الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحب الحصن يستدعيه لمودة كانت بينهما، فوصل إليه.
ولما سمع قطب الدين والوزير جمال الدين، وزين الدين بالموصول، جمعوا العساكر، وعزموا على قصد سنجار وساروا إلى تل أعفر، فأشار الوزير جمال الدين بمداراته، وقال: إننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان، وجعلنا محلنا دونه، وهو فيعظمنا عند الفرنج، ويظهر أنه تبع لنا، ويقول: إن كنتم كما نحب وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل، وحينئذ يفعل بكم ويصنع، فإن هزمناه طمع فينا السلطان ويقول: إن الذي كانوا يعظمونه، ويخوفوننا به أضعف منهم، وقد هزموه، وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج، ويقولون: إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه، وبالجملة فهو إبن أتابك الكبير، وأشار بالصلح.
وسار إلى نور الدين بنفسه، فوفق بينهما على أن يسلم سنجار إلى قطب الدين، ويتسلم الرحبة، ويتسلم نور الدين بالشام جميعه، وقطب الدين بالجزيرة ما خلا الرها، فإنها لنور الدين.
انتصارات نور الدين وضم دمشق
وعاد نور الدين إلى الشام، وأخذ ما كان قد ادخره أبوه أتابك من الخزائن، وكانت كثيرة جداً.
فغزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الفرنج من ناحية أنطاكية، وقصد حصن حارم وهو للفرنج، فحصره، وخرب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى حصن إنب فحصره أيضاً.
فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم، وتلك الأعمال، وساروا إلى نور الدين ليرحلوه عن إنب، فلقيهم يوم الأربعاء حادي وعشرين من صفر، سنة أربع وأربعين وخمسمائة، واقتتلوا قتالاً عظيماً، وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم،
فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم جمع كثير، وأسر مثله.
وكان ممن قتل ذلك اليوم البرنس صاحب أنطاكية، وكان من عظماء الفرنج وأقويائهم. ويحكى عنه أنه كان يأخذ الركاب الحديد بيده، فيطبقه بيده الواحدة، وأنه مر يوماً وهو راكب حصاناً قويا تحت قنطرة فيها حلقة أو شيء مما يتعلق به، فتعلق بيديه وضم فخذيه على الحصان فمنعه الحركة.
فلما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند، وتزوجت أمه بابرنس آخر، ليدبر البلد إلى أن يكبر ابنها، وأقام معها بأنطاكية، فغزاهم نور الدين غزوة ثانية، فاجتمعوا ولقوه فهزمهم، وقتل منهم خلقاً وأسر كذلك، وأسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، واستقل بيمند بأنطاكية.
وفي ذلك يقول الشيخ أبو عبد الله القيسراني من قصيدة أولها:
هذي العزائم لا ما تدعي القضب
…
وذي المكارم لا ما قالت الكتب
صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها
…
براحة للمساعي دونها تعب
أغرت سيوفك بالأفرنج راجفة
…
فؤاد رومية الكبرى لها يحب
ضربت كبشهم منها بقاصمة
…
أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم
…
طهارة كل سيف عندها جنب
وقال ابن منير في ذلك:
صدم الصليب على صلابة عوده
…
فتفرقت أيدي سبا خشباته
وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة
…
بالروج مما قد جنت غدراته
تمشي القناة برأسه وهو الذي
…
نظمت مدار النيرين قناته
وسار نور الدين محمود إلى أفامية، في سنة خمس وأربعين، فالتجأ الفرنج إلى حصنها فقاتله، واجتمع الفرنج وساروا إليه ليرحلوه عنه، فوجدوه قد ملكه وملأه من
الرجال والذخائر، فسار في طلبهم، فعدلوا عن طريقه، ودخلوا بلادهم.
وجمع نور الدين العساكر وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي ليملكها وكان جوسلين من أشجع الفرنج وأسدهم رأياً، فجمع الفرنج وأكثر، وسار إلى نور الدين والتقيا، وفانهرم المسلمون وقتل منهم وأسر.
وكان سلاحدار نور الدين ممن أسر، فأخذ جوسلين سلاحه، فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك. فعظم ذلك على نور الدين، وهجر الراحة إلى أن يأخذ بثأره، وجعل يفكر في حيلة يحتال بها على جوسلين، وعلم أنه إن قصده احتمى في حصونه.
فأحضر أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن ظفروا بجوسلين، فجعلوا عليه العيون، فخرج إلى الصيد فظفر به طائفة من التركمان، فصانعهم على مال يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا أحضر المال، وأرسل في إحضاره.
فمضى بعض التركمان إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وكان ابن داية نور الدين، واستنابه في حلب، وسلم أمورها إليه، فأحسن الولاية فيها والتدبير، فأعلم ذلك التركماني ابن الداية بصورة الحال، فسير مجد الدين معه عسكراً، فكبسوا أولئك التركمان، وأخذوا جوسلين أسيراً، وأحضروه إلى ابن الداية، في محرم هذه السنة.
فسار نور الدين عند ذلك إلى قلاع جوسلين، ففتح عزاز بعد الحصار، في
ثامن عشر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وفتح تل باشر، وتل خالد وفتح عين تاب سنة خمسين، وفتح قورس والراوندان وبرج الرصاص، وحصن البيرة وكفرسود ومرعش ونهر الجوز.
وتجمع الفرنج وساروا إليه وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن فتحها، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فلما قربوا منه رجع إليهم، ولقيهم عند دلوك، فاقتتلوا فانهرم الفرنج، وقتل منهم وأسر كثير، وعاد إلى دلوك ففتحها.
وأما تل باشر فإنه تسلمها منهم بعد فتحه دمشق، لأنهم لما علموا أنه فتح دمشق، وأنه يقصدهم ولا طاقة لهم به راسلوه، وبذلوا له تسليمها إليه، فسير إليهم الأمير حسان صاحب منبج لقربها من منبج فتسلمها منهم، وحصنها.
وكان فتحه دمشق في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة لأن الفرنج أخذوا عسقلان من المصريين في سنة ثمان وأربعين، ولم يكن له طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان.
وطمع الفرنج في دمشق، وجعلوا عليها قطيعة يأخذونها منهم في كل سنة، فخاف نور الدين أن يملكها الفرنج، فاحتال في أخذها لعلمه أن أخذها بالقهر يصعب
لأنه متى نارلها راسل صاحبها الفرنج مستنجداً بهم، وأعانوه خوفاً من نور الدين أن يملكها فيقوى بها عليهم.
فراسل مجير الدين أبق بن محمد بن محمد بن بوري صاحبها، واستماله وهاداه، وأظهر له المودة حتى وثق به، فكان يقول له في بعض الأوقات: " إن فلانا قد كاتبني في تسليم دمشق يعني بعض أمراء مجير الدين فكان يبعد ذلك عنه، ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده أحد من الأمراء قدم أميراً يقال له عطاء بن حفاظ الخادم، وكان شجاعاً وفوض إليه أمور دولته، فكان نور الدين لا يتمكن من أخذ دمشق منه، فقبض عليه مجير الدين وقتله.
فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب أهلها واستمالهم، وكان الناس يميلون إليه، لما هو عليه من العدل والديانة والإحسان، فوعدوه بالتسليم إليه. فلما حصر دمشق أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم، لينجدوه ويرحلوا نور الدين عنه، فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم لذلك.
فتسلم نور الدين دمشق، وخرج الفرنج وقد قضي الأمر فعادوا خائبين، وسلمها إليه أهلها من باب شرقي، والتجأ مجير الدين إلى القلعة، فراسله وبذل له عوضاً عنها حمص، وغيرها، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم أنه راسل أهل دمشق، فعلم نور الدين، فخاف منه، فأخذ منه حمص، وعوضه ببالس، فلم يرض بذلك، وسار إلى بغداد فمات بها.
وسار نور الدين إلى حارم، وهي لبيمند صاحب أنطاكية، وحصرها في سنة إحدى وخمسين، وضيق على أهلها، فتجمع الفرنج وعزموا على قصده فأرسل والي