قالت: " سيدة قومي "، وقد ذكرنا إنه جرى لها ذلك مع المستنصر.
وأطلق له البلد، وشرفه، وخلع عليه، وكتب له توقيعاً بحلب، وتردد خروج محمود إلى خدمته مرة بعد أخرى، وقرر معه السلطان أن يخرج بعسكره، ويضيف إليه السليماني، وأن يتوجها إلى بلاد دمشق والأعمال المصرية لفتحها ففعل ما أمره به، وعاد السلطان إلى بلاده.
وقعة منازكرد
وقيل: إنه خفف ابنه مع فوج من عساكره بكورة حلب، وقصد ملك الروم، وأسرع في السير لأنه بلغه أن ملك الروم خرج في جموع لا تحصى، وأنه وصل إلى قاليقلا، وهي أرزن الروم. فوصل السطان إلى أذربيجان حين بلغه أن ملك
الروم قد أخذ على سمت خلاط، وكان السلطان في خواص جنده، وجموع عساكره بعيدة عنه، ولم ير العود إلى بلاده، فسير وزيره نظام الملك وزوجته الخاتون إلى تبريز مع أثقاله.
وبقي في خمسة عشر آلف فارس من نخبة عسكره مع كل واحد فرسه وجنيبه، والروم في زهاء ثلاثمائة آلف أو يزيدون ما بين فارس وراجل، من جموع مختلفة من الروم، والروس، والخزر، واللان، والغز، والقفجق، والكرج الأبخاز، والفرنج، والأرمن. وفيهم خمسة آلاف جرخي، وفيهم ثلاثون آلف مقدم ما بين دوقس، وقومص، وبطريق.
فرأى السلطان أن الإمهال للحشد والجمع مضر، فركب في نخبته وقال: أنا أحتسب نفسي عند الله، وهي إما السعادة بالشهادة، وإما النصر كما قال تعالى " ولينصرن الله من ينصره " ثم سار مرتباً جيشه قاصداً جموع الروم.
وكان ملك الروم قدم مقدماً في عشرين آلف مدرع من شجعان عسكره، ومعه صليبهم الأعظم، فوصل إلى خلاط، فنهب وسبى، فخرج إليه عسكر خلاط، ومعه صندق التركي الخارج إلى بلد حلب، في سنة اثنتين وستين على ما قدمنا ذكره فكسره صندق، وأسره، وصادف ذلك وصول السلطان، فأمر بجدع أنفه.
وعجل إنفاذ الصليب الذي كان في صحبته إلى نظام الملك، وأمره بتعجيل
إنفاذه إلى دار السلام مبشراً بالفتح، وتلاحق عسكر الروم، فنزلوا على خلاط محاصرين لها، ونزل الملك على منازكرد فسلموها إليه بالأمان خوفاً
من معرة جيوشه إن استولوا عليهم، وذلك في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
فلما كان يوم الأربعاء سير أهل منازكرد، وخرج بنفسه ليشيعهم وهو في جموعه وحشوده ووافق ذلك وصول العسكر السلطاني، ووقعت العين في العين، فحمل المسلمون حملة رجل واحد، فردوهم على أعقابهم.
وشرع أهل منازكرد يتسللون من بينهم فقتل الروم بعضهم، ونجا الباقون، وترك الروم طريقهم الذي كانوا سالكيه، وعاد ملكهم فنزل في مضاربه بين خلاط ومنازكرد، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده.
فلما أصبحوا بكرة الخميس وصل السلطان ألب أرسلان في بقية عساكره، فنزل على النهر، وملك الروم على موضع يعرف بالزهوة في مائتي آلف فارس، والسلطان في خمسة عشر ألف، فأرسل السلطان رسولاً حمله سؤالاً وضراعة، ومقصوده أن يكشف أمرهم، ويختبر حالهم ويقول لملك الروم:" إن كتت ترغب في الهدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها وكلنا الأمر إلى الله عز وجل ".
فظن الزومي أنه إنما أرسله عن ضرورة فأبى واستكبر، وأجاب بأني سوف أجيب عن هذا الرأي بالري، فغاظ السلطان جوابه، وانقطعت المراسلة بينهما.
وأقام الفريقان يوم الخميس على تعبئة الصفوف، فقال أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي فقيه السلطان وإمامه: " أنت تقاتل عن
دين الله الذي وعد بإظهاره على الأديان، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، والناس يدعون لك على المنابر في أقطار الأرض ".
فلما أصبحوا يوم الجمعة ركب السلطان بجموعه وركبت الروم فتواقفوا، فلما
حان وقت الزوال نزل السلطان عن فرسه، وأحكم مد حزامه، وتضرع بالدعاء إلى الله تعالى، ثم ركب وفرق أصحابه فرقاً كل فرقة منهم لها كمين، ثم استقبل بوجهه الحرب.
وحمل ملك الروم بجمعه، فاستطرد المسلمون بين أيديهم، واستجروا الروم إلى أن صار الكمين من ورائهم، ثم خرج الكمين من خلفهم، ورد المسلمون في وجوههم، فأتزل الله نصره، وكسرت الروم، وأسر الملك، واستولى المسلمون على عساكرهم، وغنموا ما لا يعد كثرة ولا يحصى عدداً وعدة.
وقيد الملك أسيراً إلى بين يدي السلطان، فأقامه بين يديه ومعه بازي وكلب صيد.
وكانت مع الروم ثلاثة آلاف عجلة تحمل الأثقال والمنجنيقات، وكان من جملتها منجنيق بثمانية أسهم تحمله مائة عجلة، ويمد فيه ألف ومائتا رجل، وزن حجره بالرطل الكبير قنطار، وحمل العسكر من أموالهم ما قدروا عليه.
وسقطت قيمة المتاع والسلاح والكراع، حتى بيعت اثنتا عشرة خوذة بسدس دينار، ولم يسلم من عسكر الروم إلا العسكر الذي كان محاصراً
خلاط، فلما بلغتهم الكسرة رحلوا عن البلد جافلين، فاتبعهم المسلمون وتخطفوا أطرافهم، فلم يلو أولهم على أخرهم.
فمن عجيب الإتفاق ما حكي: أنه كان لسعد الدولة كوهرائين مملوك أهداه لنظام الملك، فرده عليه فجعل يرغبه فيه، فقال نظام الملك: " وماذا عسى أن يكون من هذا المملوك، يأتينا بملك الروم أسيراياً، مستهزئاً به.
ثم أنسي هذا الحديث إلى أن كان في هذه الحادثة فاتفق وقوع ملك الروم في أمر ذلك الغلام، فخلع السلطان عليه، وبالغ في إكرامه، وحكمه في طلبه واقتراحه، فطلب بشارة غزنة، فكتب له بذلك.
ثم رحل السلطان إلى أذربيجان، والملك في قيده، فأحضره السلطان بين يديه، وسأله عن سبب خروجه وتعريضه نفسه وعسكره لهذا الأمر، فذكر أنه لم يرد إلا حلب، وكل ما جرى علي كان محمود السبب فيه والباعث عليه، فقال: